موعد مع السعادة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001
أنا طبيبة وأم لطفلين وفي
الثانية والأربعين من العمر, وأنا الابنة الصغرى بين خمس أخوات لأب كان يعمل في
التجارة يرحمه الله وأم ربة بيت أطال الله عمرها وجميعنا متزوجات ونعيش في إحدى
المدن الساحلية .. ومنذ نعومة أظافري نشأت طفلة جميلة ومدللة من الجميع, وحين
بلغت السادسة عشرة أصبحت فتاة باهرة الجمال, أعرف واجباتي تجاه ربي وأبي وأمي
وجميع الناس, ومنذ هذه السن المبكرة بدأ الخطاب يتوافدون على بيتنا طالبين
الزواج مني ولكن رفضتهم جميعا, حيث بدأت تنمو في داخلي مشاعر كراهية نحو كل
الرجال, لأني منذ وعيت للحياة وجدت والدي يعامل أمي الطيبة معاملة فظة وسيئة,
فلا يتورع عن إهانتها أمام بناته وأمام الغرباء والجيران, ثم التحقت بكلية الطب
لأجدني أعيش قصة حب مع أحد أساتذتي بالجامعة وهو رجل متزوج وله أبناء وطبيب ناجح,
وحاولت معه بشتى الطرق والوسائل أن نتوج حبنا هذا بالزواج بالرغم من معارضة الجميع
من أهلي وأهله وأهل زوجته, فباءت كل محاولاتي بالفشل ولم يتم مشروع الزواج وترك
هذا الفشل في نفسي إحساسا عميقا بالمهانة وخيبة الأمل, بل والضياع ووجدتني أتهم
حبيبي بأنه إنسان ضعيف الإرادة وخاضع لزوجته, مما زاد معه كرهي لكل الرجال,
وولدت في داخلي نزعة قوية للانتقام منهم لأن متاعبي النفسية كان سببها رجلان
أحببتهما من كل قلبي وهما والدي, وحبيبي, وقد أجج هذه المشاعر عندي كذلك أن
صديقة من أقرب صديقاتي إلي كانت دائمة الشكوى من خيانة زوجها لها, حتى أصبحت
أسيرة لهذا الإحساس السلبي تجاه كل الرجال, وكانت سعادتي الكبرى تتحقق حين أرفض
رجلا يتقدم لي وأرفض حتى مقابلته أو الدخول إليه في الصالون خلال زيارته لبيتنا.
كما كنت
أشعر بسعادة غريبة لحزن والدي الحبيب وإحساسه بالحرج أمام ضيفه وحين يعاتبني أهلي
على ذلك بعد انصراف الضيف أقيم الدنيا ولا أقعدها.. وأعلن للجميع أنني لن أتزوج,
وأشعر براحة غير مفهومة وأنا أرى الحيرة والدموع في عيون أبي برغم حبي الشديد له,
لأن معاملته السيئة لوالدتي كانت تدفعني لأن أضعه دائما في هذا الموقف المهين
انتقاما لأمي الحبيبة, واستمر هذا الحال حتى توفاه الله وأنا في سن الثلاثين
فإذا بينبوع من الحزن عليه يتفجر في داخلي, وإذا بي أشعر بالندم الشديد على
معاملتي السيئة له وتصرفاتي الغبية هذه معه, وبالرغم من ذلك فلقد ظللت أرفض كل
من يتقدم لي وكأني قد بدأت أعاقب نفسي على موقفها من أبي و ظللت على هذه الحال حتى
وصلت إلى سن الثامنة والثلاثين حين طرق بابنا آخر الخطاب وهو مهندس يمتلك شركة
صغيرة للمقاولات في الخمسين من عمره, وهو إنسان يملك كل الصفات التي تتمناها أي
فتاة في شريك حياتها, فهو متدين وقويم الخلق وطيب القلب, ورزين وواثق من نفسه
ووسيم المظهر والجوهر ومتزن في الفكر ولبق في الحديث, وأحسست أن الله أعطاني هذا
الإنسان كتعويض منه جل وعلا عن صراعي النفسي ومعاناتي طيلة عمري السابق, فلم
أستطع إلا أن أقبله وأوافق عليه منذ أول زيارة له, ولا تدري كم كانت فرحة أمي
وأخواتي وأزواجهن بموافقتي على الزواج منه خاصة بعد إجماع آراء الجميع على أنه
إنسان لا يعيبه شيء.. وطلبت منه أن يعاود زيارتنا مرات أخرى حتى يزداد تعارفنا
وأعرف المزيد عن ظروفه وشخصيته وظروف إخوته وأهله ووجدت أن ظروفه تتناسب معي ومع
عائلتي من جميع النواحي وبرغم هذا فقد كنت أماطل وأسوف في اتخاذ أي خطوة للارتباط
به, وفسرت ذلك بأن المرض القديم قد بدأ يهاجمني مرة أخرى ووجدتني أفتعل معه
مشكلة ليس لها سبب في أثناء إحدى زياراته لنا وتركته في غرفة الصالون, وخرج من
بيتنا مذهولا حائرا.. واتصلت به في اليوم التالي وأبلغته أني عدلت عن الارتباط
به لأسباب مفتعلة وانهارت أمي ودخلت في غيبوبة إثر ارتفاع الضغط عليها وقرأت في
عيون أخواتي كل معاني الألم واليأس والحزن لحالي.
وبعد حوالي شهرين من هذه
الواقعة وبعد انقطاع طوال هذه الفترة اتصل بي تليفونيا وطلب مني مراجعة قراري هذا
لأنه قرار خاطئ من كل النواحي الدينية والنفسية والاجتماعية والفسيولوجية, وقال
لي إنه سوف ينتظرني لأي وقت أراه ومازال متمسكا بي برغم اتهاماتي الباطلة له بل
ومستعد لانتظاري طول العمر فوعدته بمعاودة التفكير مرة ثانية بشرط ألا يكون هذا
ارتباطا بيننا وعليه أن يبحث عن غيري لتشاركه حياته, لأني أشعر في قرارة نفسي
أننا لن نسعد بحياتنا معا ووجدتني أطيع نفسي الأمارة بالسوء وأبيت النية على الرفض
برغم بكاء أمي وأخواتي وبرغم علمي بأن فرصتي في الزواج أصبحت قليلة وانه حتى لو
تقدم لي آخرون فمن المستحيل أن أجد كل هذه المميزات في إنسان مثله.
إلى أن كانت إحدى ليالي
رمضان المباركة وبعد صلاة العشاء دخلت إلى غرفتي لكي أنام حتى وقت السحور فجفاني
النوم وقمت إلى كتاب الله أقرأه بتأن وتدبر وأغلقت المصحف عسى أن أفوز بفترة من
النوم قبل الاستيقاظ للسحور ووجدتني أبكي على حالي وما آلت إليه حياتي, إذ كيف
أرفض هذا الإنسان وأسعى حثيثا إلى تدمير حياتي وكيف ستكون حياتي بعد وفاة أمي وكيف
سأعيش وحيدة في هذا البيت الكبير؟!.. وماذا سأفعل بعد أن يكبر أبناء أخواتي
الذين يملأون حياتي الآن وبعد أن يكون كل منهم قد انشغل عني بحياته وخصوصياته
ووجدت فيضا من الأسئلة كلها تدين رفض الزواج... ووجدتني أسجد لله باكية ومتضرعة
أن يكشف عني غمتي.. وأحسست أن الله استجاب لدعائي وأني ولدت من جديد بنفس صافية
وقلب متفتح وروح تائبة ومليئة بالأمل..
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
أن تجيء السعادة متأخرة عن موعدها بعض الوقت أفضل كثيرا من أن ينقضي العمر دون أن تلوح في الأفق أية بادرة لها. ولقد ذكرتني رسالتك بكلمة الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر التي يقول فيها: إن العقل هو الذي يصنع الخير والشر وهو الذي يجعل الإنسان سعيدا أو شقيا.وهي كلمة صادقة في بعض جوانبها.. خاصة فيما يتعلق بصور السعادة والشقاء التي يكون الإنسان وحده وليس طرف خارجي أو أقدار لا حيلة له فيها هو المسئول عنها. ذلك أن هناك قدرا غير منكور من أسباب سعادة الإنسان او شقائه يرجع إلى رؤيته الخاصة للحياة وطريقة تفاعله معها وحسن تصرفه فيها وحسن اختياره لنفسه وألمعيته أو قدرته علي تقدير فرص السعادة التي تتاح إليه حق قدرها واغتنامها قبل أن تفلت من بين يديه أو تتجاوز بابه المغلق في وجهها إلى باب آخر تجده مفتوحا أمامها.
وها أنت يا سيدتي قد طرقت بابك فرصة السعادة أكثر من مرة فكدت تغلقين بابك في وجهها وتحرمين نفسك منها.. لولا أن تداركت الفرصة قبل فواتها يديك, وما أكثر ما تعرض لنا فرص الحظ السعيد في بعض المراحل أو تطرق أبوابنا, فان لم تجدنا مهيئين لاستقبالها وحسن تقديرها تجاوزتنا إلي غيرنا ولم تخلف لنا وراءها سوي الندم.
ولا شك في أن تأثرك السلبي بسوء عشرة أبيك لأمك قد شوش بعض أفكارك عن الحياة والزواج وأورثك سوء الظن بالرجال.. والتوجس منهم حتى كاد يقضي عليك بالحرمان من الحياة الطبيعية.
ولقد لاحظ بعض علماء النفس أن الأثر السلبي لقهر الأب للأم وسوء عشرته لها يكون غالبا أكثر عمقا في نفس الابنة منه لدى الابن.. وفسروا ذلك بأن الابنة التي تعايش قهر أبيها لأمها وقسوته عليها وخيانته وإهانته الدائمة لها على مدى زمني طويل, تتوحد مشاعرها مع مشاعر هذه الأم في رفض هذه القسوة والشكوى منها, فتنطوي الابنة لأبيها ـ لا إراديا ـ على بعض المشاعر السلبية تجاهه, وهي مشاعر مكتومة لا تعلنها ولا تعبر عنها تحرجا من إثم العقوق فتترسب غالبا في أعماقها وتسهم في تشكيل رؤيتها الشخصية للزواج, وقد تتفاعل داخلها وتزداد تركيبا وتعقيدا فتنعكس عليها في نوع من الخوف المرضي من أن تقع هي نفسها ذات يوم تحت قهر مماثل لقهر أبيها لأمها.. ولقد يمتد رفضها الباطني لهذا القهر إلى رفض الرجل نفسه كرمز له ولو أدرك بعض الآباء والأمهات عمق الآثار الغائرة التي تستقر في نفوس الأبناء نتيجة لتلامسهم عن قرب مع صور العنف وسوء العشرة والمهانة بينهم. لاستخفوا بكل ذلك عن أبنائهم صغارا كانوا أم كبارا, إذا لم تكن هناك حيلة في توقفهم عن هذا البلاء من الأصل.
لهذا فقد قيل بحق أن أفضل ما يقدمه أبوان لأبنائهما هو طفولة سعيدة حافلة بالذكريات الدافئة والمعاني الإنسانية الجميلة والقيم العائلية النبيلة.
ولو كانت الأقدار قد أرادت لك مثل هذا الحظ السعيد في طفولتك وصباك لما تشوشت في احدى المراحل رؤيتك الخاصة للحياة والرجال.. ولما تهربت من الزواج حتى بلغت الثامنة والثلاثين.. لكن كل شيء في النهاية إنما يجيء في موعده المقدور.. فهنيئا لك سعادتك.. وحياتك العائلية الجميلة.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2001
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر