دموع القلب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1997
لو خير الإنسان بين أن يصاب فى
نفسه، أو يصاب فى ولده، لأختار بلا تردد أهون الضررين عليه وافتدى بنفسه ثمرة
قلبه.
عبد الوهاب مطاوع
أنا سيدة في الثالثة والخمسين من عمري ، تخرجت في
كلية عملية، وأعمل بشركة مرموقة، وتزوجت منذ 32 عاما من طبيب من أقاربي، وقد تم
الزواج بالطريقة التقليدية، ولكنني أحببت زوجي خلال فترة الخطبة، لما لمسته فيه من
أخلاق كريمة وطباع مريحة، وحب يفوق الوصف لي .
والحمد لله .. فلقد مضت رحلة العمر بحلوها ومرها،
ولم تتغير هذه الطباع ولا هذه الصفات حتى هذه اللحظة، ويشهد الله أنى أحبه وأفضله
على نفسي، و لم أكن أرجو من الحياة أفضل منه .. وقد واصل هو تقدمه خلال رحلة العمر
في مجاله المهني، حتى أحيل للمعاش منذ 3 سنوات، وهو مدير لإحدى مستشفيات الأقاليم
الكبرى .
أما " المشكلة " ولابد من مشكلة لكل من
يكتب إليك في بريد الجمعة .. فهي أنني بعد زواجي بعام، أنجبت أول أبنائي، و كانت
طفلة جميلة، شاءت الأقدار أن يعطيها طبيب أطفال وعمرها 9 شهور دواء مهدئا تناولته
بانتظام لمدة عامين ونصف العام، ظنا منه أنها تعانى الصرع، لتعرضها لبعض التشنجات،
وهذه الفترة هي فترة تكوين المخ، كما يقول لي زوجي، و قد ثبت "فيما بعد"
أن ما كانت تتعرض له من تشنجات، وهى طفلة وليدة، لم يكن يرجع إلى الصرع، وإنما إلى
الحرارة الداخلية غير الظاهرة للجسم، بسبب احتقان اللوز، وحين اكتشفنا ذلك، أجرينا
لها، جراحة لاستئصالها، وعمرها 4سنوات .. فلم تعاودها التشنجات منذ ذلك الحين .
ولكن ما تناولته من الدواء المهدئ، أورثها نوعا من
بطء التفكير، فوصلت فى دراستها إلى الشهادة الإعدادية بصعوبة بالغة، وعجزت عن نيل
الشهادة، وتوقفت عن التعليم، وتقبلنا نحن الأمر بواقعية، ورضا بما قضيت به
المقادير .
وبذلت مع ابنتي هذه جهدا لا تتخيله، حتى أصبحت
فتاة يعتمد عليها في أعمال المنزل كربة بيت، وفى مجالات الحياة العائلية الأخرى،
حتى لا تشعر هي بأي نقص بالنسبة لغيرها من الفتيات، ولن أشكو لك ما شعرت به داخليا
طوال هذه السنوات، فهو أمر بيني و بين الله سبحانه وتعالى .
وبلغت ابنتي الحادية والعشرين من عمرها، وهى
بالمناسبة فتاة جميلة الشكل، حلوة الطباع, وطيبة لأقصى درجة تتخيلها، فتقدم
لخطبتها أحد أقاربنا من الشباب، و صارحته أنا وزوجي بأن ابنتنا بسيطة في كل شىء في
تفكيرها وفى تصرفاتها . فأجابنا بأن هذا بالضبط هو ما يريده فيمن يتزوجها، حيث لا
يريد سوى إنسانة بسيطة طيبة القلب يحبها وتحبه بإخلاص، وسعدنا بما قال، وتمت
الخطبة في أمان، واستمرت حوالي السنة ، وحرصت خلالها على أن أتيح لهما الفرصة
الكافية، لأن يجلسا معا كثيرا شبه منفردين في بيتنا، و أن يخرجا معا أيضا كثيرا
ليتحقق التفاهم بينهما ويتعرف هو على كل جوانب شخصيتها ..
وقد تسألني هنا : كيف وافقت على زواج الأقارب مرة
أخرى، وقد تتكرر مشاكله الوراثية، كما قد يخطر لك أن تكون حالة ابنتي من أثر هذه
العوامل الوراثية، ولكني أقول لك إن زوجي و هو طبيب، لا يرجع حالة ابنتي إلى زواج
الأقارب، وإنما لما تعرضت له في طفولتها، كما أن هذا الشاب كان فرصة طيبة لابنتنا،
لأنها لا تخرج من البيت إلا معنا، ولا صلات لها ولا وظيفة لها، ولا شهادة دراسية،
وفرصها في الزواج قليلة بالنسبة لغيرها، فكان طبيعيا أن نرحب بهذا الشاب من
أقاربنا .. وأن نتغاضى عن احتمالات المشاكل الوراثية لزواج الأقارب .
وتم الزواج بلا مشاكل .. فإذا بابنتي تصدم في
زوجها صدمة العمر، ويتبين لها ولنا أنه لا يصلح كرجل للزواج، و أنه ما اختارها من
بين كل الفتيات، إلا لظنه بها أنها ساذجة ولن تفهم حالته، ولن تكشف أمره، وحين
تبين له غير ذلك أساء إليها قولا وعملا، و اضطررنا إلى طلاقها منه، بعد أربعين
يوما فقط من الزواج، وهى مازالت عذراء في أغلب الظن، و تجرعنا الألم النفسي مضاعفا
لذلك، ولما تبين لنا – فيما بعد – من أن ذلك الشاب لم يكن يخلو أيضا من أطماع
مادية فينا، كأسرة ميسورة الحال .
ولندع مشكلة ابنتي الحبيبة هذه جانبا بعض الوقت،
لأروي لك عن شقيقها الذي يليها في السن، فلقد أنجبته بعد أخته بخمس سنوات، وجاء
إلى الحياة طفلا طبيعيا، فرحنا به، و تعلقت به آمالنا، ثم أجرينا له، وهو في
الثالثة من عمره عملية استئصال اللوز هو الآخر ، فبقى بعد الجراحة لفترة طويلة، لا
يفيق من تأثير البنج، و أدركنا أنه قد أخذ جرعة بنج زائدة، و بعد بدأت تظهر عليه
هو الأخر آثار التأخر العقلي، ولم يستطع مواصلة الدراسة لأكثر من الشهادة
الابتدائية، وحصل عليها بصعوبة أشد، و فصل من السنة الأولى الإعدادية .
ووجدت نفسي أمام مأساة أخرى، أشد إيلاما، وأشد
صعوبة، إذ ماذا أفعل معه، وهو فتى وليس فتاة كأخته . و كيف يواجه الحياة بلا تعليم
ولا شهادة، وهو إن لم يجد ما يفعله ويشغل به وقته وطاقته .. فقد تنفتح أمامه أبواب
الانحراف .
وفكرت أنا وزوجي فيما نفعل، واتفق رأينا على أن
نتقبل الأمر الواقع بالرضا نفسه الذى تقبلنا به ظروف أخته، وأن أتفرغ أنا بضع
سنوات لإعداد هذا الفتى لمواجهة الحياة، فنفذت التزامي على الفور، و حصلت على
إجازة من عملي دون مرتب، و بدأت مع ابني هذا رحلة الطواف بمراكز التدريب الصناعي
بالشركات، على أمل تعيينه في إحداها .
ومررنا معا بمكاتب التوجيه النفسي، ومكاتب القوى
العاملة للمعاقين، حتى تمكنت بفضل الله من تعيينه بالشركة، التي أعمل بها على آلة
لتصوير المستندات، و دفعته في الوقت نفسه لممارسة الرياضة و التفوق فيها، حتى
تمكنت بحمد الله من الحصول على ميداليتين فضيتين في الدورة الأولمبية للمعاقين، التي
أقيمت بالقاهرة منذ 5 سنوات، و صقلت تجربة العمل و الرياضة و البطولة شخصيته ..
وهو بالمناسبة محبوب جدا من زملائه، و من كل أعضاء
النادي، الذي نتردد عليه، ويقول عنه الجميع إنه طيب وناصح وأخلاقه عالية، كما أنه
نظيف جدا فى ملابسه وفى سلوكه، لكن الناحية الحسابية عنده ضعيفة، ولهذا فهو يقبض
مرتبه و يعطيه لى لأدخره له وأترك له بضعة جنيهات فى محفظته، يتصرف فيها كما يشاء،
وكلما نفدت أعطيته غيرها .. و هكذا .
ورغم مروري بكل ما رويت لك عنه من هذه الظروف
النفسية الأليمة، فلم يهتز إيماني بالله لحظة واحدة، و لم أفقد الرضا بكل ما
حملته إلينا أقدارنا، واعتقدت دائما – ومازلت أعتقد – بأن الله سبحانه و تعالى قد
وهبني هذين الملاكين، ليكونا عكازي فى الحياة ، وطريقي إلى الجنة بإذن الله .
و بسبب هذا الرضا بالواقع والقبول به، وهبني الله
الطفلة الثالثة، التي حملت بها، رغم معارضة أهلي الشديدة، و جاءت بفضل دعائي لربى
طفلة سوية، حنونة تكاد تكون الآن أما ثانية لشقيقها من بعدى، وقد بلغت التاسعة
عشرة من عمرها، وتدرس بكلية مرموقة، وتتعاون معي في توجيه أخويها ورعايتها بحب
وحنان .
هذه يا سيدي ظروفي، التي أكتب لك عنها .. و قد
اختزلت منها الكثير والكثير، ولم أحك لك إلا أقل القليل عن معاناتي مع ابنتي وابني
هذين، حتى تمكنت – بفضل الله – من أن أصل بهما إلى المستوى الاجتماعي اللائق بهما
سلوكا وتفكيرا ومظهرا، كما لم أحك لك أيضا عما تعرضت له من بعض المواقف، التي كان
قلبي فيها يعتصره الألم، ولا يدرى بى أحد، لأن دموع القلب لا ترى بالعين المجردة،
وإن كانت أشد قسوة من دموع العين .
ولكاتبة الرسالة أقول :
لو خير الإنسان بين أن يصاب في نفسه، أو يصاب في
ولده، لاختار بلا تردد أهون الضررين عليه وافتدى بنفسه ثمرة قلبه . ولهذا .. فإنى
أفهم جيدا يا سيدتي عمق آلامك .. و مشروعية أمالك بالنسبة لهذين الملكين، الذين
جاهدت فيهما جهاد الأبطال والموعودين بجنات النعيم، بإذن ربهم، إن شاء الله .
أما وأنهما ملكان يسعيان فى الأرض، فلاشك فى ذلك
ولا جدال، إذ لا مراء فى أنه كلما اقترب الإنسان من فطرته، التى فطره الله عليها ،
كان أقل خبرة بشرور الحياة، و أكثر بعدا عن الالتواء و الخداع .. وزيف المشاعر .
حتى لقد قال الأديب الفرنسى أندريه جيد فى روايته
جيد فى روايته الشهيرة " السيمفونية الريفية " إن من فقد بعض حواسه، قد
يكون أكثر سعادة من الآخرين، لأنه لن يدرك كل صور القبح و الشر فى الحياة، ولن يسمح
له خياله بأن يتمثلها ! ويقلدها و يتعامل بها مع الآخرين .
ولعل ذلك يفسر لك ما تلمسينه من طيبة هذين الابنين
و فرط حنانهما بك وبالجميع، وبراءة مشاعرهما وتسامحهما مع الآخرين ومع الحياة بصفة
عامة .
فإذا كانت ابنتك قد صادفت حظا عاثرا فى زواجها
الأول، فلقد كان من المؤلم حقا أن يستغل " الأصحاء " ظروف التعساء،
ليعوضوا فيهم نقصهم، كأنما لم يكفهم ما امتحنتهم بهم أقدارهم ...
ولكن ماذا نقول عمن لا يتورع عن استخدام تفوقه
العقلي فى الشر، فى إيذاء من لا يعرفون كيف يحمون أنفسهم من شرور أهل المكر و
الالتواء و الخداع ؟
غير أن الحياة لا تخلو أبدا ممن يرعون الله فى
سلوكهم مع الآخرين ، ويؤمنون دائما بأنهم إذا لم يكونا يرونه .. فإنه يراهم
سبحانه، ولا شك أن كثيرين وكثيرات قد يجدون فى ابنتك الشابة وابنك المحبوب هذا
بغيتهم، وما يحقق لهم آمالهم فى الارتباط بشريك، يتعامل مع الحياة بقلب مفطور على
حب الآخرين، وتصور الخير فيهم .. فإن افتقد مثل هذا الشريك بعض المقومات الأخرى
كالقدرة الحسابية مثلا، أو حسن التصرف الاقتصادي، فما أهون أن يعوض من يختار النقص
بخبرته هو وقدرته .. وما أصعب أن يعوض الإنسان فطرة القلب البريء والحب الصادق
والعشرة الطيبة بأي شىء آخر، إذا افتقدهما في شريك الحياة .
وأما الاحتمالات الوراثية ، فما أسهل قطع الشك
باليقين فيها، عن طريق اختبارات العوامل الوراثية المتاحة لكل من يريد .
شىء واحد فقط، أريد أتوقف عنده فى رسالتك يا سيدتي،
وهو رجاؤك ألا يكون من يتقدم إلى ابنتك مدفوعا إلى ذلك بدافع ذلك الشقة أو
المساعدة المادية، وأنا معك فى ذلك، و لكن مع تعديل طفيف، هو ألا يكون مدفوعا إلى
ذلك بهذين الدافعين، " وحدهما " ، وأن نحكم نحن على مؤهلاته الأخلاقية
والعائلية الأخرى بعد التسليم نفسيا بقبول هذا الهامش من الدوافع المادية، فيمن يتقدمون
إلينا، إذ ماذا يعيبنا – في مثل هذه الظروف الإنسانية – في أن نعترف بهذا الهامش،
وفى ألا ننكره على الآخرين، و ألا نحكم به وحده على صدق رغبتهم فى رفقة الحياة
الآمنة مع أعزائنا، أو حتى ندين به وحده أخلاقياتهم .. بغير أن نلتمس لهم بعض
العذر .. فيه من ظروفهم و من قسوة الحياة على الجميع، فالمهم أولا وأخيرا هو ألا
يتعارض هذا الدافع المشروع، مع إخلاص الرغبة فى رفقة الحياة الآمنة مع أعزائنا ..
ولا مع حسن العشرة معهم والرفق بهم .
ومن الأمانة مع النفس أن نعترف بهذه الدوافع
كدوافع مساعدة، وليست وحيدة لمثل هذا الارتباط، الذى قد يقدم الحل العادل لمشاكل
الطرفين، وقد يكون بداية موفقة لرحلة هادئة وسعيدة فى الحياة .
وليت كل من يواجهون مثل هذه الظروف الخاصة، بل وكل
من يعانون مشكلة تأخر الزواج يتعاملون مع مشاكلهم بهذه النظرة الواقعية، لكيلا
يضاعفوا من تعقيدها بالنسبة إليهم، حتى ولو لم تكن السعادة المثلى التى يطلبونها
.. أو يرون أنفسهم جديرين بها ..
إذ ماذا يمنع أن يكون من مميزات الإنسان، التى
تغرى به الآخرين ، إلى جانب مزاياه الأهم ، قدرته على المساعدة فى حل مشكلة الزواج
المادية، ماذا يعيب الإنسان فى ذلك إن هو فعل .. ولماذا يصر البعض على أن
يصعبوا على أنفسهم مشاكلهم بإصرارهم على أن يطلبوا لأنفسهم " الأحسن "
و" الأفضل " وحده ..
وفى الإمكان أن ينالوا " الحسن "، و
" ما لا بأس به " بديلا للخواء والعدم و الانتظار إلى مالا نهاية ؟
لقد قال بعض الحكماء إن الشيطان إذا أن يضل إنسانا
فإنه يحضه على طلب " الأحسن "، ويوسوس له دائما ألا يقبل بغيره، لكى
يكبده مشقة طلبه، بدلا من أن يدعه يحصل على " الحسن " و" المقبول
" و" الممكن " فيجد نفسه بعد حين فى موضع أفضل قليلا أو كثيرا، مما
كان عليه، وهو متجمد عند موقف الانتظار اللا نهائي طلبا للأحسن .. وليس يعنى ذلك
أبدا أن كل من سوف يتقدمون إلينا ، لن يحركهم لمثل هذا الأمر إلا الدوافع المادية
وحدها .. وإنما يعنى فقط ألا ننكر نحن على أحد أن تكون مثل هذه الدوافع فى تقديره،
وهو يقترب منا إلى جانب المزايا والمؤهلات الأخرى، كما يعني أيضا يا سيدتي أنك قد تعاملت
مع المشكلة كلها من البداية بواقعية، تستحق التقدير وبشجاعة نفسية تدعو للاحترام،
ولن يشق أن تواصلي التعامل مع المشكلة بهذه النظرة الواقعية نفسها إلى أن تجد
حلولها السعيدة و المرضية لك و لأسرتك بإذن الله و السلام .
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1997
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر