الرداء الأبيض .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1999
إن هناك أشخاصًا يكفي مجرد وجودهم في الحياة لكي تتخفف الدنيا من بعض قبحها وقسوتها ، وهناك أشخاص آخرون يكفي مجرد وجودهم في الحياة لكي تزداد مساحات العناء والظلم والقسوة فيها.
عبد الوهاب مطاوع
أكتب إليك هذه
الرسالة نيابة عن سيدة في منزلة أمي وأعرف ان كلماتك ستخفف عنها إن شاء الله .. فأنا
ومنذ فترة ليست طويلة مرضت ابنتها الكبرى
التي تبلغ من العمر23 عاما وكان مرضها بالقلب يتطلب الراحة والرحمة والهدوء ..
لكنه بسبب إهمال علاجها ساءت الحالة فنتج عنها تضخم القلب والرئة وارتشاح في الرئة
والساق والكلى .
وقد تحملت هذه الفتاة مرضها بصبر عجيب
وتحملت تحذيرات الأطباء الباردة لها من أنها لا تستطيع الزواج ولو تزوجت فلن
تستطيع الإنجاب لسوء حالتها وكان خطيبها هو الشيء الوحيد الذي يخفف عنها وقع هذه
الكلمات القاسية علي فتاة في مقتبل العمر تحلم بارتداء ثوب الزفاف كغيرها من
الفتيات وبدأت الفتاة رحلتها القاسية مع المرض وتمكن منها الداء حتي أصبحت كالهيكل
العظمي وأصبحت تقضي معظم أيامها في المستشفيات ومن حولها أمها وأخواتها وخطيبها
الإنسان بكل معني الكلمة.
أما أبوها فلم تهتز له شعرة , لمرضها
ومعاناتها ولم يذهب معها إلى المستشفي مرة واحدة وكلما رجته أمها وهي خائفة أن
يذهب للمستشفي لرؤية ابنته وجبر خاطرها ولو أمام خطيبها .. أجابها بأنها تدعي
المرض .. وانه لا وقت لديه لمثل هذه الدلع !
وحين كان المرض يشتد عليها وهي في البيت
كانت آهاتها تمزق قلوب الجيران فيأتون إلى الشقة ويتعاونون علي حملها من الدور
السادس إلى الدور الأرضي لكي تذهب للمستشفي , أما والدها فيظل جالسا في الشرفة
يدخن السجائر ويقرأ الجريدة في هدوء فإذا جاءت إليه زوجته ترجوه باكية أن ينقلهم
إلى المستشفي بسيارة الأجرة التي يملكها .. هز رأسه بالرفض وواصل القراءة والتدخين
في سلام ويبحث الجيران عن سيارة تنقل الفتاة للمستشفي ويأتي خطيبها مهرولا إلى
المستشفي ويقف إلى جوارها إلى أن يخفف الله عنها بعض آلامها.
وكانت هذه الفتاة تحتاج إلى ست أنابيب
للأكسجين يوميا لكي تستطيع التنفس والبقاء علي قيد الحياة , وكانت أمها ينخلع قلبها
خوفا من أن تفرغ الأنابيب قبل أن يتوفر لها غيرها , وكم من مرة طلبت من زوجها أن
يدفع ثمن أنبوبة واحدة للأكسوجين لكي تتنفس ابنته فكان يرفض ذلك بكل قسوة فينفق
خطيبها جزاه الله كل خير علي علاجها وعلي شراء أنابيب الأكسوجين, بجانب ما تنفقه
الفتاة نفسها من مرتبها البسيط وتتحمل آلامها في صبر ورضا وتصلي وهي نائمة
وتستمع دائما إلى شرائط القرآن الكريم وتدعو ربها في كل حين: رب اشرح لي صدري ويسر
لي أمري
وكان جميع من حولها من الأم والإخوة والخطيب
والجيران الطيبين يزورونها في المستشفي ويرثون لحالها ويعلمون أن أيامها في هذه
الدنيا القاسية قليلة ما عدا الأب الذي زارها ذات مرة زيارة قصيرة وهي في أسوأ
فتراتها فرجته ابنته وهي تبكي أن يبقي إلى جوارها حتى ينفذ فيها سهم القضاء لأنها
كما قالت له مستعطفه " تموت " فإذا به يجيبها ببرود بأن من يموت بالفعل لا يعرف أنه
يموت ولا يقول انه يحتضر كما تقول هي وبالتالي فإن هذا كله تمثيل ودلع بنات لا وقت
لديه لتحمله , ثم انصرف عنها بلا وداع, وقرب الفجر استنجدت به أمها لكي يأتي ويعيد
ابنته إلى بيتها لكي تحتضر هناك في سلام فرفض النزول من البيت والاستجابة للرجاء
ولم يمض وقت طويل حتى كانت روح هذه الفتاة الطيبة قد صعدت إلي السماء , وكان آخر
ما طلبته من أمها هو أن تتصدق بمرتبها عن الشهر الأخير من حياتها القصيرة .. وبما
تبرع لها به الجيران الطيبون للمساهمة في علاجها علي الفقراء ترحما عليها !
وكان آخر ما قالته لأمها الحزينة هو أنها لن
تسامح أباها أبدا علي ما فعله بها ولا علي عدم تحمله لنفقات علاجها وتركها للغريب
.. أي لخطيبها لكي يتحمل نفقات العلاج دونه كما لن تسامحه أبدا علي رفضه البقاء
إلى جوارها في ساعاتها الأخيرة ورفضه الاستجابة لنداء أمها له أن يأتي إلى
المستشفي ليصطحبها إلى البيت لتقضي به ما بقي لها من عمر.
أما آخر كلماتها الحسيرة الأخرى فهي أنها
كانت تتمني ككل فتاة في مثل عمرها أن ترتدي ثوب الزفاف الأبيض وتسعد بحياتها مع من
أحبها وأحبته .. لكن إرادة الله قد شاءت لها أن ترتدي بدلا منه رداء الرحيل الأبيض
.. وهذه هي إرادة الله ولا راد لقضائه ولا معقب علي حكمه وهو الرحمن الرحيم .
ورحلت هذه الفتاة الطيبة عن الدنيا في هدوء
وبكتها أمها وأخواتها وجيرانها الطيبون وخطيبها الإنسان .
وفي مجلس العزاء في بيتها كانت الأم والإخوة
والخطيب والجيران هم الذين يتقبلون العزاء فيها أما الأب الذي لا أجد له وصفا فقد
كان جالسا أمام التليفزيون يتابع المسلسل اليومي ويدخن في هدوء غريب!
ولم يكتف هذا الرجل بالإساءة لابنته الراحلة
وهي علي قيد الحياة .. وإنما أساء إليها أيضا وهي في رحاب الله .. فقد جاء خطيبها
لزيارة والدتها وإخوتها بعد العزاء فإذا بهذا الأب القاسي يقابله بجفاء ويطلب منه
عدم العودة إلى هذا البيت مرة أخرى ويسأله: لماذا تجيء الآن وقد ماتت من كنت تأتي
لرؤيتها ؟
ولقد كنا نظن أن رحيل ابنته عن الحياة سوف
يغير من بعض طباعه القاسية ويدفعه لان يرعي الله في أمها وإخوتها من بعدها , ولكن
فلم يتغير من طبعه شيء وهو الآن يواصل قسوته علي أخيها المريض بالسكر ويرفض
الإنفاق علي علاجه الذي إن لم يأخذه في موعده جاءته غيبوبة المرض ويواصل أيضا بلا
رحمة قسوته علي أمها فيسبها ويضربها .. وهي التي لا تجف دموعها علي أبنتها ..
ومازالت لا تصدق أنها قد رحلت عنها فتنهض من نومها مفزوعة وهي تنادي علي ابنتها
عسي أن تجيبها من عالم الغيب والشهادة
لقد كتبت لك قصة هذه السيدة المعذبة لكي
توجه إليها كلمة عزاء في ابنتها وتخفف عنها بكلماتك الحانية بعض أحزانها .. كما
كتبتها لك أيضا عسى أن تستطيع مساعدتها في زيارة بيت الله الحرام لعلها تجد هناك
ما يدخل السكينة إلى قلبها ويعيد إليها بعض الطمأنينة, لأنها حتي اذا استطاعت
تدبير نفقات العمرة من أهل الخير المحيطين بها ويعرفون مأساتها فإن هذا الرجل
الظالم لن يسمح لها بالسفر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
يا الهي .. أإلى هذا الحد قد تنزع الرحمة
أحيانا من بعض القلوب ؟
إن القتلة والسفاحين قد ترق قلوبهم في بعض
الأحيان وتتحرك إشفاقا علي بعض البشر. فكيف خلت نفس هذا الرجل من كل لمسة شفقة أو
رحمة بابنته الطيبة هذه ؟
ومن أي نوع من الأحجار الصلدة قد قلبه فخلا
من كل عطف علي ابنته وزوجته وأبنائه ؟
لقد قلت ذات مرة أن من الآباء من لا يستحقون
لقب الأب الجليل الذي يعني في جوهره العطف والعطاء والرحمة والمسئولية لكني لم
أتصور حين كتبت ذلك أن يكون علي سطح الأرض أب تحتضر ابنته العروس وترجوه البقاء
إلي جوارها في لحظاتها الأخيرة أو إعادتها إلي بيتها لتقضي ما بقي لها من ساعات
فيه فيصم أذنيه عن ندائها ولا تتفجر في قلبه ولو كان من صخر ينابيع الرحمة والعطف
علي هذه الابنة المعذبة
ففي أي زمن نعيش يا ربي وإلي أين ينتهي بنا
المصير؟
وماذا سيقول هذا الأب لخالقه حين يسأله عن وديعته
الغالية التي استودعه إياها كيف لم يترفق بها وهي هدية السماء إليه .. وكيف لم
يرحم ضعفها وعذابها حين كانت في أشد الحاجة إليه وكيف تخلي عن مسئوليته عنها ورفض
الإنفاق علي علاجها وترك هذه المسئولية الإنسانية لخطيبها الشهم وجيرانها الطيبين؟
لقد وأدها هذا الرجل الفظ بقسوته
وغلظته وجمود مشاعره فبأي جواب سوف يجيب ابنته يوم يكون الحساب .
وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ۞
بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ
لقد كان ألم النفس اقسي عليها من آلام
الجسد.وكانت مرارة خذلان أبيها لها وتخليه عن علاجها ورفضه الوقوف بجوارها حتى في
لحظاتها الأخيرة اشد بطشا بجسمها التخيل وعلة القلب وآلامها.
فبأي حق ينجو مثل هذا الرجل من عقاب القتل
المعنوي لابنته في الأرض قبل أن يلقي قصاصه العادل عنه في السماء؟
وكيف يقف القانون عاجزا عن محاسبة مثل هذا
الرجل عن جريمة القتل المعنوي هذه؟
وألا من مخرج لدي فقهاء القانون لمحاسبة مثل
هذا الرجل عما صنع بابنته ؟ وعما يفعل الآن بابنه المريض بالسكر وزوجته المكلومة
وأبنائه الحائرين؟
إن هناك أشخاصا يكفي مجرد وجودهم في الحياة
ولكي تتخفف الدنيا من بعض قبحها وقسوتها وعنائها وهناك أشخاص آخرون يكفي مجرد
وجودهم في الحياة لكي تزداد مساحات العناء والظلم والقسوة فيها.
وهذا الرجل من هذا الصنف الأخير ولابد من
وسيلة مشروعة لمحاسبته عما جناه علي ابنته ولرده عما يفعل الآن بابنه المريض
وزوجته المفجوعة في ابنتها الراحلة وبقية أبنائه.
أفتوني أيها الملأ من رجال القانون عما يمكن
فعله مع هذا الرجل وإرغامه به علي الرفق بزوجته وابنه المريض والتكفير عن جنايته
علي ابنته.
لقد كان الفقيه شمس الدين محمد بن ابي بكر
المعروف باسم ابن قيم الجوزية يقول في معرض الحديث عن قسوة القلوب ما ضرب عبد
بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله ويقول: خلقت النار لإذابة القلوب
القاسية ويقول أبعد القلوب من الله القلب القاسي , ويقول: إذا قسا القلب قحطت
العين , أي جفت من ماء الدمع وكل ذلك ينطبق علي هذا الرجل الذي اكبح جماح قلمي
بصعوبة شديدة لكيلا يصفه بما يستحقه من صفات فمن عجبه , بعد كل ذلك أن يكون كما
تقولين في رسالتك ممن يقرأون الجريدة ويعرفون خط الأحرف .
فلا أفادته القراءة ولا رققت حاشيته خطوب
الحياة .
فبأي حق يسعي أمثاله في الحياة ويزيدون من
مساحة القبح والعناء فيها؟
ولمن سوف يرق قلبه إذا لم يكن قد رق لابنته
الشابة وهي تتسمع أنغام الرحيل أو لابنه الذي يعاني من مرض السكر شفاه الله منه أو
لزوجته الحزينة علي ابنتها الراحلة؟
لقد اعتدت أن أناشد الأزواج والزوجات
أن يترفقوا بشركاء الحياة لكني لا أشعر بأي رغبة في أن أناشد هذا الرجل في شيء -
أو أوجه إليه أي كلمة وبدلا من ذلك فاني- ولعلها المرة الأولي التي افعل فيها ذلك
اقسم بالله العلي القدير الذي لا إله سواه إنني سوف الأحق هذا الرجل بكل الوسائل
القانونية المتاحة إن لم يترفق بزوجته ويسمح لها بأداء العمرة علي نفقة بريد
الأهرام مع مراعاة حقه عليها كزوج في أن يصحبها إلى هذه العمرة إذا شاء إكراما لها
وليس له وتيسيرا عليها وليس عليه وكذلك إن لم يتحمل مسئوليته عن علاج ابنه أو يسمح
لبريد الأهرام بتنظيم علاجه ورعايته إلي أن يكتب الله له الشفاء بإذن الله.
فانتظري مني أيتها الآنسة الطيبة كاتبة هذه
الرسالة اتصالا قريبا لادعوك إلي زيارتي مع هذه السيدة المكلومة راجيا أن تصطحب
معها تقارير ابنها الطيب لترتيب مسألة علاجه وأوراقها الشخصية اللازمة لاستصدار
جواز سفر لها والله المستعان علي كل أمر عسير.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر