بعد مغيب القمر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985
إن المحن تصنع الإرادة ، وتخرج من أعماق الإنسان قدرته الكامنة على تحدى الصعاب .
عبد الوهاب مطاوع
أشعر أحيانا وأنا أقرا بريد الجمعة انك تحاول إن تقول من خلال رسائل
القراء للبعض: هيا نستفيد من تجارب غيرنا في مواجهة الحياة .. فنتعلم منهم كيف
واجهوا مشكلاتهم؟ .. وكيف تحملوا آلامهم؟ .. فإن لم يكن ذلك، فلنعرف على الأقل إن
حياتنا أكثر احتمالا من حياة غيرنا ، وأن ما نظنه أحيانا نهاية الحياة ليس سوى
إحدى متاعب الحياة العادية بالقياس إلى متاعب وآلام الآخرين .. وبهذا الإحساس
وجدتني اكتب لك هذه الرسالة لأروى لك قصتي لعلك تجد فيها بعض ما يستحق النشر ،
وبعض ما يفيد من هن في مثل حالي :
فلقد بدأت حياتي الزوجية منذ حوالي عشرين عاما مع شاب رائع ، تركت
التعليم من أجله وانقطعت عن الدراسة لأتفرغ له ولبيته .. وكنت سعيدة بقراري وكان
هو أكثر سعادة ، فلقد كان مثالا للزوج الذي تتمناه أية فتاة .. كان شابا وسيما
ممشوق القوام رياضيا ، بل بطلا من أبطال الرياضة في لعبة التنس .. وكان ضابطا
بالقوات المسلحة شهما ومرحا ومحبا لي ولبيته ، مضت حياتي معه كأسعد ما تكون الحياة
الزوجية .. لم نختلف يوما على شيء .. ولم تتعارض آراؤنا في شيء ، يخرج في الصباح
المبكر إلى عمله ويعود في الظهر فنتناول غداءنا معا ثم نرتدي ملابسنا ونخرج إلى
النادي ليمارس تدريباته في ملعب التنس، فلا أجد متعة بالنادي سوى في الجلوس على
ترابيزة صغيرة بجوار خط الملعب أراقبه وهو يجري ويضحك ويداعب رفيق اللعب .. ثم
يأتي إلى كل بضع دقائق ليشرب رشفة ماء أو يجفف عرقه ويبادلني كلمة سريعة لابد أن
تنتهي بكلمة حب أو بدعابة من دعاباته ، ثم ينتهي اللعب ويدخل الحمام لكي يغير
ملابسه ويعود ليصطحبني إلى حديقة النادي أو إلى إحدى دور السينما أو نعود مشيا على
الأقدام إلى البيت متماسكى الأيدي لا نحس بالدنيا من حولنا.
وفى الأمسيات كنا نزور الأهل والأصدقاء ، أو نستقبلهم في بيتنا ونرتب
لأجازة الصيف ونحن في الشتاء، ونرتب لإجازة الشتاء ونحن في عز الصيف .. فقد كنا
نحس أن الدنيا بين أيدينا ونحن شباب أمامنا الحياة واسعة، ثم جاء الأبناء فاكتملت
سعادتنا وكانا طفلين جميلين ، ولم يتغير نظام حياتنا إلا في أضيق الحدود ، فأصبحت
أتفرج عليه وهو يلعب ومعي صغيراي إحداهما يجرى ويلعب ، والأخر في عربته الصغيرة ،
وزوجي الحبيب يجري ويتحرك ، وقد خصه الله بمنة لاينا لها الكثيرون هي حب الناس، فكان
لا يتحرك إلا في مجال تشرق فيه الوجوه عند مرآة من الصبي الصغير الذي يجمع كور
التنس إلى البواب إلى المدرب إلى رفاق النادي والأهل والأصحاب .. وكنت أحس بالحب
للجميع لأنهم يحبونه معي، وأدعو الله إن يمتعه دائما بحب الناس الذي كان يستحقه
لنقاء سريرته وطيبة قلبه وشهامته.
إلى أن تغيرت حياتنا وصحوت من حياتي اللامعة المبهجة ذات يوم لأجده
قد غاب واستشهد رحمه الله في معركة أكتوبر ، وغاب القمر الذي كان يضيء سماء حياتي
، وقدر لي إن اقطع عهدا توافرت لي فيه أسباب الرخاء والدعة إلى عهد أواجه فيه
مضايق الحياة ومزالقها.
والحياة تمضى، وكثيرا ما توقفت لأسأل نفسي : هل كان ما فعلت هو
الصحيح ؟.فأتأمل حياتي وأتذكر حالي في الأيام الأولى عقب انهيار الأحلام ، وحالي
اليوم ، فأقول نعم لقد كان ما فعلت هو الصحيح.
وأتمثل بقول الله سبحانه وتعالى :
وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ
تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
صدق الله العظيم .
والسلام عليكم.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
اعترف أنني أصبحت من كثرة ما قرأت من مآس في رسائل بريد الجمعة ميال
للتشاؤم رغم إيماني بالحياة، فطوال فترة قراءتي لهذه الرسالة وأنا أتوجس خيفة مما
سوف تنبئني به ، وأتعجل السطور لأعرف ماذا جرى لمثل هذه الحياة الناعمة المترعة
بالحب والتفاهم والسعادة ، فلا يطول انتظاري بكل أسف وتجيء السطور لتخبرني بما
أتوقعه كلما أطالت رسالة في بدايتها في وصف حالة سعادة رائعة!
إنها ليست قاعدة بالطبع لأننا اتفقنا منذ البداية بأنه لن يكتب إلى
البريد إلا المهمومون بمشاكل تشغل حياتهم ، وأنه ليس من المتوقع أن يكتب إلي أحد
ليروي لي قصة سعيدة من البداية إلى النهاية ، فلا غرابة إذن فيما روته الرسالة سوى
إني ربما كنت قد تمنيت أن يخيب سوء ظني هذه المرة ، وأن تطول سعادة كاتبة الرسالة
إلى أقصى حد ممكن! فلم يخب بكل أسف وهيهات أن يفر الإنسان من قدره ، وأين المفر
إذا أراد؟.
على أنك يا سيدتي قد عوضتني عن كل ذلك بقصة كفاحك بعد "مغيب
القمر" التي تستحق كل الإعجاب والتقدير، والحق أنني دهشت قليلا لصلابتك ولقوة
إرادتك اللتين كشفت عنهما رسالتك، لان مقدمتها قد رسمت لي عنك صورة رومانسية حالمة
خشيت معها ألا تنجحي في مواجهة الحياة وحدك ، وقد كنت تعيشين الحياة في دعة وخمول،
لكنها صادقة تماما النظرية التي تقول أن المحن تصنع الإرادة ، وتخرج من أعماق
الإنسان قدرته الكامنة على تحدى الصعاب .
وهذا ما حدث معك والحمد لله .. فلقد صهرت التجربة الأليمة شخصيتك كما
تجلو النار الدر النفيس، فكشفت عن جوهر شخصيتك الحقيقية وهى شخصية دءوب ذات إرادة
قوية ، فواجهت الحياة أو كما تقولين بتعبيرك الرائع "واصلت الحياة".. وكان ضروريا أن تفعلي ، وتحملت مسؤوليتك بكفاءة، ونجحت
في أن تقودي سفينة حياتك وسط ظلام المغيب إلى أن وصلت إلى شاطئ الأمان، وحق لك أن
تسعدي بأسرتك وبنفسك وإرادتك وحق لكثيرات في مثل ظروفك أن يجدن في رسالتك هذه
المثل والعزاء والأمل في غد أفضل.
وشكرا لك على رسالتك المفيدة هذه مع تمنياتي لك بالسعادة الدائمة إن
شاء الله .
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 1985
شارك في
إعداد النص / ياسمين عرابي
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر