الهرم المقلوب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 الهرم المقلوب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

الهرم المقلوب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

لقد جبل الإنسان على أن يطلب لنفسه دائما الحد الأقصى من الأشياء, ولولا روادع الدين والضمير والمسئولية والواجب الإنساني العام والاستعداد الأخلاقي لوضع سعادة الآخرين في الاعتبار حين يطلب الإنسان سعادته لما حال بين النفس وبين ما ترغبه حائل ولتحولت الدنيا إلى غابة، ترتع فيها الوحوش الآدمية وتتصارع حول شهواتها ورغباتها وأهوائها.

عبد الوهاب مطاوع

بريد الجمعة


مشكلتي لم يعرض عليك مثلها من قبل لأنها نظرية جديدة من نوعها لوضع مقلوب حتى أنني وأنا صاحبة المشكلة لا أستسيغها حتى الآن ولو سمعت بها من أحد لما صدقتها .. فأنا سيده شابة اقترب من الثلاثين من عمري .. جميله كما يقولون وعلى درجه عالية من التعليم والثقافة وحاصلة على الماجستير في أحد التخصصات النظرية المهمة، ومتزوجة من شاب وسيم عمره 35 عاما يعمل عملا مرموقا بهيئة استثماريه مصرية أجنبيه وممتاز خلقا وعلما, ولدينا طفلان صغيران ودخلي من وظيفتي كبير ودخله من عمله أكبر ونحن نعيش حياة ميسورة لا نحتاج فيها لشئ .. وفي منتهى السعادة منذ تزوجنا قبل سبع سنوات .

ومنذ نحو السنة بدأت ألاحظ على زوجي تغيرا غريبا يبدو معه دائما شاردا وواجما وذاهلا عنا وسألته عن أسباب تغيره مرارا وتكرارا دون أن اظفر منه بإجابة شافية, وشعرت بإحساس الزوجة بأن في الأمر شيئا كبيرا يتناقض مع شخصيته كزوج مثالي منذ أن عرفته, فضغطت عليه ذات ليلة ورحت استجوبه طوال الليل لأعرف ما يخفيه عني فإذا به يحكي لي أنه يحب امرأة أخرى ويريد أن يتزوجها وبلغ تأثره قمته فانسابت دموعه بغزاره ودفن وجهه في صدري وراح ينهنه بالبكاء كالطفل الصغير! ونزل علي الخبر كالصاعقة واحترت بين صدمتي فيه كزوجة وامرأة وبين إشفاقي عليه مما أراه منه من ارتجاف وبكاء ودموع كالمطر! .. وقررت في تلك اللحظة أن انحي القلب جانبا لفترة مؤقتة وأن استخدم العقل معه لكي اعرف أبعاد هذه الكارثة غير المتوقعة وسألته عن هذه المرأة الأخرى وهل هي آنسة أم مطلقة, فإذا به يضاعف من دهشتي وذهولي بقوله لي أنها أرملة توفي عنها زوجها منذ خمس سنوات, وان المشكلة التي يواجهها هي أنها ترفض الزواج منه! .. ووجدتني ارفع رأسه بعيدا عني بعنف واصرخ فيه كيف يجرؤ على أن يقول لي ذلك, وماذا يجد في هذه المرأة ولا يجده لدي وهل هي جميلة إلى هذا الحد الذي يفقد معه عقله ويبكي ويولول من أجلها كالصغار, فإذا به يجيبني بأنه يحبها بجنون ولا يستطيع الاستغناء عنها .. ويحبني أيضا بجنون ولا يستطيع الابتعاد عني .. وأن بعده عن أحدانا لن يمثل له سوى الموت وربت على كتفه وحاولت أن أتماسك بقدر المستطاع وسألته عن عمرها فإذا به يجيبني بأنها في الخمسين من العمر! ولم استطع الاحتمال أكثر من ذلك امرأة في الخمسين من العمر؟ وتحب رجلا في الخامسة والثلاثين ويحبها حتى يبكي من حبها كالأطفال ويعرض عليها الزواج فترفضه برغم أنه متزوج وله طفلان؟

 

ماذا جرى في الدنيا وماذا جرى لعقول بعض الرجال والنساء يا سيدي ؟

لقد قررت أن أرى غريمتي لأعرف ماذا بها مما لا يتوافر في حتى سلبت زوجي عقله ورشده إلى هذا الحد, وذهبت إلى تلك الهيئة الاستثمارية التي تعمل بها هذه السيدة مديرة لإحدى إداراتها ورايتها بدون أن اكلمها أو أتحدث معها فرأيت أمامي امرأة ناضجة بها مسحه من جمال قديم أنيقة للغاية وشخصيتها قوية وصارمة ولا تفارق الابتسامة شفتيها.. وسمعت صوتها فوجدتها تصطنع الأنوثة الحارة الجذابة.. وخرجت من الهيئة والدموع هذه المرة في عيني أنا واشعر شعورا قويا بان هذه المرأة سوف تدمر بيتي وتستولى على زوجي .. هذه هي مشكلتي يا سيدي .. ولقد جرت العادة وحكم الطبيعة أن يكون الرجل أكبر من المرأة, أما أن تكون المرأة اكبر من الرجل بخمسة عشر عاما وتتأبى عليه وتتدلل فمبلغ علمي في ذلك أنه ليس سوى أسلوب جديد للسحب والجرجرة النسائية, ولقد وقع زوجي في الفخ وأطبقت عليه شباكه, وليس أمامي الآن سوى طريقين لا ثالث لهما, الأول هو أن الفظ هذا الزوج الضعيف التافه وأعيش لأربي الطفلين وحدي معتمده في ذلك على نفسي.




 ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

لا يتمثل الوضع المقلوب فقط في أن يقع شاب في الخامسة والثلاثين من عمره في هوى امرأة في الخمسين من عمرها فيبكي وينتحب ويضرب رأسه في الحائط من وطأة حبها ورفضها للاقتران به, ولا فقط في أن يقدم على ذلك وهو زوج لشابه جميلة لا ينكر عليها شيئا وأب لطفلين بريئين ورب لأسرة صغيرة سعيدة, وإنما أيضا وهو الأغرب من كل ذلك أن يفجر هذا الزوج الشاب المشكلة ويعترف بها لزوجته وهو يبكي وينتحب ثم يكتفي بذلك وكأنما قد أزاح عن صدره حجرا ثقيلا ثم لا يفعل بعد ذلك شيئا ايجابيا لحل هذه المشكلة وإنقاذ نفسه وزوجته وأسرته من تداعياتها, وكأنما قد اكتفى بتصدير المشكلة إلى زوجته أو باقتسامها معها ثم واصل حيرته وتمزقه وتخبطه بغير أن يبذل أي جهد لمغالبة نفسه أو ردها عن غيها إلى أن يبرأ من هذا الغزو العاطفي الذي دهمه فافقده رشده وثباته, وبدون حتى أن يحسم تردده وتمزقه وحيرته بين المرأتين اللتين تتنازعان قلبه ويزعم أنه يحب كلتيهما بجنون .

 

إن هذا هو الوضع المقلوب حقا وصدقا ولأنك تستطيع أن تقلب هرما لكنك لا تستطيع أن تجلس عليه وإلا انهار بك إلى أحد الجوانب كما يقول لنا الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون, فإن زوجك يا سيدتي لا يستطيع أن يجلس على هذا الهرم المقلوب طويلا كما يريد الآن أن يفعل حتى ولو كان يخدع نفسه ويتصور أنه يستطيع الجلوس فوقه بزعمه لك أنه يحب هذه المرأة الأخرى بجنون ولا يستطيع البعد عنها ويحبك أنت كذلك بجنون ولا يستطيع البعد عنك وإلا كان الموت!

إننا إذا كنا نعترف بالضعف البشري ونسلم به ونرجو لصاحبه ألا يطول استسلامه له حتى لا تكون الخسائر فادحة, فإننا لا نستطيع في نفس الوقت أن نعترف لمن يعانيه بحقه في ليّ الحقائق وتلبيس الحق بالباطل بهدف أن يفوز بكل شئ, وحكاية حبه الجنوني لكل من زوجته وهذه المرأة نوع آخر من قلب الحقائق والجمع بين الأضداد لكي تتماشى في النهاية مع هوى النفس الضعيفة ورغائبها وليس من الغريب أن يضعف الإنسان ذات مرة .. فلقد خُلق الإنسان ضعيفا أمام أهوائه ورغائبه, لكن الغريب حقا هو أن يستسلم لهذا الضعف بلا أية مقاومة من جانبه ولا أية محاولة لرد النفس عن أهوائها والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا تُرد إلى قليل تقنع وهذا صحيح ومعروف للجميع فلو ترك كل إنسان لنفسه لما أفلتت من يده متعة واحدة من متع القلب والنفس بغير أن يطلبها ويرى نفسه جديرا بنيلها مهما كان اثر ذلك على غيره, ولقد جبل الإنسان على أن يطلب لنفسه دائما الحد الأقصى من الأشياء, ولولا روادع الدين والضمير والمسئولية والواجب الإنساني العام والاستعداد الأخلاقي لوضع سعادة الآخرين في الاعتبار حين يطلب الإنسان سعادته لما حال بين النفس وبين ما ترغبه حائل ولتحولت الدنيا إلى غابة, ترتع فيها الوحوش الآدمية وتتصارع حول شهواتها ورغباتها وأهوائها, ولو ترك زوجك نفسه لأهوائها لما أرضاه شئ سوى أن تسلمي له بحقه في أن يحب هذه المرأة الأخرى بجنون وسوى أن تتنازل هي فتقبل الارتباط به وهو زوج وأب برغم وضعه العائلي, وبرغم فارق السن بينهما وان تسعدي أنت بهذا الارتباط السعيد وتظلي بالنسبة له نفس الزوجة وشريكة الحياة ونفس الأم لأطفاله, ولم لا؟ وهذا هو الوضع الأمثل والأفضل بالنسبة له, لكنه لأن الإنسان لا يستطيع الجلوس على الهرم المقلوب دائما فإن زوجك مطالب بأن يعين نفسه على الشفاء من هذه اللفحة التي زلزلت كيانه واستسلم لها بضعفه وعجزه عن المقاومة ونكوصه عن بذل الجهد الضروري لمغالبه هوى النفس وتحمل العناء المستحق في سبيل ذلك, فإن لم يرغب في تحمل هذا العناء فليعترف بالحقائق التي لا سبيل لإنكارها.. وليحسم أمره واختياره بين زوجته وبين من تتأبى عليه وترفض القبول به ربما احتراما لوضعها العائلي والاجتماعي.. وربما تعففا عن اغتصاب زوج لأخرى وأب لأطفال .. وربما أيضا استشعارا لفارق السن الكبير بينهما وخجلا منه فإذا كان عاجزا عن الحسم والاختيار فليطلب منك إعانته على اجتياز محنته واعدا إياك بتعويضك عما عرضك له من آلام في قادم الأيام, أما أن يطلب منك فقط القبول بالأمر الواقع مع استمراره فيه ودون أن يخطو أية خطوه لمقاومته والنجاة منه فليس ذلك من العدل أو الحق في شئ .

لقد قال الكاتب المسرحي الأمريكي تنيسي وليامز في رواية خريف امرأة أمريكية أن أسوأ ما في الحب بين شاب صغير وامرأة تكبره في السن انه لا مكان للكرامة فيه ولقد فهم الجميع عن حق من هذه الكلمة الحكيمة أن المرأة حين تحب شابا اصغر منها في السن فإنها قد تبذل غالبا كرامتها للاحتفاظ به, لكن قصه زوجك مع هذه السيدة تضيف إلى معاني هذه العبارة معنى جديدا ربما لم يخطر بذهن كاتبها وهو أن الشاب أيضا قد يبذل كرامته في حب امرأة تكبره في السن إذا ابتلي بحبها وكان ضعيفا لا يقاوم ضعفه معها وكان إحساسها هي بفارق العمر والوضع الاجتماعي عاليا, أما الطريقان اللذان تقولين انه ليس أمامك طريق ثالث سواهما, فالحق أن هناك دائما إلى جوارهما ذلك الطريق الثالث الذي ينتهجه راغبا أو مضطرا من لا يريد أن يهدم عشه ويبدد أمان أطفاله وهو طريق الجهاد لاسترداد شريك الحياة التائه في بحر الظلمات والعودة به سالما بعد العناء إلى شاطئ الأمان ويتطلب اختيار هذا الطريق ألا يسلم الطرف المتضرر لشريك الحياة بالأمر الواقع الذي يريد فرضه عليه وان يظل على رفضه النفسي له مع استمرار جهوده ومحاولاته لإنقاذ شريك الحياة من نفسه ومن أهوائه والتعامل معه خلال ذلك برفق الأمهات وحكمتهن إلى أن يستعيد رشده ويكتشف خطر الهاوية التي يمضي إليها مع إشعاره دائما بأن لكل اختيار ثمنه في النهاية وتبعاته, وأنه إذا اختار هوى النفس وحده فليوطن هذه النفس أيضا علي أنها سوف تفقد الأمان والاستقرار اللذين كانت تتمتع بها في ظلال زوجه محبة وأطفال أبرياء ذلك انه إذا كان لا يستطيع احد إرغامه على اختيار شريكة الحياة وسعادة أطفاله دون هوى في نفسه فإن أحدا في نفس الوقت لا يستطيع إرغام هذه الشريكة على أن تعترف له بحقه في الجمع بين الحسنيين والتمتع بكل متع القلب والعقل والاستقرار, إذا هو اختار الطريق الآخر وأمعن في السير فيه إلى ما لا نهاية, ومهما تبذل شريكة الحياة من جهد أو عناء في سبيل ذلك فإن نبل الغاية التي يسعى إليها يبرر له هذا العناء ويهونه عليه.. ومع أن النجاح ليس مضمون النتائج في كل الأحوال فإن احتمال النجاح يسبغ على الكفاح نبلا خاصا ويجعله جديرا بما نبذله من جهد لتحقيقه حتى ولم يكلل كفاحنا في النهاية ببلوغ الغاية كما يقول لنا عالم النفس وليم جيمس .
وأية غاية يا سيدتي تستحق الكفاح من أجلها أنبل من إنقاذ طفلين من التمزق بين أبوين منفصلين ومن التعاسة وافتقاد الأمان؟ .

 

                ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1994

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات