الهالات السوداء .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1989
إن الحرص على نجاح الحياة الزوجية
لا بد أن يكون متكافئا لدى الطرفين وإلا تحول عند طرف منهما إلى نقطة من نقاط ضعفه
تتيح للآخر أن يبتزه إنسانيا وأن يرغمه على ما لا يريد استغلالا لحرصه على استمرار
الحياة.
عبد الوهاب مطاوع
بريد الجمعة
منذ سن مبكرة اكتشفت أنني لست طفلا يعيش حياة
عادية كأغلب الأطفال .. وإنما أنا مشكلة عائلية ! .. فلقد انفصل أبي عن امي
وعمري 4 سنوات فعادت أمي إلى بيت جدتي وبدأ أبي يزورني كل أسبوعين فيجلس في محل
البقالة الذي يقع أسفل البيت ويرسل صبي المحل لاستدعائي .. فأخرج خائفا أن أظهر
فرحتي تجنبا لنظرات أمي العاتبة .. وبعد عودتي أخضع لاستجواب دقيق منها ومن جدتي
ماذا قال لك وماذا فعل .. وهل بدا سعيدا أم تعيسا ... إلخ .
وقد ازداد جو بيت جدتي كئابة وانخرطت أمي وجدتي في
بكاء طويل وعرفت بعد قليل أن أبي تزوج .. وبعد عام من زواجه بدأت روح جديدة تسري
في البيت فجدتي تجدد الصالون المتهالك .. وأمي وخالي يستغرقان في أحاديث هامسة
طويلة .. ثم جاء إلى البيت رجل طويل أنيق حاول أن يتودد لي فشعرت بنفور غريب منه
.. وبعد قليل انتحت بي جدتي جانبا ومهدت لحديثها معي بأنني قد أصبحت "رجلا
" ويجب أن أواجه الواقع .
أما هذا الواقع الذي كان علي أن أواجهه وأنا
" رجل " في السادسة من عمره فهو أن أمي سوف تتزوج وتنتقل إلى بيت هذا
الرجل الطويل أما أنا فسأبقى مع جدتي لأونس وحدتها .. ثم سرعان ما خلا البيت من
أمي الحبيبة كما سبق أن خلت حياتي من أبي بعد انشغاله عني بزواجه وبعد شهور
اصطحبني خالي لزيارة أمي في المستشفى فقدمت لي مولودا صغيرا عرفت أنه أخي الجديد
ثم جاء أبي بعد أسابيع لزيارتي وفي يده طفلة صغيرة عرفت أيضا أنها أخت جديدة لي ..
وعشت طفولتي في بيت جدتي الحزينة دائما لسبب لا أعرفه أتلهف على موعد زيارة أمي لي
كل أسبوعين وموعد زيارة أبي لي كل عدة أسابيع .. وأتشوق إلى رؤيتهما ورؤية إخوتي
الجدد وليس من حقي زيارتهما في بيتيهما تجنبا للإحراج .. وعندما وصلت إلى السنة
الأولى الثانوية رحلت جدتي عن الدنيا .. وانفض المعزون فجلست أمي وخالي وأبي
والأقارب يتدبرون أمري بعد أن أصبحت مشكلة للجميع .. وإن نسيت كل شيء في حياتي فلن
أنسى هذه اللحظات القاسية وأقرب الناس لي يلقي كل منهم عبئي الثقيل على الآخر
فتقترح أمي أن يضمني أبي فيرفض لأن شقته ضيقة وزوجته موظفة ولن تتحمل ثم يعرض هو
عليها أن تضمني إلى أسرتها ويدفع نفقتي فتقول صراحة أن زوجها لن يستريح لي كذلك
وأنها مثقلة بالأعباء .
وهكذا ظلوا يتناقلوني كالكرة وأنا جالس صامت أحس بهوان الدنيا كله ولا أملك أن أقرر مصيري إلى أن استقر رأيهم على أن أبقى وحدي في شقة جدتي القديمة وأن أعتمد على نفسي لأني " رجل " في الخامسة عشرة من عمره !
فتقبلت قرارهم صامتا ولم يكن لي طلب سوى أن يسمحوا
لأخوتي الذين أحبهم بأن يزوروني من حين إلى آخر ليخففوا من وحدتي .. وواجهت حياتي
بمصروفي الشهري الصغير الذي كان يعطيه لي أبي .. وعرفت جفاف الحياة في أقسى صورها
وأصبحت مسئولا عن دراستي وطعامي وملابسي وتنظيف البيت وليس لي مورد سوى خمسة عشر
جنيها كنت أفعل المستحيل لكي أعيش بها ..
فكانت تمضي أيام طويلة لا أطعم فيها سوى الخبز
والحلاوة الطحينية ومع ذلك فلقد كنت أرفض دعوات خالي للغداء عنده خجلا من زوجته
ومن رثاثة ملابسي .. واعتصمت بالصبر والصلاة وتلاوة القرآن كلما ضاقت بي الدنيا أو
كلما استشعرت الخوف في الليالي الباردة في الشقة القديمة .
ووجدت في الصلاة عزائي وسلواي .. فكنت كلما ضاق
صدري قمت إلى الصلاة وأطلت التلاوة بصوت متهدج .. حتى إذا سجدت لله انهمرت دموعي
بغزارة وبللت السجادة .. وشعرت بعدها بالراحة إلى أن جاء خالي ذات يوم وأنا أصلي
وكان يحمل مفتاحا للشقة ولم أشعر به إلا بعد أن انتهيت من صلاتي فإذا به جالس إلى
جواري يرقبني ودموعه تتساقط على خده ثم ينهض فيحتضنني ويقبلني ويطلب مني الصبر
ويؤكد لي أنه ما وافق على بقائي بالشقة إلا لكيلا يضيع حقي فيها وأنه يسعى لتغيير
عقدها باسمي لتكون ضمانا لي للمستقبل .
وصدق خالي الطيب في وعده فجاءني بعد أيام واصطحبني
إلى بيت صاحبة البيت وقدمني لها فرحبت بي بعطف وشدت من أزري وطالبتني بزيارتها
كلما استطعت وغيرت عقد الشقة باسمي .
وكنت أدرك أن ظروفي لا تسمح لي بأي تهاون فركزت
جهدي في دراستي ونجحت بتفوق في الثانوية العامة والتحقت بكلية الهندسة وبعد التحاقي
بها ازدادت قسوة الحياة علي بسبب نفقاتها فخرجت للعمل صبيا في نفس محل البقالة
الذي كان أبي يرسل صبيه لاستدعائي .
ووفقني الله في احتمال كل ظروف حياتي وحماني من
الانحراف رغم معيشتي منفردا في شقة واسعة وتخرجت وأديت الخدمة العسكرية والتحقت
بإحدى شركات القطاع العام وقبضت أول مرتب لي فحرصت على شراء هدايا صغيرة لإخوتي من
أبي وإخوتي من أمي وزرتهم وطالبتهم بألا يغيبوا كثيرا عني وتفرغت لعملي بجديتي
التي اعتدت عليها منذ الصغر فأصبحت بعد عدة سنوات رئيسا لأحد أقسامها وجاءتني فرصة
العمل في الخارج فاعتذرت عنها لأني شبعت من الوحدة ولست في حاجة إلى المزيد منها ..
ثم كلفتني الشركة ذات يوم بإنهاء بعض معاملاتها في
إحدى المصالح الحكومية فترددت عليها كثيرا فتعرفت على من بيدهم الأمر .. وكان من
بينهم فتاة متوسطة الجمال تبدو دائما ساهمة وحزينة وقليلة الابتسام فلفتت نظري
وسعيت للحديث معها فرحبت بي بتحفظ, وذهبت يوما للمكتب الذي تعمل به فلم يكن به
غيرها فتشجعت وسألتها عن سبب اكتئابها المستمر .. فنظرت إلي طويلا ثم قالت أنه لا
سبب مباشر لديها لكنها ربما تكون طفولتها غير السعيدة هي التي أكسبتها هذا الطابع
فاشتعل الاهتمام بها في قلبي وألححت عليها أن تحدثني عن طفولتها فإذا بها تروي لي
قصة مماثلة تماما لقصتي تمزقت خلالها بين أبوين منفصلين ومتزوجين .. وأنها تنقلت
بين البيتين طوال حياتها ولم تسترح في أيهما .. فاستقرت مؤخرا في بيت جدها الذي
خلا من الأبناء بعد زواجهم !
يا إلهي .. لست إذن وحدي الذي ذاق نفس هذه المرارة
! ووجدت نفسي مشدودا إليها بشدة وعدت لزيارة المكتب عدة مرات .. ثم صارحتها
بمشاعري وصارحتني واتفقنا على الزواج .. وتعجبت من تصاريف القدر التي جمعت بيني
وبينها .. واقتنعت بأنه لم يكون في الدنيا اثنان حريصان على ألا يفرطا في علاقتهما
مثلنا ..فوراءنا حرمان طويل من العطف والاهتمام وكلانا سوف يبلع الزلط لكي يحافظ
على حياته الزوجية مع من يحب حتى لو ضاع الحب يوما حرصا على ألا يذيق أبناءه ما
ذاقه هو من تمزق وضياع .. وقربت بيننا الأيام التي جرى فيها الاستعداد للقران أكثر
وأكثر وكنا نتكلم لغة واحدة .. ونعرف معنى حساسيات وضعنا ..
فقررت مثلا أن تتم الخطبة والقران في بيت جدها
لنرفع الحرج عن جميع الأطراف وفي يوم زفافنا كنا العروسين الوحيدين تقريبا في
العالم اللذين لكل منهما أربعة آباء وأمهات أي ثمانية في مكانة الأب والأم بغير
أداء أي واجب من واجبات الأمهات والآباء تجاه أبنائهم ..
ورغم ذلك كنت سعيدا بأهلي وإن لم يؤدوا إلي حقوقي
وسعيدا بإخوتي .. أما هي فلاحظت تحفظها مع أبويها وزوج الأم وزوجة الأب والأخوة
غير الأشقاء وفهمت أن مرارتها القديمة معهم لم تطب بعد .. وتزوجنا في شقتي بعد أن
جددتها .. وبدأنا حياتنا معا بشوق كبير إلى أن يحتمي كل منا بالآخر من الوحدة ..
ومضت الأيام سعيدة هانئة .. وكنت أتلهف على
الإنجاب .. لكني صدمت بعدم حماسها له .. وفهمت منها أن تراثها العائلي من التعاسة
يجعلها تشفق من أن تنجب أطفالا قد يتعرضون لما تعرضنا له إذا "لا قدر الله
" وقع خلاف بيننا وتفهمت ظروفها .. فحاولت إقناعها بأن تثق في ربها وفيّ وأن
تتفاءل خيرا وأن تبعد هذه الهواجس عنها ..
وأنجبنا طفلة وطفلا ملآ علينا حياتنا .. لكن
الهواجس عادت تلح على زوجتي من جديد خوفا من المستقبل وطلبا للأمان .. فراحت تلح
علي أن أبحث عن عمل في الخارج لكي نؤمن مستقبل الطفلين حتى لا ندعهما في مهب الريح
كما وجدنا أنفسنا ..فتحمست للعمل في الخارج هذه المرة مادامت زوجتي وطفلاي معي ..
وبحثت عن عمل ووفقني الله في الحصول على عمل ممتاز بإحدى الدول وحصلت أنا وزوجتي
على إجازة من عملينا وسافرنا .
وزادت الغربة من تقاربنا ومن تماسكنا ولم يفسد
علينا أوقاتنا سوى خوفها المستمر من المجهول ومن المستقبل .. وانعكس هذا الخوف
عليها في رغبتها أن أدخر كل قرش أكسبه للأولاد .. وفي إلحاحها علي بأن أسمح لها
بالعمل هناك لكي يكون لها رصيد تستند عليه في مواجهة الحياة .. وعارضت فكرة عملها
طويلا لحاجة الطفلين إلى رعايتها لكنها أصرت .. وظهر الخلاف في حياتنا لأول مرة
فاجتنتني ونحن غريبان ولا سند لكل منا سوى الآخر ووجدت نفسي وحيدا مرة أخرى تحت
سقف واحد مع زوجتي الحبيبة وضعفت مقاومتي فوافقت .. فبكت وأكدت لي أنها تحبني ولا
تتصور لنفسها حياة إلا معي لكنها تخاف من المستقبل وتريد أن تحتمي من غدره وعملت
زوجتي بمرتب معقول كنت أضعه لها في البنك المصري أولا بأول وأكثرت من هداياي
الذهبية لها لكي تزداد إحساسا بالأمان وزدت على ذلك أن وضعت معظم مدخراتي باسم
ابني وابنتي في البنك وخصصت جزءا منها باسمها وعاد الهدوء إلى حياتنا .. لكنه هدوء
مشوب بالحذر دائما من جانبي توقعا للعواصف .
وأرسلت الشركة تستدعيني بعد 5 سنوات .. فهاجت
زوجتي وطالبتني بعدم العودة وبالاستقالة .. ورفضت أن أضحي بوظيفتي وفرصتي في
التقدم في عملي في مصر فحولت حياتي إلى جحيم .. وأشركت بعض الأصدقاء في أمرنا فأيد
البعض عودتي وأيد البعض الآخر استمراري .. فقاطعت زوجتي كل من أيد العودة ..
وأنقذني الله من هذا التمزق فوافقت الشركة على مد الإجازة سنة أخيرة .. وانتهت
السنة سريعا وتكررت المشكلة .. وزادت زوجتي من ضغطها علي هذه المرة لأستمر فغادرت
بيتي في الغربة إلى بيت أقرب أصدقائي هناك وأقامت مع زوجته وحرمتني من الهدوء
والسكينة حتى أعادتها زوجة صديقي وأقنعتها بالرضا بما اختاره لنا الله .. وعدنا
إلى بلادنا وكنا قد اشترينا " شقة تمليك " دفعت معظم أقساطها واقترب
موعد تسلمها فإذا بها تطالبني بأن أكتب هذه الشقة باسمها وأن أسجل السيارة التي
اشتريناها أيضا باسمها بحجة الأمان والمستقبل والخوف على الأطفال ووجدت الأمر
جارحا لكرامتي فحاولت أن أتفاهم معها بالحسنى فلم تزد إلا إصرارا ..
وعدت من عملي ذات يوم فوجدت الشقة خالية وفي الحوض
كيس من أكياس اللحم ينسكب عليه الماء من الحنفية لعلها كانت تستعد لطهيه حين ركبها
شيطان الخلاف فهجرت البيت فجأة وهرولت كالمجنون إلى بيت جدها فوجدتها هناك فصحت
فيها إنني لا أريد لأبنائي أن يعيشوا ضيوفا في بيت أحد فإما أن تعود معي أو أعود
بأطفالي .. فزجرها جدها ودفعها دفعا للخروج معي .
وهكذا عشنا أيامنا بين شد وجذب .. وحين تصفو تكون
كالنسيم وإن كانت حزينة وحين يأتيها هاجس المستقبل تركبها الشياطين حتى صارت حياتي
جحيما لا يطاق .. وأصبحت أتعجب هل هذه الإنسانة التي جادت علي بها الأقدار ليطمئن
إليها جانبي وتعوضني من تعاستي القديمة .
وتكررت حكاية هجرها لي وعودتها بتدخل جدها أو
أبيها عدة مرات ثم هجرت البيت نهائيا منذ سنة .. لنفس السبب وأصبحت معظم علاقتنا
تليفونيا هي في بيت جدها وأنا في مسكني ونتواصل عن طريق التليفون .. وبعد أسبوع من
مغادرتها للبيت لأول مرة ذهبت لرؤية أطفالي فقابلتني زوجتي بحياء تام وترحيب عادي
كما نرحب بالغرباء ثم طلبت مني أن أصطحب الأطفال للنزهة وشراء بعض الأشياء
الضرورية لهم .. فطلبت منها أن تأتي معي لنشتري لأبنائنا ما نريد فاعتذرت فاصطحبت
الطفلين وهبطت الدرج وهما يتقافزان حولي سعيدين .. فتذكرت فجأة نزهاتي القديمة مع
أبي وانقبض صدري وقدت السيارة وأنا لا أرى الطريق من سحابة الدموع التي ظللت عيني .
ولأن لكل شيء آخرا يا سيدي كما تقول أنت كثيرا ..
فلقد تعمق إحساسي بأنها ظلمتني ولم تقابل محاولاتي لإسعادها بأي قدر من الحرص على
إسعادي لها وبعد استقرارها في بيت جدها وفشل محاولات أهلها لإقناعها عادت هي
لعملها .. وبدأت أنا أتكيف مع وضعي وأسلم أمري لله .. وإن كانت ساعات نومي قد قلت
كثيرا وهزلت وظهرت هالات سوداء تحت عيني وفي هذه الظروف بدأت أحس باهتمام
زميلة لي في العمل وكنت غارقا في أحزاني فلم أشعر بها إلا وهي تحاول إخراجي من اكتئابي
والتسرية عني, وحاولت إدماجي في وسط الزملاء والزميلات ثم نظمت الشركة رحلة
للإسماعيلية ففوجئت بها تدفع لي الاشتراك نيابة عني لكي أخرج مع الزملاء ..
وأتشاغل عما يحزنني وفعلا ذهبت إلى الرحلة معهم .. وسريت عن نفسي قليلا وتأملتها
طويلا إنها فتاة جميلة عاشت حياة طبيعية بين أبويها .. وتتعامل مع الجميع بأدب
وباسمة دائما والجميع يحترمونها ويحبونها .. ولا تحمل كراهية لأحد وسألت نفسي
لماذا لم يهبني الله زوجة باسمة تضمد جراحي كهذه الفتاة ؟
وترددت طويلا في الاقتراب منها ثم وجدتني منساقا
إلى عالمها واشتركت في دورة اللغة الفرنسية بالمركز الثقافي الفرنسي مثلها لكي
اندمج في عالمها البهيج الذي لا يخاف من المستقبل ولا يحملني دائما هموما لا
ذنب لي فيها .
وفي غمرة محاولاتي لتضميد جراحي .. رن جرس
التليفون في شقتي في الليل وجاءني صوت زوجتي يحمل إلي كل هموم الدنيا كالعادة
الولد مرض بكذا خذه للطبيب غدا .. البنت جرحت إصبعها وتحتاج إلى فك الغرزة التي
أجريت لها .. جاء موعد القسط الأخير من الشقة فادفعه غدا .. وبينما هي تواصل
تحميلي بكل الواجبات بغير أي مقدمة .. قلت لها فجأة لماذا لا تعودين لي ونفعل كل
ذلك معا ونضم أطفالنا تحت جناحينا .. فإذا بها تكرر مطلبها القديم .. وتضعني أمام
خيار قاس هو إما هذا وإما الطلاق ! ..
الطلاق يا زوجتي الحبيبة التي عرفت مرارة التمزق
بين الأب والأم .. ومن أجل شقة لا تعنيني كثيرا لولا استشعاري فقط بالهوان لإصرارك
عليها ؟ .
نعم , وفي نوبة انفعالي قلت إذن فليكن الطلاق
وسآتي إليك بعد أسبوع لأتمم الإجراءات .
وفي اليوم التالي وجدتني أبادر بالاقتراب من
زميلتي في العمل وأسألها عن أسرتها فتدعوني ببساطة لزيارة بيتها لأن كل الزملاء
يزورونها .. وأقبل الدعوة وأذهب لزيارتها فأجد بيتا بهيجا يحب أفراده الناس ويرحبون
بهم وأجد بعض الزميلات في زيارتها والجميع سعداء .. فخرجت ورأسي يدور .. وهممت
أكثر من مرة بأن أعود إليها وأطلب يدها وأبدأ حياتي من جديد .. لكني في كل مرة
أتراجع كلما تذكرت ابني وابنتي .. وذكريات طفولتي الحزينة وعهدي لنفسي ألا أفعل
بأطفالي ما فعله بي أبواي .
إنني أكتب لك لأسألك هل صحيح أن هناك بشرا لم يكتب
الله لهم السعادة في كل حياتهم من مولدهم إلى مماتهم بدليل أنني شقيت في طفولتي
وصباي وشبابي ومازلت أشقى الآن بزوجتي ووحدتي وبم تنصحني أن أفعل هل أستجيب لطلب
زوجتي وأكتب الشقة والسيارة أم أواصل الرفض وأنفصل عنها وهل لطلبها هذا سند من
الشرع والدين أم هل تنصحني بأن أبدأ حياة جديدة مع هذه الفتاة الباسمة الواعدة
بالسعادة وهل سيغفر لي أطفالي أني بحثت عن سعادتي على حسابهم أم ماذا أفعل ؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
زوجتك يا صديقي لا تريد الطلاق في أعماقها وستكون
أول من يشقى به إذا وقع لكنها تستغل فيك خوفك النبيل من تعريض أبنائك لما تعرضت له
أنت في طفولتك وتبتزك إنسانيا بهذا الجرح القديم مع إنه جرحها هي الأخرى وكان الظن
أن تكون أحرص منك على أن تجنب أطفالها هذه التجربة الحزينة .
لكن ماذا نقول عن النفس البشرية وبعض الحمقى من
الأزواج والزوجات الذين يتعاملون فيما بينهم بقانون من قوانين إدارة الصراع هو
قانون حافة الحرب بمعنى أن يضغط طرف على آخر ويصعد المشكلة معه حتى تصل إلى حافة
الحرب فيستسلم الطرف الآخر الأقل استعدادا لخوضها ويلبي مطالب الآخر طائعا أو
كارها ...
والمؤلم أن هذا القانون المرذول إن صلح لإدارة
الصراع بين الدول أو حتى بين الأشخاص الغرباء فإنه لا يصلح أبدا للتعامل بين شركاء
الحياة ومن ينبغي أن تقوم شركتهم على التعاطف والمودة والرحمة .. وإن صلح تجاوزا
لأي إنسان فإنه قطعا ما كان يصلح للتعامل معك وأنت الزوج المحب العطوف على أبنائه
الحريص على زوجته وعلى التمسك باستمرار الحياة معها .. فضلا عن أنه سلاح ذو حدين
قد ينقلب على من يستخدمه فيجره إلى الأزمة التي لا يريدها في أعماقه كما تنذر
الأحداث بينك وبين زوجتك .
إن الحرص على نجاح الحياة الزوجية لا بد أن يكون متكافئا
لدى الطرفين وإلا تحول عند طرف منهما إلى نقطة من نقاط ضعفه تتيح للآخر أن يبتزه
إنسانيا وأن يرغمه على ما لا يريد استغلالا لحرصه على استمرار الحياة, وأنت يا
صديقي, مدفوعا بأنبل الدوافع, كنت حريصا دائما على نجاح حياتك الزوجية ويحركك حنين
قديم إلى السعادة ورغبة إنسانية في ألا يتجرع أبناؤك كأس المرارة التي تجرعتها أنت
صغيرا وكان الظن أن تكون زوجتك أكثر حرصا منك على ذلك ولنفس الأسباب ...
لكنها بعقلية حسابية باردة استغلت فيك هذا الدافع
وشجعها تنازلك وتراجعك أمامها على التمادي حتى تجاوزت معك الحدود وقد علمتنا
التجارب المريرة أن مثل هذه الزوجة الجحود لا تثوب إلى رشدها إلا إذا هوت
مطارق الحياة فوق رأسها .. لهذا فإني أنصحك بألا تستسلم لمطلبها غير المشروع فليس
من حقها أن تطالبك بملكية الشقة وليس في الشرع ما يقضي سوى بأن تكون للزوجة ذمتها
المالية المنفصلة عن ذمة زوجها فيكون لها الحق في أن تحتفظ بمالها الموروث
والمكتسب بغير أن يختلط بمال الزوج أو يذوب فيه وأنت قد فعلت كل ذلك وأكثر وأغدقت
عليها مالك الخاص وكتبت معظم مدخراتك باسم طفليك لتشعرها بالأمان فماذا تريد هي
أكثر من ذلك ؟
إن من حق الإنسان أن يهب زوجته ما يشاء لكنه ليس
من حقها بكل تأكيد أن تطلب الهبة وأن تجعل الحصول عليها شرطا لاستمرار الحياة
الزوجية أو لعودة السلام لحياته فما هكذا تكون علاقة الزواج السليم كما أراده الله
سبحانه وتعالى .
ولو عقلت زوجتك الأمر لعرفت أن كل ما للزوج هو في
الواقع لزوجته وأبنائه طال المدى أم قصر وأن المستقبل بيد الله وحده مهما احتطنا
له من احتياطات وأن السعادة الحقيقية لا تقدر بمال قارون ولا توزن بحوائط
شقة مهما بلغت وأنه ليس في الدنيا ما يعدل ابتسامة طفل سعيد آمن بين أحضان أبويه
المحبين .. فماذا تريد من الدنيا أكثر مما أعطيتها ..
ولماذا نتخفى أحيانا وراء هواجس لا معنى لها لكي
نبرر أنانيتنا وحبنا للتسلط وفرض الإرادة .
يا صديقي اصمد لهذا الضغط غير الإنساني الذي تتعرض
له وأنذرها الإنذار الأخير بالعودة وطي الصفحة القديمة وإعادة الحياة الطبيعية
بينكما أو فليكن الانفصال بالطلاق الذي ما شرعه الله وهو أبغض الحلال إليه إلا
لمثيلات زوجتك إذا عميت قلوبهن وأبصارهن ورفضن الاستماع لنداء العقل والعدل
والإنسانية وذلك جزاء
الظالمين .
لكني لا أنصحك بالمسارعة بالارتباط بغيرها لأني
أتوقع لو بلغ الأمر حد الطلاق بينكما أن تكون صدمته كفيلة بإعادتها إلى رشدها بعد
حين .. وعندها ستكون أنت أسعد الناس بعودة الأمان والسلام إلى حياتك ليس فقط لأني
أستشف صدق رغبتك فيها وإنما أيضا لأني أدرك تماما أن مثلك لن يعرض أطفاله لما
يكرهه لهم وعلى حساب سعادته الشخصية أما إذا لم تتعلم هي درس التجربة فلاشك أنه
سيكون من حقك بعد انتظار معقول ترضي به ضميرك وربك أن تبدأ حياة جديدة وليفعل الله
ما يشاء ولست في حاجة لأن أذكرك بواجبك الإنساني تجاه طفليك اللذين أتمنى ألا تقضي
المقادير لهما بما لا تحب ولا ترضى .
أما السعادة والشقاء فلكل إنسان نصيبه المقدور
منهما وسيوفى إليه كاملا غير منقوص فلتكن سعادتك حقيقية كما كان شقاؤك حقيقيا أيضا
ولندع الله أن تزول هذه الهالات السوداء من تحت عينيك ومن حياتك إلى الأبد إن شاء
الله .
نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1989
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر