نحن ممن قال عنهم الأديب والشاعر جبران خليل جبران، إن بعض الناس يعطون بفرح فيكون فرحهم هذا هو مكافآتهم على عطائهم .. ليس من عطاء يرضي فاعله عن نفسه سواء عرف له متلقيه فضله أم لم يعرفه كعطاء الآباء والأمهات للأبناء,، وعطاء الابن البار لأبويه.
عبد الوهاب مطاوع
بريد الجمعة
حاولت الكتابة إليك مرات عديدة .. وفي كل مرة
كنت أتردد وأحجم عن أن أروي لك قصتي .. فأنا سيدة متوسطة العمر.. تزوجت في
شبابي لمدة عام واحد, ذقت خلاله كل ألوان العذاب من رجل لا ضمير له ومريض بالبخل
الشديد والشك وحب الذات, فحول أيامي معه إلى جحيم بالرغم من أنني كنت نعم الزوجة
المخلصة له والمتفانية في خدمته, ونظرا لأنني لست من أنصار نظرية ظل الرجل ولا
ظل الحائط فإنني لم أحتمل طباعه وطلبت منه الطلاق وتنازلت له عن كل حقوقي وكل شئ
مقابل النجاة بنفسي وطفلي الوحيد, وغادرت بيت الزوجية عائدة إلى بيت أبي وطفلي
الوحيد لا يزيد عمره على شهر واحد, وقررت ألا أخوض تجربة الزواج مرة أخرى, وأن
أعيش لابني فقط وأعطيه كل حناني وحبي واهتمامي .. وبدأت أبحث عن عمل لأعوله
به, لأنني من أسرة بسيطة, وبعد أن رفض والده أن يتحمل نفقاته بالرغم من قدرته
المالية, نكاية في, ولم ننازعه قضائيا ابتعادا عن المشاكل, وكنت الابنة
الوحيدة لأبي وأمي فاعتبرا طفلي ابنا ثانيا لهما.
وساعدني بعض المعارف في
الحصول على عمل, وبدأته فكانت ساعاته تستغرق النهار كله من الصباح حتى
المساء.. وتحملت ذلك بسعادة وكنت أترك طفلي في رعاية أمي.. وأحاول بعد عودتي
من العمل مرهقة أن أعوضه بحناني عن غيابي عنه.
ومضت الأيام وأنا سعيدة
بالرغم مما ألاقيه من عناء الحياة, وراح الجميع من حولي يلحون علي في الزواج مرة
أخرى لأنني شابة جميلة وقال لي بعضهم إن ابني سيكبر ذات يوم وسينصرف لحياته الخاصة
المستقلة ولن يشكرني حينذاك على تضحيتي من أجله بعدم الزواج فأجد نفسي وحيدة
تماما, فكان ردي عليهم دائما هو أنني مادمت سأربيه على المبادئ والقيم والأخلاق
الحميدة فلسوف يشب إنسانا عطوفا حافظا للجميل بإذن الله.
ومضت بنا الأيام والتحق
ابني بالمدرسة, وأصبح بالنسبة لي هو كل الحياة, فكنا نخرج معا كل أسبوع إلى
أجمل الأماكن, وأحاول تعويضه عن غياب الأب بالحب والحنان والهدايا والملابس
الغالية, وأحرم نفسي من متطلباتي الخاصة لأدخر له مصاريف المصيف الذي يحرص عليه
ليكون مع أطفال العائلة, وحين بلغ الشهادة الإعدادية مرضت أمي التي كانت ترعاه
في غيابي ولازمت الفراش فاضطررت للانقطاع عن العمل لكي أرعاها.. ولم يمهلها
القدر لتسعد بنجاح حفيدها الوحيد في الشهادة الإعدادية فلقيت وجه ربها قبل
الامتحان بأيام وشعرت بالحزن العميق عليها رحمها الله, وأصبت بالاكتئاب لمدة سنة
كاملة. وشعرت بالوحدة الشديدة بالرغم من وجود أبي وابني, ورجعت للعمل مرة
أخرى, وأصبحت أرجع في المساء لأقوم بشئون البيت من طهي ونظافة وغسيل إلى ما بعد
منتصف الليل.
ومضت الأعوام ثقيلة وأنا
كالطاحونة الدائرة التي لا تستريح أبدا, والابن يتقدم في مراحل العمر وطلباته
تتزايد.. وإرهاقه لي بها يتزايد أيضا مع سن المراهقة, ثم بلغ سنة الدبلوم في مدرسته المتوسطة, فبدأ يشعر ــ لدهشتي ــ بالحقد
علي لاعتقاده أنني السبب في حرمانه من أبيه, مع أن هذا الأب كان يتهرب منه حين
يتصل به أو يحاول أن يزوره خوفا من أن يطلب منه نقودا, ويدع زوجته لترد عليه
دونه, وكم مضت أعياد ومناسبات مباركة كشهر رمضان دون أن يعطيه قرشا واحدا أو
يحاول أن يزوره.
والآن وبعد كل هذا العطاء
لابني والتضحية من أجله بفرصتي في الزواج, يلومني هذا الابن ويحقد علي ويعتبرني
المسئولة عن عدم وجود أب له.. ويتهمني بعدم الصبر على حياتي مع أبيه وحرمانه من
حقه في أن تكون له أسرة طبيعية من أب وأم وبيت وأخوة.. وكأنني المسئولة وحدي عن
كل شرور الدنيا..
لقد أنهى دراسته المتوسطة وعمل..
ولا يسهم بقرش واحد في مصروف الأسرة, في حين تركت أنا عملي وأنا في أشد الحاجة
لمرتبي منه لأني شعرت بأنه محتاج إلى وجودي بجواره في هذه السن الحرجة, واكتفيت
بالاعتماد على معاش أبي.. فإذا بابني الذي كرست له حياتي, يتحول إلى قنبلة
موقوتة تنفجر في لأتفه الأسباب, ولا يمضي يوم دون أن تحدث مشكلة بيني وبينه
فيحترق دمي بسبب أسلوبه الاستفزازي في التعامل معي, وأصبح لا يتكلم معي على
الإطلاق ولا أعرف عنه أي شئ, وكل أسراره الشخصية مع أصدقائه دوني, ويتطاول علي
باللسان واليد أكثر من مرة, حتى كاد يكسر ذراعي ذات مرة حين عاتبته على تأخره
خارج البيت في إحدى الليالي دون أن يطمئنني عليه بالتليفون, كما أنه يرفع يديه
إلى السماء داعيا الله علي بالمرض, ولا يقول لي في عيد الأم كل سنة وأنت طيبة ولا يخرج معي
منذ كان عمره 12 عاما مع أن مظهري محترم وأنيق ويتهمني بأنني لا أفهم شيئا,
فإذا عاتبته على هذه المعاملة السيئة بعد كل ما قدمته له على مدى 22 عاما
أمضيتها دون زواج من أجله, أجابني باستهتار: وماذا قدمت لي؟ طلبت الطلاق من
أبي بعد سنة واحدة من الزواج؟ وطلقت منه وأنا طفل مولود عمري شهر واحد؟ أهذا هو ما
تفخرين بأنك قد قدمته لي؟
فهل يرضيك هذا يا سيدي؟
لقد عشت له 22 عاما ضاع خلالها
شبابي, في حين تزوج أبوه وأنجب وعاش حياته, فهل يكون هذا هو جائزة السماء لي
علي صبري وحرماني ورعايتي لابني طوال هذه السنوات؟
إني لم أفعل ما يغضب أبي
وأمي وكنت لهما نعم الابنة البارة بهما, فكيف لا يكون ابني بالنسبة لي كما كنت
لهما.

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لا أحد يقبل بمثل هذه
المعاملة القاسية من ابن لأمه بغض النظر عن حجم عطائها له أو نوعيته.. بل ولا
أحد يقبل بها أيضا حتى ولو لم يكن لهذه الأم أي فضل علي ابنها سوى أن حملته وهنا
على وهن, ثم توقف عطاؤها له عند ذلك الحد, فالابن مطالب بالرفق بأبويه في كل
الظروف والأحوال, وإهداره لحق أحدهما عليه في حسن الرعاية والترفق به إثم عظيم
لا يغفره الله سبحانه وتعالى لمن لا يندم عليه ندما صادقا ويستغفر ربه منه آناء
الليل وأطراف النهار, ويستدرك ما فاته من حسن الرعاية لأبويه قبل أن يفوت الأوان
ويتعذر عليه تصحيح الأخطاء وتعويض من لا يضيع حقهم عليه في الدنيا ولا في
الآخرة, فلقد جاء في الأثر أن من الذنوب ما يعجل الله العقاب عليه لمرتكبها في
الدنيا, ومنها ما يؤجل سبحانه العقاب عليه إلي الآخرة إلا عقوق الوالدين فإنه
يعجل العقاب عليه لمرتكبه في الدنيا مع ما يدخره له من عقاب في الآخرة, فليستزد ابنك إذن من عقاب الدنيا
والآخرة كما يشاء أو كما يرى نفسه جديرا به, فعلى نفسه إثم ما يفعل إن شاء أكثر
منه وإن شاء قلل أو امتنع, فلقد تذكرت قصة إمام الزهد حسن البصري حين شاهد أميرا
يضرب رجلا بالسوط فلم يستعطفه ليرحمه.. أو يترفق به وإنما قال له: والله ما
تضرب إلا نفسك, فإن شئت فكثر وإن شئت فقلل!
والحق هو أن رسالتك تكشف
لنا عن جانب آخر قد لا يعرفه البعض لما تعده بعض الأمهات تضحية كبرى من جانبهن
للأبناء تستوجب منهم دائما أن يقدروها لهن ويعرفوا لهن قدرها..
ومع أن هذه التضحية ليست
واجبا مفروضا على كل أم تجاه أبنائها, وإنما هي سخاء في الفضل يشكر من يقدمه ولا
يلام تاركه ولا ينتقص من قدره إذا امتنع عنه, إلا أنه يغيب عن بعض الأمهات إدراك
الفارق الجوهري بين نوعين من هذه التضحية, يكون تقدير الأبناء لأحدهما خالصا وخاليا
من كل شائبة, ويكون تقديرهم للثاني مركبا أو مختلطا ببعض الشوائب النفسية
لديهم!
فالأبناء يفرقون بين تضحية
الأم بعدم الزواج من أجلهم بعد رحيل الأب عن الحياة, وبين تضحية هذه الأم بنفسها
من أجلهم بتقديم نفس العطاء لهم إذا كان الحرمان من الأب قد حدث بسبب إصرار الأم
على طلب الطلاق منه لأسباب رأتها هي كافية لذلك.. ولا يراها الأبناء عادة كافية
لحرمانهم من حقهم في الحياة المستقرة بين أبوين يعيشان تحت سقف
واحد.
فإذا كان هذا الانفصال قد
تم بناء على رغبة الأم وليس رغما عن إرادتها, فإن تقدير الابن الذي تكرس حياتها
له وترفض الزواج من أجله, لهذه التضحية ولعطاء الأم من أجله قد لا يعفيها في بعض
الأحيان من لومه الباطني لها على حرمانه من الحياة العائلية الطبيعية. فكأنما
يدور الصراع داخله بين حبه لهذه الأم وتقديره لعطائها له وبين غضبه منها واتهامه
لها بالمسئولية عن هذا الحرمان.
وكلما تقدم في مدارج العمر وازدادت مطالبه من
الحياة وازدادت صعوبات الطريق, اشتد الصراع داخله بين هذين النداءين.. نداء
الحب والعرفان للأم.. ونداء اللوم لها والاتهام بالمسئولية عن متاعبه, فكأنما
يقول لنفسه إن أمه هذه سيدة عظيمة بالفعل لرفضها مغريات الزواج بعد أبيه من
أجله.. وتستحق من أجل ذلك كل الحب والاحترام والوفاء.. ولكن ما ضرها لو كانت
قد أتمت الفضل وصبرت علي حياتها مع أبي لكي أحظى مثل غيري بحياة عائلية مستقرة
ومحترمة وأتمتع بحماية الأب ورعاية الأم في الوقت نفسه؟
فإذا كان هذا الانفصال قد
وقع بعد فترة قصيرة من الزواج فإن قصر عمره يكون دليلا لدى الابن على أن أمه لم
تبذل كل ما في وسعها كلا تحرمه من الحياة المستقرة... ولم تصبر الصبر الكافي
الذي يحق لها بعده أن تقول إنها قد استنفدت كل الحيل من أجل الإصلاح. حتى لم يعد
في القوس منزع, فيشفع لها ذلك عند الابن في تخليص تقديره لتضحيتها من أي شبهة
اتهام لها بالأنانية وتغليب اعتباراتها الذاتية على مصلحته الحقيقية.. إلخ.
وهذا هو منطلق بعض الأبناء
الذين لا يغفرون في أعماقهم لأمهاتهم أو آبائهم حرمانهم من حقهم المشروع في الحياة
العائلية مهما يكن شقاء الأبوين بها.
وبغض النظر عن عدالة هذا
المنطلق أو تجنيه فإننا لابد أن نتفهمه ونضعه في حساباتنا عند اتخاذ القرارات
المصيرية في حياتنا, وأنت من حقك أن تحزني بالفعل يا سيدتي لقسوة هذا الابن
الضال معك, وأن تتساءلي عن الجائزة التي كان ينبغي له أن يقابل بها تضحيتك من
أجله.. غير إنني أقول لك في النهاية إن جوائزنا عن عطائنا لأبنائنا إن هي ضاعت
لديهم فإنها لا تضيع عند من يملك حقا منح الجوائز سبحانه وتعالى, فإن كنا نسعد
بالفعل بكل لفتة عرفان أو حب أو حنان تأتينا من جانب الأبناء وتعكس لنا تقديرهم
لعطائنا لهم, فلقد أعطيناهم من الأصل ونحن لا نفكر في عائد هذا العطاء.. ولا
في موعد سدادهم لديوننا لديهم, ولعلنا كنا نؤدي إليهم ما وهبه لنا آباؤنا
وأمهاتنا من عطاء, لكي تتواصل الأجيال وتطرد الحياة, فإن كانوا ممن لا يذهب
العرف بينهم فلقد اختاروا لأنفسهم السعادة والأمان في الدارين, فإن ضنوا علينا
بالعرفان فيكفينا أننا قد أدينا واجبنا الديني والإنساني تجاههم ولم نكن من
الظالمين.
أما المكافأة لنا عن العطاء
لهم.. فلقد قبضنا بالفعل بعضها حين استمتعنا بالعطاء لهؤلاء الأبناء وأرضينا
ضمائرنا ورعينا حدود الله فيهم.. وراقبنا هؤلاء الأبناء وهم ينمون أمامنا,
ويرضعون لبان حبنا ويتدثرون بدفء عطفنا, فكان الجزء المعجل لنا من المكافأة هو
هذا الفرح المقدس بالعطاء للأعزاء..
فنحن ممن قال عنهم الأديب
والشاعر جبران خليل جبران, إن بعض الناس يعطون بفرح فيكون فرحهم هذا هو مكافآتهم
على عطائهم.
وليس من عطاء يرضي فاعله عن
نفسه سواء عرف له متلقيه فضله أم لم يعرفه كعطاء الآباء والأمهات للأبناء, وعطاء
الابن البار لأبويه, ولهذا فإن نصيحتي لك في النهاية هي ألا تسمحي لهذا الابن
بالاجتراء عليك مرة أخرى مهما تكن الظروف والأحوال.. وبأن تتعاملي معه بتحفظ
يشعره بعدم الرضا عنه إلى أن يرجع إلي رشده ويعرف لك قدرك, على أن تسلمي في
الوقت نفسه بأنه قد شب عن الطوق وأصبحت له حياة مستقلة وعالم آخر ولتتقبلي هذه
الحقيقة بروح واقعية لتقل فرص الاحتكاك والملاحاة بينكما.. وتستقيم علاقتكما
وتتخذ شكلها السليم من جديد.
نشرت عام 2001 في باب بريد الجمعة بجريدة الأهرام
راجعها وأعدها للنشر/ نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر