بطاقات الدعوة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1999

 بطاقات الدعوة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1999

بطاقات الدعوة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1999

لا يضير أحداً أن يفشل مشروع خطبته إذا روعي في ذلك الالتزام بالأعراف السائدة واحترام المشاعر والكرامات.. ولهذا فإننا لا نلوم أحداً لمجرد أنه قد فسخ ارتباطه بآخر لأسباب رآها.. حتى ولو لم تكن عادلة أو مقنعة للآخرين، لأن كل إنسان أدرى بما يحتاج إليه ولأن من لا يصلح لإنسان قد يصلح لغيره .. لكننا نلوم فقط من لا يراعي اعتبارات الآخرين وكرامتهم ومشاعرهم عند اتخاذ مثل هذا القرار.

عبد الوهاب مطاوع

بريد الجمعة


أقرأ بريد الجمعة منذ فترة طويلة .. وألاحظ في كثير من ردودك أنك تحاول جاهداً التخفيف عن بعض قرائك الذين يشكون لك ضياع بعض فرص الحياة منهم بعد أن تطلعوا إليها بشدة، وانعقدت آمالهم عليها طويلاً، فتنصحهم بعدم التوقف أمام ما لم تسمح لهم به الحياة، وبالتطلع إلى التعويض الإلهي لهم عن كل ما فاتهم من أسباب السعادة، مؤكداً لهم أنه سوف يجيء إليهم حين تأذن بذلك السماء.. وأود أن أروى لك قصتي لعلك تجد فيها ما يفيد غيري من القراء.

 

فأنا شاب في منتصف الثلاثينات من عمري، أقيم في مدينة ساحلية، وقد تطلعت منذ بضع سنوات إلى الارتباط بشريكة الحياة، فتقدمت لابنة رجل فاضل طالباً يدها.. ورحبت الأسرتان بهذا الارتباط.. وغمرتني أسرة الفتاة بحبها واهتمامها، وأحببت فتاتي باحترام كامل وأحببت كل أفراد أسرتها.. وتبادلت الأسرتان الزيارات في جو من الود والابتهاج، وتم الاتفاق على كل التفاصيل.. وتحدد موعد الخطبة المباركة واشتريت الشبكة التي سأقدمها لعروسي وطبعت بطاقات الدعوة وتم توزيعها على أفراد الأسرتين والأهل والأقارب، وقمت بتعليق إحدى هذه البطاقات على مدخل المكان الذي ستتم فيه الخطبة، وتم إعداد كل المستلزمات للحفل البهيج واشترت فتاتي فستان الشبكة الجميل، واستغرقت أنا في الأحلام الوردية الجميلة أتخيل فتاتي وأنا أضع في إصبعها دبلة الخطبة وأمي تترقرق عيناها بدموع الفرح، ووالدتها مبتهجة والإخوة من حولنا سعداء.. وتسلمت "البدلة" التي سأرتديها في حفل الخطبة وأعددت القميص وربطة العنق والجورب والحذاء اللامع، ولم يتبق سوى يومين فقط على الحدث السعيد، فإذا بوالد فتاتي يتصل بأسرتي ويعتذر لها فجأة عن عدم إتمام الخطبة بدون أية أسباب واضحة سوى هذه العبارة المبهمة "ليس هناك نصيب"!

 

وحاولت مع والد فتاتي بكل السبل أن أعرف منه سبباً محدداً للرفض المفاجئ فلم أنجح في ذلك.. وتخيلت جرحي الشديد مع الأهل والأصدقاء الذين دعوتهم لحضور الخطبة.. وكيف سأبرر لهم إلغاءها، فتوسلت لوالد فتاتي أن يحفظ عليّ كرامتي وأن يقبل بإتمام الخطبة في أضيق الحدود حتى ولو كان النية قد انعقدت لديه على رفض ارتباطي بابنته ثم بعد فترة قصيرة يقوم هو بفسخها بأي مبرر لا يسيء إليّ ولا إلى الفتاة، كالزعم مثلاً بأننا قد اختلفنا حول بعض الماديات أو حول مقر إقامتنا بعد الزواج خاصة أن أسرة فتاتي تقيم بالقاهرة وأسرتي تقيم بالمدينة الساحلية، وحاول الأب فيما علمت إشفاقاً منه على موقفي أن يفعل ذلك لكن ابنته رفضت ذلك رفضاً باتاً، وأصرت على عدم إتمام الخطبة بأي شكل من الأشكال رغم توسل الجميع لها بالعدول عن موقفها، ورغم رجائهم لها بالقبول حرصاً على كرامة شاب لم يسيء إليها في شيء.. وسلمت أمري لله.. وألغيت حجز المكان المقرر لإقامة حفل الخطبة.. واعتذرت على استحياء لمن سبق لي أن دعوتهم من الأصدقاء والزملاء إلى الحفل، وتولت أسرتي الاعتذار عني للأهل والأقرباء.. وكان موقفاً عصيباً لا أتمناه لأي إنسان في الوجود.

 

 وشعرت أنا بطعنة دامية في قلبي وكرامتي.. وتساءلت متألماً عما دعا فتاتي وأسرتها للقبول بي ثم إلى رفضي بهذه الطريقة المهينة، وماذا أخطأت فيه.. وماذا جنيته حتى أتعرض لهذه المحنة؟ ثم علمت من بعض الأهل أن فتاتي ووالدها قد علما بأني مصاب بأحد الأمراض الخلقية التي تلازم المرء طوال حياته، لكنها لا تضره ولا تؤذيه مادام يعيش حياته، محافظاً على نفسه من أية مخاطرة قد تؤدي إلى جرحه، وتعجبت لما سمعت وقد صارحت فتاتي في بداية تعارفنا بكل ذلك وأطلعت أسرتها على نتائج التحاليل الخاصة بي، واتصلت الأسرة بطبيبي المعالج فطمأنهم على حالتي، وأكد لهم أنه لا خوف من إتمام الزواج وأن الحالة التي أعانيها ليست مخيفة ولا تتطلب مني سوى الاحتراس فقط، وأنه حتى لو استدعى الأمر إجراء جراحة ذات يوم فالعلاج معروف والشفاء مضمون بإذن الله.. وما أكثر ما يتزوج أمثالي كل يوم وينجبون ويعيشون حياتهم في سعادة وأمان.

 

وانطويت على أحزاني.. وواصلت حياتي محاولاً نسيان ما حدث.. واعتزمت ألا أعرض نفسي لهذه التجربة القاسية مرة أخرى، غير أن الأيام مضت بخيرها وشرها.. وراح الأهل يلحون عليّ من جديد بالبحث عن شريكة الحياة.. فتقدمت لفتاة أخرى حاملاً معي تقاريري الطبية وقبل أن أطلب يدها أطلعتها على حالتي، وطلبت منها أن تسأل كبار الأخصائيين عن هذه الحالة قبل أن تجيبني بالرفض أو القبول، وتركت التقارير لديها راجياً فقط استعادتها في الحالتين، وأمضيت فترة الانتظار مترقباً ومؤملاً في رحمة الله سبحانه وتعالى ألا تتخلي عني هذه المرة، وبعد أيام فوجئت بمن يدعوني لزيارة الأسرة والتقدم رسمياً لطلب يد ابنتها، لأن الأسرة قد استشارت كبار الأخصائيين بالفعل فأكدوا لها صلاحيتي للزواج بلا مخاطر.. وسعدت بذلك سعادة كبيرة واعتبرته تعويض السماء لي عما تجرعته من آلام سابقة بلا ذنب جنيته.. وأقيم حفل الخطبة في موعده هذه المرة بلا مفاجآت ولا أحزان، وأثبتت لي تجربة الأيام أن السماء قد اختارت لي هذه الفتاة لكي تعوضني عن كل ما تألمت له من قبل، وأنها "السعادة المدخرة" التي تقول أنت في بعض ردودك أن السماء قد تحتفظ بها في علم الغيب لكي تهبها لمن يستحقها في الوقت المناسب.

 



ولكاتب هذه الرسالة أقول:

 

الخطأ الحقيقي في قصتك مع فتاتك السابقة هذه، ليس في تراجعها عن إتمام مشروع الارتباط بك لأسباب رأتها حتى ولو اختلفنا معها فيها، وإنما في توقيت إعلانها لك هذا الانسحاب المباغت قبل يومين فقط من حفل الخطبة وبعد إتمام كل الاستعدادات لها وتوزيع بطاقات الدعوة لحضورها، فالتعارف العائلي بهدف الارتباط هو في النهاية مشروع اتفاق قابل للاستكمال والمضي به إلى غايته، وقابل أيضاً للرجوع عنه من جانب أحد الطرفين أو كليهما لأية أسباب يقدرانها ولقد شرعت الخطبة أصلاً لكي تكون فترة للتعارف الحميم واختبار المشاعر.. وامتحان كل طرف لرغبته في الآخر، فإذا جاءت مؤشراتها إيجابية مضى في مشروع الارتباط إلى نهايته وإذا لم يحدث ذلك اعتذر عن عدم إتمامه، وبحث عن غايته في طريق آخر، وليس يضير أحداً أن يفشل مشروع خطبته لأحد إذا روعي في ذلك الالتزام بالأعراف السائدة واحترام المشاعر والكرامات.. ولهذا فإننا لا نلوم أحداً لمجرد أنه قد فسخ ارتباطه بآخر لأسباب رآها.. حتى ولو لم تكن عادلة أو مقنعة للآخرين، لأن كل إنسان أدرى بما يحتاج إليه ولأن من لا يصلح لإنسان قد يصلح لغيره.. لكننا نلوم فقط من لا يراعي اعتبارات الآخرين وكرامتهم ومشاعرهم عند اتخاذ مثل هذا القرار وخطأ فتاتك السابقة الحقيقي يتمثل في ترددها في اتخاذ القرار بالقبول بحالتك الصحية التي لا خطر فيها عليك بشرط الاحتراس والالتزام، أو بالاعتراف بعدم رغبتها أو قدرتها على المخاطرة ومعايشة التجربة بجوانبها المختلفة، والواضح هو أنها قد ترددت بين القبول والرفض غير المعلن طويلاً حتى إذا ما اقترب موعد إعلان الخطبة وأوشك الأمر أن يخرج إلى العلن.. انتصرت لديها نوازع النفس التي ترجو لصاحبها الأفضل والأرفع دائماً من كل الأشياء.. وتشفق عليه من القبول بأية مخاطرة ولو كانت هينة فباغتت الجميع بتراجعها عن الخطبة وتصرفت في ذلك وفقاً لما يتفق مع اعتباراتها الذاتية وحدها، وبغير أن تضع في حسابها أثر هذا القرار المباغت على الطرف الآخر في الارتباط أو على مشاعره وكرامته الشخصية ومشاعر أسرته وكرامتها..

 

والفضلاء من الناس هم من لا يتخذون قراراتهم واختياراتهم وفقاً لاعتباراتهم الشخصية وحدها، بغض النظر عن انعكاساتها على مصالح الآخرين ومشاعرهم وكرامتهم.

وإنما يحاولون دائماً أن يضعوا اعتبارات الآخرين في حساباتهم وأن يخففوا بقدر الإمكان من تعارض رغباتهم ومصالحهم مع رغبات الآخرين ومصالحهم، وقد يضحون في سبيل تجنب إيلام الآخرين والتخفيف عنهم بتحمل بعض العناء.. ولا عجب في ذلك لأن الحياة لا تستقيم إذا انطلق فيها البشر كالوحوش الضارية يسعون وراء أهدافهم ورغباتهم وحدها بلا قيود ولا حدود وبغير أن يضعوا في حسابهم حقوق الآخرين ومشاعرهم واعتباراتهم..

وكل ما تعرضت له من آلام وجرح للمشاعر والكرامة لم ينجم عن رفض هذه الفتاة للارتباط بك تخوفاً من حالتك الصحية.. ولو كانت قد فعلت ذلك بشكل كريم خلال فترة التعارف الأولى لما لامها أحد على اختياره، وإنما نجم أساساً عن أنها قد ضحت بكل ما تمثله لك ولأسرتك هذه الخطبة من اعتبارات بعد إعلانها للآخرين، وجابهتكم جميعاً بالخذلان بعد أن عرف الجميع موعدها. ولقد كانت تستطيع أن تخفف كثيراً من وقع الصدمة عليك لو كانت قد قبلت بإتمام الخطبة شكلياً، ثم فسخها في هدوء بعد حين، لكنها آثرت ألا تضحي بشيء من نفسها لإصلاح خطأ ارتكبته حين ترددت طويلاً قبل حسم اختيارها.. فإذا كان لا يسعد أية فتاة بالفعل أن تكون لها سابقة خطبة فاشلة حتى ولو كانت هي التي رغبت في إنهائها، وإذا لم يكن من اليسير بالفعل على أية فتاة أن تجابه الجميع في حفل عام لخطبتها وهي تضمر في نفسها فسخها بعد أيام أو أسابيع.. فلقد كان من واجب هذه الفتاة أن تضحي من نفسها بعض الشيء بقبول هذا العناء إبراء لذمتها تجاه الشاب الذي لم يخطئ في حقها، ولم يرتكب إثماً حين طلب السعادة معها بالطريق المشروع.. ولا ذنب له في حالته الصحية التي أثارت هواجسها.. وبالرغم من ذلك فلست أرى لك وقد عوضك الله عنها خيراً وسعدت بحياتك الجديدة وأنجبت طفلاً جميلاً.. وأثبتت الأيام أن حالتك الصحية لا تحول بينك وبين السعادة والأمان، لست أرى لك أن تظل منشغل الخاطر بمن رفضتك من قبل وآلمتك حتى ولو كان هذا الانشغال بعقد المقارنة بين توفيق الله سبحانه وتعالى لك في حياتك الشخصية، وتعثر حظ فتاتك السابقة، مع الحمل والإنجاب.. ذلك أنه حتى المقارنة ليست من حسن شكر الإنسان لربه على ما أنعم به عليه من نعم جليلة، لأنها لا تفيد الشكر وحده.. ولا الإشفاق على الغير وحده.. وإنما تفيد أيضاً –ولو بطريقة لا شعورية- شبهة الشماتة والتشفي في حظوظ من ظلمونا وجرحوا مشاعرنا وآثروا غيرنا علينا.

 

ولو لم تكن تفيد ذلك لما ذكرناها في موضع ذكر إساءات من أساءوا إلينا، ولاكتفينا بالشكر على النعم.. ورجونا للآخرين مثل ما نعمنا به، فالصفح الحقيقي هو النسيان التام ومرور الأعوام علينا بغير أن نتذكر من أساءوا إلينا أو ننشغل بتتبع حظوظهم في الحياة.. والشماتة فيهم أو الرثاء لهم.. لأنه حتى هذا الرثاء لا يخلو من شبهة الاعتداد بحظوظنا بالمقارنة بحظوظهم في الحياة، اللهم إلا إذا كان خالصاً لوجه الله.. وكل ذلك ليس من الصحة النفسية ولا من السلام النفسي في شيء.. فلا تسمح لهذه المشاعر السلبية بأن تفسد عليك صفاء نفسك وحسن شكرك لربك على تعويضه العادل لك عما تعرضت له من قبل ودافع عن سعادتك بتطهير النفس من كل الشوائب عسى أن يكون ذلك هو شفيعك عند ربك أن يحفظ عليك نعمه ويجزل لك منها العطاء..

          نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1987

                                              شارك في الإعداد / أحمد محمود

راجعها واعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات