أنا شاب أبلغ من العمر 28 عاما .. نشأت بين أبوين طيبين مكافحين وأنا أصغر أشقائي حيث تكبرني شقيقتان ثم شقيقي الأكبر.
وكان والدي موظفا
حكوميا صغيرا بمدينتنا القريبة من القاهرة وتفتحت عيناي للحياة فوجدت كل شيء في
محيط أسرتنا يدور حول محور أخي الأكبر الذي يتقدم في الدراسة بنجاح وتتعلق به آمال
أبي في أن يراه ذات يوم رجلا له شأن .. فاعتدت منذ صغري احترام شقيقي هذا ورضعت حبه
مع لبن أمي, ورأيت أبي لا يكف عن الإشادة باجتهاد أخي وجديته ورجولته المبكرة
ويدعوني أنا وشقيقتي لاتخاذه مثلا أعلى لنا في الحياة, ويوما بعد يوم أثبت أخي
لأبيه أنه عند حسن ظنه به بالفعل فحصل علي الثانوية العامة بمجموع كبير, ورشحه
مكتب التنسيق للالتحاق بإحدى كليات القمة.
وأشفقت
أمي على أبي من احتمال نفقات الدراسة المكلفة في هذه الكلية وتساءلت: كيف ستواجهها
الأسرة, ومرتب أبي لا يكاد يكفي للنفقات الضرورية فإذا بالجواب يجيء من شقيقتي
الوسطي التي تلي هذا الأخ في السن, فتعلن لأبي أنها لا ترغب في مواصلة الدراسة
لأنها
لا تميل إليها وتفضل أن تعمل بالشهادة الإعدادية لتساعده في نفقات الحياة, وحاول
أخي الأكبر للأمانة إقناعها بالاستمرار في الدراسة, مؤكدا انه سيتدبر أمره في
القاهرة حين يلتحق بكليته لكنها أصرت على قرارها, وبالفعل توقفت أختي عن الدراسة
التي لم تكن موفقة فيها ونجح أبي في إلحاقها بوظيفة مؤقتة في المصلحة الحكومية
التي يعمل بها بمرتب بسيط, ونجحت هي في العثور على عمل كسكرتيرة بعيادة أحد
الأطباء بعد الظهر, والتحق أخي بكليته, وأراد أبي أن يترفق بأختي فاكتفي بمساهمة
أختي بمرتبها من الوظيفة الصباحية في نفقات الأسرة, وترك لها أجرها عن الوظيفة
المسائية لتنفق منه على نفسها وتدخر بعضه لجهازها حين يجيء ابن الحلال, وشدت
الأسرة الأحزمة على بطون أفرادها لكي توفر لأخي نفقات الدراسة, وراح أبي يتنقل من
عمل إضافي إلى آخر ليزيد دخله ويشتري للابن الأكبر الملابس اللائقة وأدوات الدراسة
والكتب الغالية .. وكل ذلك ونحن سعداء ونحلم باليوم الذي سيتخرج فيه شقيقنا ويحقق
آمال الأسرة فيه.
ولم يخيب أخي ظنوننا
فقد راح ينتقل من سنة إلى أخرى بنجاح, وكلما رجع إلينا في الإجازات انحنى على يدي
أبي وأمي يقبلهما, واحتضن شقيقتي الوسطي والصغرى, وقبل رأسي وأكد للجميع اعتزازه
بهم واعترافه بفضلهم عليه..
وحصل
شقيقي على شهادته المرموقة وأدى الخدمة العسكرية وعين في وظيفة ممتازة وتخففت
الحياة في أسرتنا من بعض جفافها وشدتها, وسعد أبي بما حققه أخي سعادة طاغية, غير
أن سعادته هذه لم تطل كثيرا إذ توفاه الله فجأة وهو عائد من عمله المسائي وبكيناه
كثيرا وكان أكثرنا حزنا عليه أخي الأكبر.
وكنت
عند وفاة أبي استعد لدخول امتحان الشهادة الإعدادية, فتزلزلت حياتي, وكانت النتيجة
أن فشلت في الامتحان واستاء لذلك أخي الأكبر وعنفني بشدة ووعدته بأن أبذل أقصى
جهدي في السنة المقبلة, وفعلت ذلك بالفعل ودخلت الامتحان ونجحت فيه بمجموع ضعيف,
ولم يعد من سبيل أمامي سوى اختصار طريق التعليم والالتحاق بمدرسة متوسطة.. وغضب
مني أخي لذلك كثيرا وخاصمني بعض الوقت, لكنه نسي غضبه بعد فترة, حين استعطفته أمي
علي, ومضت الأيام بنا ونحن نتدبر حياتنا بصعوبة بمعاش أبي ودخل أختي الوسطي, ثم
جاء عريس لها وقبلت به لأنه زميلها في العمل فرفضت أمي أن توافق عليه قبل أن يرجع
أخي ويقرر ما يراه في شأنه.
وبعد بعض المداولات
وافق عليه أخي وهو كاره لأن وظيفته صغيرة ومرتبه ضئيل وشهدت هذه الفترة من حياتنا
بعض المشاكل العائلية, فلقد اشتكت أختي من سوء معاملة أخي لخطيبها.. وقالت انه
يتكبر عليه ويشعره بأنه غير كفء لمصاهرته, لكن الأمور مضت في طريقها في النهاية,
وتزوجت أختي بإمكانات بسيطة وشعرت ببعض المرارة تجاه أخي لأن مساعدته لها كانت اقل
مما قدمته هي له, ودافع هو عن نفسه بأنه مازال في بداية مشواره وأيدته أمي في ذلك
ونهت أختي عن الشكوى .. أما أختي الصغرى فقد واصلت تعليمها حتى حصلت على الثانوية
العامة والتحقت بمعهد فوق المتوسط بمدينتنا وفي هذه الأثناء فاجأنا أخي الأكبر
بأنه قد تقدم إلى زميلة له في العمل من أسرة عالية المستوى, دون أن يصطحب أمه
وأخوته معه في طلب يدها, مكتفيا في ذلك بقريب لنا من بعيد يعمل بالقضاء!.
وحزنت
أمي لتجاهلها في هذه المناسبة التي كانت تترقبها لتسعد بها وشعرت شقيقتاي بالمرارة
والإهانة .. أما أخي فإنه لم يزد على أن قال في ضيق إنه فعل ذلك لكي يوفر علينا
مشقة السفر للقاهرة!.
لكن
الإشارة لم تخف على أحد, وأحسسنا جميعا أن شقيقنا الأكبر الناجح لا يرانا لائقين
اجتماعيا لمصاحبته في خطبة فتاة من أسرة راقية..
وأكدت
الأيام لنا بعد ذلك توجساتنا فلقد مضى في بقية الخطوات بغير أن يدعونا لمشاركته
فيها, إلى أن حل موعد الزفاف, فدعانا إليه, ورأينا مسكن الزوجية الذي كان قد حصل
عليه قبل عامين لأول مرة وشاهدنا أثاثه الجميل, وعرفنا أنه يعمل بمكتب مهني بعد
الظهر, وان الله قد أكرمه على اجتهاده ويسر له طريقه, وذهبنا إلى حفل الزفاف
فوجدنا أنفسنا فيه غرباء لا نعرف أحدا ولا يعرفنا احد وانزوينا في ركن من الصالة
في خجل وانتهى الزفاف وسافرنا في الليل عائدين إلى مدينتنا, ورجع أخونا وعروسه إلى
مسكن الزوجية.
ومضت
الأيام فلاحظت أمي تباعد زيارات أخي لنا.. وتعمده أن يجيء وحيدا بدون زوجته كل
مرة, كما لاحظت أيضا أنه قد كف يده عن مساعدتها بأي مبلغ بحجة أنه مدين ببعض ديون
الزواج..
ومضت
الأيام في طريقها فأصبح العام الطويل يمضي دون أن يجيئنا أخي مرة واحدة, ودون أن
يسأل عنا, وأصبحت الصلة الوحيدة بيننا وبينه هي المكالمة التليفونية كل شهرين أو
ثلاثة, وحصلت أختي الصغرى علي شهادتها فوق المتوسطة وأكرمها ربها بالعمل وبدأت
تساعد نفسها, ثم جاءها خاطب مناسب فطلبت مني أمي الاتصال بأخي ودعوته للحضور
لمقابلة الخطيب والتفاهم معه, واتصلت به في بيته, فأجابني في ضيق بأنه مشغول ولن
يستطيع الحضور قبل شهر أو شهرين وأبلغت أمي الرسالة فاكتأبت وأوصتني بألا أبلغ
أختي بها, وبعد ثلاثة أيام طلبت مني السفر إلى القاهرة ورجاء أخي أن يرجع معي
ليقابل خطيب أختي ولو لمدة ساعة فقط ثم يرجع لحياته مرة أخرى, وأعطتني أمي عشرين
جنيها لمصاريف السفر, وركبت الأتوبيس للقاهرة وتوجهت إلى بيت أخي وطرقت الباب
ففتحته لي زوجته وحييتها بمرارة ففوجئت بها تسألني في تجهم من أنت؟
وصدمت
للحظات لكني التمست لها العذر لأنها لم ترني سوى في يوم الزفاف, وقدمت لها نفسي,
فرحبت بي في تحفظ وقادتني للصالون ثم اختفت داخل الشقة وجلست وحيدا انتظر لمدة نصف
الساعة دون أن يظهر أحد, وأخيرا جاء أخي مرتديا البيجامة والروب ومتجهم الوجه
فتهللت لرؤيته وهممت باحتضانه وتقبيله لكن جموده منعني من ذلك, وحييته فرد التحية
باقتضاب وسألني عما جاء بي فأبلغته الرسالة وأنا في قمة الحرج والارتباك فقال لي انه
لم يكن هناك داع لحضوري من مدينتي لهذا الغرض وحده, وانه سيحاول إكراما لأمنا أن
يأتي بعد أسبوعين, ثم سألني هل معك نقود للعودة؟ فأجبته بالإيجاب فنهض وقادني إلى
باب الشقة وهو يطلب مني إبلاغ تحياته لأمي وإخوته, وينصحني بالسفر على الفور قبل
أن تتوقف المواصلات! وغادرت مسكنه وأنا في قمة الخجل والاضطراب.
ورويت
لأمي ما حدث فبكت وطلبت مني أن أسامحه.. لكني طمأنتها إلى أنني لست حاقدا على أخي
أو غاضبا منه, لأنه أخي في النهاية.. وفي مقام والدي مهما فعل.
وجاء
أخي لمقابلة خطيب أختي الصغرى .. ولم تجرؤ أمي بالرغم من كل شيء على معاتبته على
شيء لأنها ضعيفة معه واكتفت بالترحيب به, وانتهى الموقف بالموافقة على الخطيب
والاتفاق معه علي التفاصيل.
وتجرأت
أمي فطلبت من أخي بعض المساعدة في جهاز أختي لأنها عملت قبل عدة شهور فقط ولم تدخر
الكثير فأشار برأسه متجهما انه سيفعل ما تسمح به ظروفه.
وخلال
فترة إعداد الجهاز أرسل أخي مساعدته وكانت مبلغا اقل بكثير مما توقعته أمي لكنها
بالرغم من ذلك دافعت عنه بأن عليه مسئوليات كبيرة خاصة بعد أن أنجب طفلا.. واقترضت
أمي وأختي الصغرى من كل أقاربنا, وقامت أختي الوسطي بعمل جمعية ادخار من اجل أختها
رغم ظروفها القاسية وكثرة أعبائها كأم لطفلين, وتزوجت في النهاية وتنفسنا الصعداء
وخلال ذلك كنت قد حصلت على شهادتي المتوسطة.. والتحقت بالخدمة العسكرية وجاء
تجنيدي في موقع قريب من القاهرة, فأمضيت فترة التجنيد كلها معتمدا على ما تعطيه لي
أمي من نقود قليلة وعلى ما أحصل عليه بالعمل في مقهى بمدينتنا خلال أيام الإجازات,
ولم أفكر مرة واحدة في اللجوء إلى أخي. وفضلت أكثر من مرة حين لا أجد وسيلة
مواصلات في الليل, المبيت في محطة السكة الحديد انتظارا لقطار الصباح, على أن اذهب
إلى بيته للمبيت فيه تخوفا من إحراجه أو من جفاء المقابلة منه ومن زوجته وانتهت
فترة الخدمة العسكرية بخيرها وشرها, ووجدت عملا مؤقتا في مدينتي بمائة وخمسين
جنيها في الشهر وحمدت الله سبحانه وتعالى على ذلك خاصة وقد خلا بيت الأسرة علي
وعلى أمي بعد زواج الأخت الصغرى, وأصبح معاش أمي ومرتبي كافيين لنفقات الحياة,
ولقد كان من الممكن أن تستمر حياتنا هادئة لولا أن أمي والأختين لا يكففن عن
الشكوى من تباعد أخي الأكبر عنا.. ومرور الشهور الطويلة دون أن يسأل عنا بمكالمة
تليفونية في بيت الجيران, أو يصل رحمه معنا, ودون أن نزوره بالطبع لأننا جميعا قد
تعلمنا الدرس ووعيناه كما مرضت أمي بالسكر والضغط والمرارة, وقمت والحمد لله
بخدمتها وعلاجها ووقف معي في كل أزمة صحية لها زوجا شقيقتي اللذان لا يتأخران عني
إذا طلبتهما في أي وقت من الليل أو النهار.
ولقد أصبح لأخي طفلان
عمر أكبرهما 6 سنوات وأصغرهما 5 أعوام ولم نرهما إلا ثلاث مرات طوال عمريهما وبعد
إلحاح شديد من أمي على أخي لكي يحضرهما معه لساعات.. أما زوجته فلم تدخل بيتنا
المتواضع في مدينتنا ولا بيتي أختي الوسطي أو الصغرى, والأمر الذي دعاني للكتابة
إليك هو أنني قد ارتبطت بفتاة متدينة من جيراننا أحبتني بالرغم من ظروفي البسيطة
وأحببتها, ووالدها مدرس بالتعليم ورجل متدين وفاضل وقد رحب بي مبدئيا رغم علمه
بأنني لا املك شيئا ولا استطيع توفير مسكن آخر سوى مسكن أمي, وكان شرطه الوحيد لكي
يقبل إعلان الخطبة هو أن يجيء أخي الأكبر مع أمي والأختين لكي يطلب يد ابنته منه.
ووعدته بذلك واتصلت بأخي وأبلغته بما حدث فرد علي بجفاء يسألني ولماذا الاستعجال؟
ومن أين ستتوافر لك نفقات الشبكة والمهر والزواج؟.. ثم طالبني بتأجيل التفكير في
الزواج نهائيا لعشر سنوات على الأقل لكي أبني نفسي وبعدها يحق لي أن أفكر فيه,
وفشلت في إقناعه بالحضور واتصلت به بعد ذلك فتحدث معي بجفاء اشد وأكد لي رفضه
الحضور وقال لي إنني إذا كنت مصرا على الخطبة فلأتقدم بدونه إلى والد فتاتي مع
أنني أكدت له أنني لا أريد شيئا منه سوى الحضور بسيارته إلى مدينتنا لبضع ساعات
يقابل خلالها والد فتاتي ويطلب يد ابنته منه, ويشعرني بأن لي أبا أتشرف به بعد
والدي يرحمه الله
.
وأقسمت
له أني لن أطالبه بأي شيء آخر بعد ذلك, فأنا رجل وأعمل وقد رجعت إلى العمل في
المقهى في المساء كل يوم لكي أدخر ثمن الشبكة, ووالد فتاتي لا يرى في ذلك أي بأس
ويقول لي إن كل عمل شريف يستحق الاحترام.. وان الكفاح في الحياة شيء جميل.
ولست
أريد من أخي هذا سوى ألا يخذلني أمام والد فتاتي ويشعره بأنني مقطوع من شجرة وليس
لي كبير يرجع إليه ويرتبط معه بكلمة.. إنني أرجوك أن تقول له أنني وأمي وشقيقتي
نحبه مهما بعد عنا, وإذا كان هو لا يفخر بنا بسبب ظروفنا البسيطة التي لا ذنب لنا
فيها فإننا نحن نفخر به لأنه أخونا أولا, ولأنه ثانيا قد اجتهد وحقق لنفسه ما
يستحقه ولكل مجتهد نصيب.. ونحن راضون بنصيبنا في الحياة ولا نحسده على نصيبه منها
لأنه كافح واجتهد لكي يحصل علي ما يريد لكنه لا يصح أن يتكبر علينا ويبتعد عنا
لمجرد أننا بسطاء الحال, فنحن أهله الذين يسوؤنا كل ما يسوؤه ويسعدنا كل ما يسعده,
ونخاف عليه من أي سوء لأن الدم لا يتحول إلى ماء أبدا يا سيدي, فهل تستطيع أن تقول
له ذلك! وهل تستطيع أن تقول له إنني شاب ومن حقي أن ارتبط بفتاة تحبني وأحبها
مثلما ارتبط هو بزوجته, ولا يحرمني من هذا الحق .. إنني موظف بسيط الحال ولست جامعيا
ومهنيا ناجحا مثله لأن لي في النهاية قلبا يخفق ويحب الخير له ولكل الناس ولا يحمل
حقدا لأحد وهل تستطيع أن تقول له انه من الخير لي ولأمي ولأخوتي ان يجيء لمقابلة
والد فتاتي ويتنازل عن شرط السنوات العشر, هذا لأن فتاتي لن تنتظرني كل هذه السنين
الطويلة وأعاهد الله وأعاهدك أنني لن أكلفه جنيها واحدا من نفقات زواجي.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
شقيقك الأكبر يا صديقي يتحسب لأن يضع يده في يد والد فتاتك فيصبح
مسئولا من الناحية الأدبية على الأقل, عن وفائك أنت بما سوف يرتبط هو به معه من
التزامات مادية بشأن الشبكة والمهر وما إلى ذلك من شئون الزواج. لكن ذلك لا يبرر
له أبدا أن يجحد حقك عليه كشقيق أصغر له في أن يكون معك حين تطلب يد فتاتك ولا أن
ينكر عليك حقك المشروع في أن يخفق قلبك بحب فتاة ترغبها وترغبك وتقبل بكل ظروفك,
وتبدي استعدادها للصبر عليك إلى أن تتدبر أمرك, فالارتباط المشروع ليس حكرا علي
الحاصلين على الشهادات الجامعية المرموقة الذين يعملون عملا مهنيا مربحا كأخيك,
وإنما هو حق لكل شاب شريف يرغب في اعفاف نفسه ويكافح بإخلاص للارتقاء بحياته
ويعتمد علي طاقته وشبابه في تحقيق آماله, ولا ينتظر من الآخرين أن يكافحوا نيابة
عنه لتحقيقها له, ومادامت فتاتك ترغب فيك وتتفهم ظروفك ووالدها يرحب بك ويشجعك علي
كفاحك فماذا يضير هذا الأخ الأكبر في أن يشرفك أمام أصهارك الجدد, ويشعرهم بكرامتك
الإنسانية وعزتك العائلية في مثل هذه المناسبة الجليلة في حياتك؟
إن
الإنسان تشتد حاجته إلى أهله في مناسبتين أساسيتين من مناسبات الحياة هما الزواج
والموت. وذوو الفضل والرحمة هم الذين ينهضون بغير دعوة لمؤازرته والوقوف إلى جانبه
في كل من هذين الموقفين.. وفي مثل ظروفك فإن هذه المؤازرة التي تتطلع إليها من
أخيك هي مؤازرة معنوية وأدبية في المقام الأول مهما اشتدت هواجسه هو من احتمال
تورطه في بعض الأعباء المالية, إذ إنه حتى ولو صدقت هذه الهواجس بعد حين ووجد نفسه
مضطرا لمساعدتك في بعض هذه الأعباء, فماذا يقض مضجعه إلى هذا الحد في ذلك, ولقد
كانت مساعدته لأخته التي أسهمت إسهاما مباشرا في تدبير نفقات تعليمه وتخرجه في كليته
المرموقة أقل كثيرا مما كان يقتضيه الوفاء والواجب العائلي أن تكون عليه مساعدته
لها, وكانت مساعدته لأخته الصغرى التي تحملت مع بقية الأسرة جفاف الحياة وشد
الأحزمة علي البطون لكي يصنع هو نجاحه, أقل من القليل الذي كان يرجي منه, فكيف
ستكون إذن مساعدته لك لو اضطرته الظروف لها وأنت الرجل الذي يكافح بشرف ليتحمل
مسئولياته.. وتؤكد له من الآن أنك لا تنتظر منه شيئا!
انه
لو فعل ذلك.. لما كان ذلك تفضلا منه, وإنما وفاء بحقكم عليه وقد شاركتم جميعا في
صنع نجاحه, بتحملكم لقسوة الحياة سنوات عصيبة توجهت خلالها معظم موارد الأسرة إليه
خلال فترة دراسته الجامعية وفيما قبل ذلك أيضا.. فما وجه العجب وقد من الله عليه
بفضله في أن يعين أخا مكافحا له علي أمره ولو كان ذلك من زكاة ماله والأقربون أولي
دائما بكل معروف من غيرهم!
وما
هذا التعالي والجفاء والتكبر الذي يعاملكم به وكأنه قد خرق السماء طولا.. لمجرد
أنه قد انتشل نفسه باجتهاده من ظروفكم البسيطة ورقي درجة من درجات السلم الاجتماعي!
وكيف
تكون الأم والإخوة هم من يستشعرون هذا التكبر والغرور في أخيهم المرموق, وهم أحق
الناس بحبه واعتزازه بهم وعطفه عليهم؟ ان شقيقك هذا قد يصلح لأن يكون مثلا أعلى
لكم في الاجتهاد والكفاح ومغالبة الظروف القاسية للارتقاء إلى حياة أفضل.. لكنه لا
يصلح أبدا لأن يكون مثلا أعلى لأي أحد في البر بالأبوين وصلة الإخوة وصلة الرحم
وفضيلة التواضع والفهم الصحيح لحقائق الحياة, ذلك انه إذا كان التكبر مذموما على
إطلاقه مع كل البشر تواضعا لله سبحانه وتعالي, واعترافا له بأنه وحده سبحانه
وتعالي من يحق له التكبر دون بقية خلقه, فإنه علي الإخوة والأقربين ليس مذموما فقط
وإنما إثم كبير لأنه يمزق الرحم التي أمر الله بها أن توصل ويغرس المرارات
والأحقاد في أعماق أحق البشر بصفاء نفوسهم تجاه بعضهم البعض وبتوادهم وتراحمهم
وتعاطفهم.
إنني
أحيي فيك صفاء قلبك تجاه أخيك بالرغم مما نالك منه من مجافاة وإبعاد, لكني على
الناحية الأخرى لا أفهم سر هذا الضعف الغريب في التعامل معه من جانب والدتك التي
لم تجرؤ حتى على معاتبته علي سوء استقباله لك حين زرته في بيته, ولا علي تحريمه
بيته عليك وعليكم جميعا وكأنما قد خرج من جلده وأصبح شخصا آخر لمجرد تحسن أحواله
الاجتماعية والمادية عنكم, ولو لامته والدتك على هذا التجافي الذي يبديه نحوكم لما
حق له أن ينكر عليها ذلك, ولو غضبت عليه وحرمته من رضاها عنه لاستحق هذا العقاب
المعنوي كل الاستحقاق ولربما نغص الإحساس بالذنب تجاهكم عليه حياته, ورده إلى
الطريق القويم فتخلصوا جميعا من هذا الضعف والانكسار تجاهه.. وتعاملوا معه كما
تتعامل الأم مع ابنها والأخ والأخت مع أخيهم, ولست أطالبكم بمقاطعته.. وحاشاي أن
أنصح بقطيعة رحم وإنما أطالبكم فقط بمعاتبته ومحاسبته محاسبة الأخ لأخيه والأم
لابنها مهما علا قدره عن مجافاته لكم وإبعادكم عنه وعن طفليه وزوجته.. كما أطالبكم
أيضا بإشعاره باستغنائكم المادي النهائي عنه لكي تهدأ هواجسه مادام قد رضي لنفسه
ذلك فلربما يعيد النظر في موقفه منكم ويطمئن قلبه إلى أنكم إنما تحتاجون إليه
إنسانيا فقط كما يحتاج هو إليكم عسى أن يفيق من غفلته قبل فوات الأوان ويدرك أنه
مهما طاول الجبال طولا فإن مصيره في النهاية إليكم وإلى مقابر الأسرة في مدينتكم
حيث لن يقوم به وينتحب عليه ويتلقي العزاء فيه بعد عمر طال أم قصر.. سواكم.
لقد
أحنقتني رسالتك هذه وما رويته فيها من مظاهر تكبر أخيك علي أقرب الناس إليه
وإبعاده لهم عنه ومجافاته لهم وتغطرسه عليهم, فتساءلت أي شيء في الوجود يبرر
للإنسان أن يعتز بنفسه بعض هذا الاعتزاز ويستشعر الكبر والتعالي على أهله؟
لقد
روي لنا ابن القارح في رسالته إلى أبي العلاء المعري التي رد عليها شاعر المعرة
برسالته الشهيرة: رسالة الغفران, أن زاهد الكوفة ابن السماك قد دخل على الرشيد وفي
يده كوب من الماء يهم بشربه, فسأله الرشيد أن يعظه, فأشار السماك إلى كوب الماء في
يد الخليفة وقال له: أرأيت لو قدر الله عليك العطش ثم قال لك لن أمكنك من شرب هذا
الكوب إلا بنصف ملكك, أكنت فاعلا ذلك؟ فقال الرشيد: نعم, فقال ابن السماك: اشرب
هناك الله. فلما شرب قال له: أرأيت يا أمير المؤمنين لو قدر الله عليك فقال لك لن
أمكنك من إخراج هذا الكوب إلا بملكك كله أكنت فاعلا ذلك؟, فقال الرشيد: نعم.
فقال
له زاهد الكوفة: إذن.. فاتق الله في ملك لا يساوي إلا إخراج بعض
الماء!
فإذا
كان هذا ثمن ملك هارون الرشيد الذي كان يقول للسحابة الهائمة في السماء: أمطري حيث
شئت فسوف يأتيني خراجك, فأي معجزة حققها شقيقك في حياته لكي يرى في نفسه ما يدعوه
إلى الاستعلاء بها علي أمه وإخوته وأهله؟
يا
صديقي الشاب لقد قلت لشقيقك كل ما يعقل الحرج قلمك عن أن يقوله.. فإن لم يكن كل ما
قيل كافيا لأن يعيده إلى رشده وإنسانيته, فلن يجدي معه قول آخر.
وأنصحك
في هذه الحالة أن ترجو والد فتاتك الرجل المتدين الفاضل أن يتنازل عن شرط التعامل
مع شقيقك هذا ويكتفي بك وبوالدتك وشقيقتيك وزوجيهما ففيهما الكفاية كل الكفاية,
إذا أبي أخوك لنفسه هذه الكرامة التي تكرمونه بها وتعلون بها من قدره أمام الآخرين.
فجزاء
من يأبي لنفسه مثل هذه الكرامة.. أن يحرم منها
وحسب
من يعميه غروره وتكبره عن أن يعتز بمن يعتزون به ويتشرفون بالانتساب إليه
ويعتبرونه نجم الأسرة الوحيد أن يحرم نفسه بيده من مثل هذا الإحساس الإنساني
الثمين, ذلك أننا في النهاية لا قيمة حقيقية لنا إلا لدى من يحبوننا ويعتزون بنا
وتنطوي صدورهم لنا على مشاعر الحب والإكبار والإعزاز, وفيما عدا هؤلاء فلسنا
بالنسبة لغيرهم سوى ذرات سابحة في فضاء الكون السحيق.. لا يشعرون شعورا حقيقيا بها
ولا يفتقدونها اذا غابت.
فكيف
يباعد ذو قلب حكيم من لا قيمة له إلا لديهم ويقرب من لا يساوي لديهم في الميزان
الحقيقي شروى نقير؟
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 1999
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر