شئ من الاهتمام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

 

شئ من الاهتمام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

شئ من الاهتمام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

إن بعض ما يعتبره الأبناء تدخلا فى حياتهم الشخصية من جانب الآباء .. ليس فى النهاية إلا تعبيراً عن الاهتمام بأمرهم، ولا يعرف قيمة هذا "الاهتمام" الثمين إلا من يفقده إلى الأبد فلا يصبح فى حياته من يسأله أين كنت .. وماذا فعلت|؟ .. وفيما عدا الآباء والأمهات ليس هناك غالبا من هو على استعداد لأن يشغل نفسه بأمرنا إلى هذا الحد فالكل مشغولون بأنفسهم .. والجميع تجرفهم الحياة فى شباكها الصعبة.

عبد الوهاب مطاوع


أنا شاب في الثانية والثلاثين من عمري .. أعمل في إحدى شركات القطاع العام .. ومشکلتي یا سیدی تتلخص في أنني بعد تخرجي في الكلية وأداء واجب الوطن.. عملت في تلك الشركة وحصلت على أجازة بدون راتب للعمل في إحدى دول الخليج .. وبعد نهاية السنة الأولى من العمل في الخارج كنت أستعد للنزول إلى مصر لقضاء أجازتي السنوية .. فوصلني فجأة نبأ وفاة الوالدة الحبيبة والذي وقع علي كالصاعقة.. وكان لابد من العودة على الفور.. علما بأن لي شقيقين أكبر مني يعملان منذ سنين طويلة في نفس هذه الدولة.. ولم يبد أيها الرغبة في العودة .. تسألني وما الذي أجبرك على العودة .. فأقول لك إنه الوالد.. الذي أصبح يعيش بمفرده في المنزل ولم أشأ أن أتركه وحيدا وعدت .. وكان لابد من البحث عن زوجة لاحتياجنا الشديد إليها أنا والوالد بعد رحيل الوالدة.. ووجدتها إنسانة خريجة كلية التجارة و كانت تؤدى الخدمة العامة في ذلك الوقت .. وبارك الوالد زواجنا وعشت وزوجتي مع والدي في شقة الأسرة.. وسارت السفينة في هدوء وسلام بقدر الإمكان والزوجة تقوم بخدمتي وخدمة الوالد في الوقت نفسه من ملبس وطهي وخلافه.. وكان يمكن أن تمضى حياتنا في يسر وسهولة لولا تدخل الوالد في كل كبيرة

وصغيرة في حياتنا .. بل وفي خصوصياتنا.. فإذا خرجنا سألنا إلى أين؟ وإذا عدنا ولم يكن موجودا عند خروجنا يفتح لنا محضرا.. کنتم فين؟ "وهو كل يوم خروج "؟ وإذا وضعت شيئا يمينا يضعه هو في الشمال .. وهكذا.. إذا حضر أحد أفراد أسرتها يتضايق ولا يهمس بكلمة واحدة .. ولا أصف مدى الحرج الذي أكون فيه.. وأنا أضغط على زوجتي لكي لا تتكلم وتشكو.. وأقول لها دائما إنه رجل كبير ويجب علينا تحمله.. وكان من نتيجة هذا الضغط النفسي والزعل المستمر أن أصيبت زوجتي بنزيف كاد يودي بحياتها وفقدنا على إثره جنینا عمره شهران.

 



 تقول لي .. وما الذي يجبرك على ذلك؟ لماذا لا تبحث عن شقة وتأخذ زوجتك وتعيشان بمفردكما؟.. أقول لك.. یا سیدي العاطفة من ناحية وعدم ترك الوالد بمفرده مهما كانت الظروف في هذه السن الكبيرة، والمادة من ناحية أخرى .. فظروفي لا تسمح على الإطلاق.. وراتبي الشهري يكفي بالكاد.. وزوجتي تعمل في جهة حكومية من شهر فقط ولم تقبض حتى الآن .. كما أنني أدخل على استقبال ضيف جدید بما يتطلبه من أجر الدكتور والمستشفى إلخ.. وحاولت بقدر الإمكان إرضاء الوالد دون جدوى.

 قل لى بالله عليك ماذا أفعل.. هل أطلقها حتى يستريح وتهدأ نفسه وأستريح أنا أيضا ؟ ولكن ما ذنب هذا المسكين البريء الذي سيجيء بعد شهرين؟.. وأرجوك لا تقل لي اترك الشقة فأنا غير قادر على إيجاد غرفة للسكن فيها لا شقة .. فماذا أفعل؟

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

صدقني يا صديقي إذا قلت لك بأمانة إنني لا أعرف ماذا يمكن أن تفعل للتخلص من هذه المشكلة، فالحل المنطقي الوحيد هو استقلالك بمسكن خاص، لكنه حل أصبح في عصرنا بالنسبة للكثيرين كالغول والعنقاء والخل الوفي! أي من المستحيلات.. ورغم ذلك فإني لا أرى أن المشكلة بين أبيك وزوجتك مستعصية على الحل إلى هذه الدرجة. ولا أنصحك أبدا بطلاقها إرضاء لأحد، ليس فقط لأنها زوجتك وشريكة حياتك.. وأم طفلك القادم ولم تقصر في حقوقك، وإنما أيضا

لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .. وطلاق زوجتك لمجرد الاستجابة لرغبة أبيك وبغير مبررات عادلة ظلم لها و تحطيم لحياتك الشخصية معها، ولا يرضى ربك بالظلم أبدا ولا يغفره.

 

لا مفر إذن من استمرار الحياة كما هي مع ضرورة إقناع زوجتك بأن ترعی کل حقوق الأب مهما فعل معها أو معك وبأن تحاول إرضاءه قدر الاستطاعة، فهو في النهاية أبوك، وفي منزلة أبيها، وله من سنه ومن محنة وحدته في هذه السن المتأخرة ما ينبغي أن يساعدها على

فهم بعض نوازعه وتصرفاته، ولا بأس بقدر معقول من المرونة لكي تمضي السفينة عائمة فلا تجنح في الصخور.

وصدقني أن بعض ما يعتبره الأبناء تدخلا في حياتهم الشخصية من جانب الآباء .. ليس في النهاية إلا تعبيرا عن الاهتمام بأمرهم، ولا يعرف قيمة هذا الاهتمام الثمين يا صديقي إلا من يفقده إلى الأبد فلا يصبح في حياته من يسأله أين كنت .. وماذا فعلت ؟ وفيما عدا الآباء والأمهات ليس هناك غالبا من هو على استعداد لأن يشغل نفسه بأمرنا إلى هذا الحد فالكل مشغولون بأنفسهم.. والجميع تجرفهم الحياة في شباكها الصعبة، وأنا أتلقى رسائل عديدة من أصحاب قلوب وحيدة يتحسرون فيها الآن على أيام القيود التي تشكو منها أنت الآن، والتي ضاقوا بها هم أيضا في اندفاع الشباب، ثم عرفوا الآن فقط معناها وقيمتها ومعنى أن يكون لنا من يهتم بأمرنا ويسألنا أحيانا ويحاسبنا أحيانا، ويبدي الحرص على صالحنا حتى لو غضبنا من ذلك، فبعد الأب والأم يا صديقي يفقد الإنسان إلى الأبد في كل حياته ومهما اتسعت دائرتها، الود الخالص الصادق المجرد من الهوى والاهتمام العاطفي المخلص.. ويفتقد أيضا "المخلوقين" الوحيدين على ظهر الدنيا كلها اللذين يتمنیان له من أعماق القلب أن يكون "أفضل" منها.. والمخلوقين الوحيدين في العالم كله الذين "يتفاخران ويتشرفان" بأنه أحسن منها؟

 وإلا فقل من في دائرة حياتك كلها تستطيع أن تتيقن من أنه يسعده ويطربه أن تكون "أفضل" منه؟ لا أحد بالطبع .. وليس هناك سوى الأب .. وسوى الأم فاحرص على هذه القيمة الكبيرة ولا تفقدها.. وذكر زوجتك دائما بأنكما ضيوف أبيك.. وأن زمانه رائح مهما بلغ.. وزمانك قادم.. فماذا علينا لو كنا أكثر صبرا.. وأكثر ودا له وأكثر تقديرا لظروفه .. ألا يسهم ذلك بالضرورة في حل هذه المشكلة؟ أعتقد ذلك.. كما أعتقد أيضا أن مشكلتك ليست مشكلة شخصية .. وإنها أصبحت من مشاكل مجتمعنا الآن بعد أن أعادت أزمة الإسكان إلى الحياة هذا النوع من المشاكل الناجمة عن مشاركة زوجة الابن أو زوج البنت الحياة الأسرة، بعد أن أصبحت نسبة كبيرة من الزيجات تتخذ من مسكن الأسرة مقرا لها وبعد أن أصبح الاستقلال بالمسكن.. من الأماني القومية لعدد كبير من الشباب كما كان الاستقلال عن "انجلترا" أكبر الأماني القومية لمصر أيام الاحتلال البريطاني! 

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1985

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات