لقد أثبت علم النفس الحديث أن الإنسان الذي يعتز بأبويه وسجاياهما الأخلاقية .. ويستشعر الإعجاب الداخلي بهما يكون أقرب إلى الاتزان النفسي من غيره وأكثر ميلا إلى إتباع نهجهما الأخلاقي في الحياة والاهتداء بهما بقدر الإمكان ودافعا قويا للسير على دربهما .. وتكرار مسيرتهما الخيرة في الحياة .
عبد الوهاب مطاوع
بريد الجمعة
قرأت منذ فترة في بريد الجمعة رسالة بعنوان "رسالة إلى أب" والتي
بعثت إليكم بها إحدى القارئات .. فأثارت في نفسي الشجون والذكريات .. فقد ذكرتني
بأبي رحمة الله عليه, فقد كان أبي ممن وصفهم وقال فيهم رسول الله صلي الله عليه وسلم : "إن
لله عبادا اختصهم بقضاء حوائج الناس,، وحببهم في الخير وحبب الخير إليهم، هم
الآمنون من النار يوم القيامة".
فقد
تربي والدي رحمه الله عليه في أسرة متوسطة الحال ونشأ يتيم الأبوين, وكافح كفاحا كبيرا إلى أن أكمل تعليمه وحصل علي البكالوريوس من إحدى كليات القمة, وتخرج فيها
من الأوائل, وكانت له شقيقة تكبره لم تتزوج بعد فتكفل بها بعد تخرجه مباشرة إلى
أن تزوجت وانتقلت إلى بيت زوجها, ثم تزوج بعد ذلك وسافر إلى الخارج للحصول علي
الدكتوراه وعاد بعد 5 سنوات وتسلم عمله كمدرس بإحدى الجامعات الإقليمية الجديدة
آنذاك واستقر هناك حتى حصل على درجة أستاذ ثم أعير لإحدى الدول العربية وبعد ثلاث
سنوات من إعارته توفيت والدتنا رحمة الله عليها هناك وكان والدي آنذاك في السابعة
والأربعين من عمره وكنا نحن خمسة أبناء أكبرنا في السادسة عشرة وأصغرنا في السابعة
وعدنا لمصر بعد وفاة أمنا وأصبح والدنا أبا وأما لنا يقوم بدور الأب والأم معا ولم
يقصر يوما في أداء أي من الدورين بخلاف مسئوليته تجاه عمله وأبحاثه.
فقد
كان رحمه الله فذا بمعنى الكلمة في كل شيء حتى لقد كان يلقب بأستاذ الأساتذة في
كليته على مدى ثلاثين عاما قضاها منذ عودته من البعثة حتى ختم حياته الوظيفية
عميدا للكلية ثم أستاذا متفرغا إلى أن لقي ربه راضيا مرضيا بإذن الله, وكما كان
نابغا في عمله كان شديد الإيمان مؤديا للفروض جميعها وحينما أدى فريضة الحج لأول
مرة آثر أن يهب تلك الحجة لأمه التي لم يعرفها وماتت وهو طفل وليد لولا أن شيخا من
أصدقائه قال له إنه يجب أن يحج لنفسه أولا, ثم لمن يشاء بعد ذلك إن استطاع,
فدعا الله أن ييسر له أن يحج بعد ذلك لأمه وأبيه, واستجاب الله سبحانه وتعالى
له, وكنت كثيرا ما أسمعه يحمد الله أن أمهله ويسر له ذلك.
وكان أبي رحمة الله
بشوش الوجه, دمث الخلق كالملائكة, رقيق المشاعر كالنسيم, حلو اللسان, عذب
الحديث, لو جلست إليه لا تمل حديثه أبدا, كما كان عليه رحمه الله محبا للخير
حبا جما, ويهب لمساعدة كل من حوله غريبا كان أو قريبا, يجد في مساعدة الناس
سعادة لا تعدلها سعادة فكنا نرى غبطة وجهه حينما يقدم أي مساعدة لأي إنسان, وكم
من مرات ومواقف كنت وإخوتي نشفق عليه من إرهاقه وتعبه في سبيل مساعدة
الآخرين, ونتشاجر معه على ذلك, فيقول لنا سيأتي يوم تشكرون لي ما أفعله للناس
فما أفعله هذا لكم أنتم وليس لهم .. (صدقت والله يا أبي وها قد جاء اليوم لأجلس
وأتفاخر بما كنت تفعله ونعنفك عليه إشفاقا وخوفا).
سيدي
إنني لو أردت أن أحكي لك كيف لم يعش أبي يوما واحدا لنفسه فلن تكفيني أوراق
العالم, هكذا عاش والدي العظيم حياته من أجلنا ومن أجل كل من حوله من أهل
وأصدقاء وأحباء وتلاميذ, إلى أن جاء يوم دخلت عليه غرفته فوجدته راقدا يبكي
فهرولت إليه مستفسرا فقال لي بالحرف الواحد : (أنا إتشليت يا ابني) فمادت
الدنيا بي ولم أشعر بنفسي وارتميت في أحضانه وأنا لا أصدق ما أسمع فهدأ من روعي
حين رآني علي تلك الحالة من الهلع وأكد لي أنه شلل مؤقت سرعان ما سيشفى منه
فاستلقيت بجانبه وأنا أقبل يديه وجبينه حتى الصباح, ثم حملناه أنا وإخوتي إلى
المستشفى, وطمأننا الأطباء إلى أنها حالة نفسية تسببت في ذلك الشلل وسرعان ما
ستشفى ومكث والدي بالمستشفي عدة أيام تحسن خلالها كثيرا إلى أن تماثل للشفاء,
فانتقل إلى المنزل وأصر على أن أتركه أنا وشقيقي الأصغر ونعود إلى القاهرة,
وعدنا بالفعل بعد أن تأكدنا أنه على ما يرام, وفور عودتي إلى عملي جاءني اتصال
يخبرني أن والدي قد أسلم الروح إلى بارئه مطمئنا إلى أنه قد أدى رسالته كاملة ولم
ينتظر حتى نرد له قطرة من بحر عطائه, وستدهش يا سيدي حينما أخبرك أنني كنت أرتعد
خوفا من هذا اليوم, ولكني حين سمعت خبر وفاته خررت إلى الله ساجدا متضرعا داعيا
له بالرحمة والمغفرة وأن يهون الله سبحانه وتعالى علينا فراقه.
والآن وبعد مرور عامين على فراقه أدعو الله في كل صلاة أن يكون سبحانه
وتعالى قد توفاه هو وأمي راضيين عني أنا وإخوتي وأن يتغمدهما بواسع رحمته ومغفرته
وأن يجمعنا وإياهم في الجنة بإذنه عز وجل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
بعض أسباب حرقة ألأسى علي الآباء والأمهات الراحلين هو ألا تتيح لنا الحياة أن
نشعرهم قبل الرحيل بكامل امتناننا لهم وصادق عرفاننا بجميلهم وعميق حبنا لهم
واعتزازنا بهم ومن أجمل أنواع الفخر المحمود أن يفخر الإنسان بأبيه وأمه لا لمال
أورثاه له أو جاه يتقلب في نعمائه وإنما لحسن السيرة وشرف الحياة وميراث الأخلاق
الكريمة الذي خلفاه له وهو خير الميراث فهذا هو الفخر الحقيقي, الذي ينبغي أن
يعمل كل إنسان على أن يتيحه لأبنائه ذات يوم بحسن مسيرته هو والتزامه الخلقي
والديني خلال رحلة الحياة, ولقد روى عن الشاعر الأموي جرير أن رجلا سأله ذات يوم
عن أشعر الشعراء.. فاصطحبه جرير إلى بيته ودعا والده وكان رجلا مسنا ضعيفا,
وليس من ذوي الجاه ولا المال ثم التفت للرجل وقال له: أشعر الشعراء هو من فاخر
بهذا الأب أربعين شاعرا وهزمهم جميعا!
وروي أيضا عن أبي الأسود الدؤلي أنه قال ذات يوم لبنيه:
ـ لقد أحسنت إليكم صغارا وكبارا وقبل أن تولدوا, فقالوا وكيف أحسنت إلينا
قبل أن نولد ؟ فقال: اخترت لكم من الأمهات من لا تسبون بها! في نفس هذا المعني
أنشد الرياشي مخاطبا بنيه:
فأول إحساني إليكم تخيري
لماجدة الأعراق باد عفافها
ولقد أثبت علم النفس الحديث أن الإنسان الذي يعتز بأبويه وسجاياهما الأخلاقية..
ويستشعر الإعجاب الداخلي بهما يكون أقرب إلى الاتزان النفسي من غيره وأكثر ميلا
إلى إتباع نهجهما الأخلاقي في الحياة.. والاهتداء بقدر الإمكان ولهذا فسوف
يكون إعجابك بأبيك وإيمانك بمثله العليا دافعا قويا لك للسير على دربه.. وتكرار
مسيرته الخيرة في الحياة بإذن الله .
رابط رسالة "رسالة إلى أب"
رابط رسالة الملابس الرثة تعقيبا على هذه الرسالة
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر