القائمة الرئيسية

الصفحات

البديل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 البديل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

البديل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

لا مفر من أن نحيا حياتنا مهما شهدت من آلام مادمنا لا نعرف طريقا مشروعا للخروج منها .

عبد الوهاب مطاوع
بريد الجمعة

أنا يا سيدي شاب من أسرة مكافحة .. كافح أبي لكي يحقق لنا مستوى أفضل من الحياة وكنت أصغر إخوتي فالتحقت بإحدى الكليات المرموقة اسما وأقمت في القاهرة وواصلت تفوقي الدراسي إلى أن وصلت إلى السنة الثالثة الجامعية ثم فوجئت بشقيقي الذي يكبرني مباشرة يأتي إلي في مسكني ذات صباح مستقلا سيارة أجرة من بلدتنا ..ويطلب مني العودة معه في نفس السيارة لأن أبي متعب بعض الشيء ويريد أن يراني فانقبض صدري على الفور واستشعرت من حضوره بسيارة أجرة تنتظره حتى يعود خطورة الأمر ..وظللت طوال الطريق أرتجف وتتلاحق أنفاسي إلى أن وصلنا بعد أطول رحلة إلى البلدة ..ففوجئت بأخي يخبرني فجأة ونحن نقترب من البيت بأن شقيقنا الأكبر قد رحل عن حياتنا في حادث أليم ..!

فاهتز كياني كله ..وانفجرت دموعي ..وقفزت صورة شقيقي الأكبر إلى مخيلتي فلم أعد أرى غيرها ..واعتصرني الحزن على شقيقي الذي كان لي أبا وأخا ..والذي عاش صباه مغتربا سائحا في بلاد الله لكي يرفع من مستوانا ..ليرانا أفضل شأنا , شقيقي الذي لم يفكر في نفسه أبدا فلم يتزوج إلا قبل شهور والذي عرفت منذ أسابيع فقط أن في أحشاء زوجته جنينا منه لم ير النور بعد يا إلهي .. شقيقي الذي احتضن الأسرة كلها وخصني بحبه ورعايته وطار بي فرحا حين أحرزت المركز الأول في بلدي في الثانوية العامة ..وظل فخورا بتفوقي عدة أشهر كأنه هو الذي تفوق وأحرز النجاح , وواجهت الواقع المؤلم وانتهت الأيام الكئيبة وعدت بعدها إلى القاهرة لأواصل دراستي وأنا موزع القلب مهموما وبعد 4 شهور من رحيل شقيقي وضعت أرملة شقيقي وليدها .. فجدد مولده أحزاننا عليه ..كأنما قد مات مرة أخرى يوم مولد هذا الوليد الذي حكمت عليه الأقدار باليُتم ..وعانيت أنا الأرق والاكتئاب والخوف من الوحدة والمجهول أكثر من عام لم تغمض خلاله عيناي قبل أن يشرق النهار ..وبدأت أزور هذا الوليد في بيت أمه فأحس تجاهه بمزيج من الحب والعطف والإشفاق وفي كل مرة أراه فيها أحس بأن الله قد ربط بين قلبي وبينه برباط لا ينفصم .

وبعد شهور بدأ زوج شقيقتي يتحدث عن أن ينشأ الوليد المحروم بيننا وأن نرعاه وفاء لذكرى أبيه ..وانتقل الحديث بعد ذلك إلى أن الموقف يتطلب التنازل عن أية اعتبارات شخصية وأن يتزوج أحدنا أنا أو شقيقي من أرملة أخي لرعاية وليده ..

ولم أرفض الفكرة ولم أتهلل لها وأعلنت موافقتي من ناحية المبدأ وفاء لشقيقي الراحل ..وشاءت إرادة الله أن توافق أرملته الشابة على الارتباط بي لنفس الدوافع , فعقدت قراني عليها في سرية تامة قبل شهور من أداء امتحاني الأخير في الكلية وعدت إلى القاهرة زوجا على الورق لأرملة شقيقي ..وأبا بالرعاية لابنه , وواصلت دراستي ووفقني الله للنجاح والحصول على شهادتي وعدت إلى بلدتي ..وأصبح ضروريا أن يتحول الزواج على الورق إلى زواج في الواقع ,فتم زفافنا الصامت في سرية أشد في شقة أخي الراحل وفي نفس البيت الذي يضمنا جميعا , ولا أستطيع أن أصف لك معاناتي النفسية وحرجي بل وخجلي وأنا أجد نفسي زوجا لأرملة شقيقي في شقته , وفوق أثاثه وتحت أنظار أمي المكلومة وأهلي المحزونين .

لكن ماذا أفعل وقد قدر الله لي ذلك ورضيت بما اختاره لي .

وصاحبت ظروف زواجي الحرجة ظروفي كخريج شاب لا يملك شيئا ويؤدي الخدمة العسكرية فلم يكن يخفف من وطئتها علي سوى رعايتي للطفل الوليد وابتسامته ودعابته وأولى كلماته التي نطق بها فكانت كلمة " بابا " وهو يشير إلي فأسالت دمع الفرح والحزن في وقت واحد في عيني , أما زوجتي فقد ربطني بها منذ البداية الإحساس بالاحترام والتقدير لظروفها وقد شملتني منذ اليوم الأول لزواجنا بحنانها ورعايتها كأنما كانت تعرف أن كلا منا يحتاج إلى أن يهون على الآخر ظروفه ومعاناته بعد أن ربطت بيننا الأقدار فبادلتها حنانا بحنان وعطفا بعطف وشيئا فشيئا أحسست ..بشرارة الحب تولد في قلبي ثم تتعمق وتتأصل داخلي فعرفت أن الله وحده هو الذي يؤلف القلوب ويهدي النفوس ..وأنني لو تركت نفسي لما اخترت أفضل مما اختارتها لي الظروف ولما وجدت في رحابها ما أجده من حب وتآلف وتعاطف معها ..ولما وجدت فيها كل ما كنت أتمناه في شريكة عمري وحياتي .


فماذا فعلت يا سيدي لكي أستحق كل هذه القسوة ؟ إنها ترفض دائما دخول شقتي والجلوس معنا وتعامل زوجتي بشيء من القسوة وأنا بمنتهى القسوة .

فماذا فعلت لكي أنال كل غضبها إلى هذا الحد ..وماذا أفعل لكيلا تموت وهي غاضبة وساخطة على أن زوجتي توصيني دائما بها وتذكرني دائما بظروفها وبصدمتها في شقيقي وبوحدتها بعد أبي وتطلب مني استرضائها ..وأنا لا أقصّر في ذلك لكنها لا تصفح ..فما هي جريمتي عندها يا سيدي وكيف أكفر عنها !

 

ولکاتب هذه الرسالة أقول :

 جريمتك عندها فيما أتصور هي أنك لم تحترس من إعلان سعادتك بالحياة مع أرملة شقيقك على مرأى منها وهي الأم المكلومة في ابنها التي تتنازعها المشاعر المتضاربة. فلقد استراحت بكل تأكيد إلى قبولك الزواج منها رعاية للصغير وصونا الحرمات الابن الراحل ..ولو لم تفعل أو لم يفعل شقيقك الآخر لكان شقاؤها بهذا الطفل اليتيم عظيما ولكانت جريمتكما عندها أكبر ! لكنها من ناحية أخرى لم تستطع أن تتقبل بعد حقائق الحياة التي قضت بأن تحل محل ابنها الراحل فتنازعتها نوازع النفس البشرية التي لم يكشف أحد بعد كل أسرارها .. وأصبحت تضيق بسعادتك الزوجية وتعتبرها " خيانة " لذكري الشقيق الراحل " ولهوا " عن الحزن عليه .. ولو کنت قد شقيت بهذا الزواج لكان شقاؤها بتعاستك هما أكبر يضاف إلى همومها , إنه أمر في غاية التعقيد .. وأنت في الحقيقة لم ترتكب جرما ولا إنما فالزواج من أرملة الشقيق الراحل الرعاية أبنائه أمر مندوب إليه في الإسلام لكن الأمر يتطلب منك بعض " الحصافة " لكي تحمي سعادتك الخاصة وتتجنب إيلام الأم الحزينة في نفس الوقت .. وتستطيع أن تحقق ذلك إذا أدركت الفارق الجوهري بين حزن الأم الأبدي على أعزائها الراحلين وبين الحزن العاقل للآخرين الذين يعرفون أن الحياة شلال صاخب لا يتوقف عن الهدير وأنه لا مفر من أن نحيا حياتنا مهما شهدت من آلام مادمنا لا نعرف طريقا مشروعا للخروج منها . وإدراكك لهذا الفارق سوف ييسر عليك أن تعرف أن حزنها على ابنها حداد دائم يتطلب منك أن تتحفظ قليلا في إظهار سعادتك الزوجية مع أرملته أمامها كما يتطلب منك بعض الحكمة في تذكيرها من حين إلى آخر بأنك قد أقدمت على هذا الزواج أصلا مدفوعا برغبتك النبيلة في رعاية ابن شقيقك وأرملته ..وأنك تنتظر أن يبلغ الابن سنا مناسبة تسمح له بتقبل الأمر لكي تضع أمامه كل الحقيقة .

ولا بأس بأن "تفتعل " بعض الهموم الزوجية وأن تُسِرّ بها إليها من حين إلى آخر وتطلب منها العون والنصيحة ولا بأس في ذلك في رأيي مادامت زوجتك تعرف به وتثق في حبك وإخلاصك لها , والحياة شديدة الوعورة وتحتاج أحيانا إلى مثل هذا التصرف الأبيض مادام الهدف شريفا وهو استرضاء الأم وشفاء نفسها مما يؤلمها ..فلا تيأس من محاولاتك معها ولا تقصر في حقها فلها العُتبى حتى ترضى , وعليك الصبر والاحتمال إلى أن تتخفف النفس من بعض أحزانها ..والزمن كفيل بمداواة الجراح في النهاية .

 

  نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1989

راجعها واعدها للنشر / نيفين علي 

reaction:
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما ستشربه غدا

تعليقات

محتوي المدونة غير منسوخ من الانترنت ولكنه جهد فريق عمل قام بجمعه من أرشيف جريدة الأهرام وإعادة كتابته ومراجعته وتهيئته للنشر ليكون مرجع شامل لمحبي الأستاذ .. لذا نرجو من السادة الأفاضل الذين يتخذون المدونة أساسا ومرجعا لمنشوراتهم عدم النسخ والاكتفاء بروابط الرسائل لحفظ مجهود فريق العمل وإلا عرضوا أنفسهم للإساءة والفضح على وسائل التواصل الاجتماعي ليكونوا عبره لغيرهم من سارقي جهد غيرهم. نيفين علي .. بسنت محمود