البركان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
بعض
الأمهات و الآباء يسرفون أحيانا فى عقاب أولادهم بدنيا بغير أن ينتبهوا إلى أن بعض
دوافع لجوئهم إلى هذا النوع من العقاب هو "التنفيس" عن مشاعرهم المكبوتة
وأحاسيسهم الغاضبة لأسباب لا علاقة لها بأخطاء الأبناء أو الرغبة فى تربيتهم !
أنا زوجة شابة نشأت في بيت زاخر بالخلافات الزوجية
والمشاحنات المستمرة بين أبى وأمي , وعانيت إحساس الخوف الدائم من انهيار البيت
وطلاق الأبوين في أي لحظة .. وكانت أمي وعفوا فى هذا التعبير متسلطة ولا تعرف
شيئاً عن أصول التربية فكانت تضربني دائماً وتميز بيني وبين أشقائي بلا سبب مفهوم
وتقربهم منها وتغدق عليهم من حنانها ولا أنال منها سوى الضرب والإهانة والكلام
المسموم , فغرست بذلك في نفسي إحساس الخوف وكراهية البيت والرغبة فى مغادرته بأي
ثمن .
وواظبت على الاستذكار أملا في الخلاص من البيت
وخوفاً من العقاب , فتخرجت من الجامعة وعملت وتقدم لخطبتي شاب يعمل عملا مرموقاً
فوافقت على الفور لكي أتخلص من الكابوس الذي أعيش فيه .. وتزوجت ووجدت زوجي رجلا
طيباً ومحبا للحياة الأسرية ويفعل ما في وسعه لإرضائي, لكن ظروف عمله كانت تضطره
للسفر من حين إلى آخر بضعة أيام وأحياناً أسابيع فكنت أضطر خلالها للعودة إلى
البيت الذي أكرهه .. وقد سافر ذات مرة ثلاثة أسابيع فعدت إليه مضطرة وتجرعت خلالها
كل ألوان العذاب من أمي ورغم ذلك لم أحاول مضايقتها حتى يبارك الله في بيتي وزوجي
والطفلتين اللتين رزقت بهما , ومع ذلك
فما أقسى أن تحس انك غير مرغوب فيك فى بيت أهلك أو أن أشقاءك محبوبون من أمهم وأنت
مكروه بلا سبب .. وهذا ما أحسه دائما كلما اضطرتني ظروف المحافظة على المظهر العام
أمام زوجي وأسرته إلى أن أعود إلى بيت أهلي خلال سفره .. ولو تركت لنفسي لما غادرت
بيتي إلى أي جهة مهما طال غيابه.
لقد مضى على زواجي الآن عدة سنوات ومنذ أكثر من
عامين بدأت ألاحظ على نفسي شيئاً غريباً ومخيفاً في نفس الوقت , فلقد بدأت أكتشف
أنى قد تحولت مع الطفلتين تدريجياً وبدون أن أحس إلى نموذج آخر طبق الأصل من صورة أمي
الكريهة في تعاملها معي , فأصبحت بلا مبالغة كالوحش في معاملتي لإبنتى الكبرى التي
تبلغ من العمر الآن 6 سنوات فأنا دائما أضربها وبقسوة وأفقد أعصابي معها بسرعة
لأنها قليلة الاستيعاب .. فيترك الضرب أثره في جسمها وخدوشا فى وجهها ومع ذلك قد
أكرر ذلك معها بعد قليل إذا أخطأت , وما أكثر ما تخطئ .
والمؤسف
أكثر أن عاطفة الأمومة من ناحيتي تجاهها منعدمة تقريباً, أما ابنتي الصغرى فإني
أحبها ولا أعرف هل ذلك لأنها مازالت صغيرة أم لأني أفرق فى المعاملة بينهما كما
كانت تفرق أمي في المعاملة بيني وبين أشقائي وأنني بذلك أذيق إبنتى نفس الكأس التي
تجرعتها طوال حياتي .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
بعض الأمهات يسرفون أحياناً فى عقاب أولادهم
بدنياً بغير أن ينتبهوا إلى أن بعض دوافع لجوئهم إلى هذا النوع من العقاب هو
" التنفيس " عن مشاعرهم المكبوتة وأحاسيسهم الغاضبة لأسباب لا علاقة لها
بأخطاء الأبناء أو الرغبة فى تربيتهم !
وأخشى يا سيدتي أن يكون إسرافك في ضرب طفلتك بهذه
الوحشية " تنفيسا " غير إنساني عن مشاعر وأحاسيس لا علاقة لها بإبنتك
وقلة تحصيلها أو أخطائها .
ومن واجبك فى هذه الحالة أن تتوقفي لتسألي نفسك
هذه الأسئلة :
ما هو ذنب إبنتى الجميلة الصغيرة هذه في أن أمي قد
أسرفت فى ضربي بلا رحمة فى طفولتي وصباي !
وما ذنبها في أن أمي قد أشعرتني دائما بأنها لا تحبني
أو أنها تحب أخوتي وتحنو عليهم أكثر منى ..
بل وما ذنبها في أنى لا أحمل مشاعر عائلية سوية
تجاه أمي وأخوتي نتيجة لكل ما عانيت وأنني أضيق بذلك أحيانا وتتفاعل داخلي المشاعر
المتناقضة بين مظهري الوديع وباطني الصاخب بحمم البراكين فى أن تخطئ طفلتي سيئة
الحظ أي خطأ عابر حتى أجد فرصتي فيه لتفريع كل هذه الحمم والشواظ فيها !
لقد أثبتت الدراسات التربوية الحديثة أن معظم من
يستخدمون العقاب البدني مع أبنائهم ويسرفون فيه قد نشأوا هم أنفسهم على مبدأ
العقاب البدني وتلقوا منه ما فيه الكفاية فى صغرهم . وأن الإسراف فى هذا العقاب لا
يحقق شيئاً فى الأغلب الأعم إلا تحطيم شخصية الطفل وتعريض نفسيته للخطر .. ثم وهو
الأهم ترشيحه للانحراف ومعاداة المجتمع فى الكبر !
فثمة أطفال كثيرون جنى عليهم الأهل بسوء التربية
كما تفعلين الآن للأسف مع إبنتك مكررة للعجب كل أخطاء أمك معك, فأدى بهم سوء
التربية إلى المرض النفسي, وأدى بهم المرض النفسي إلى سمات خاصة أهمها العزوف عن
الاهتمام بالغير وعن الرغبة فى خدمتهم فنشأوا أعداء للمجتمع الصغير من حولهم ثم
تمادت بهم العداوة فتحولوا إلى الانحراف وربما للجريمة فى الكبر , ومن لم ينته بهم
المصير إلى هذا الحد انتهى بهم إلى الفشل على الأقل فى مجالات الحياة المختلفة !
وأنت يا سيدتي جانية ومجني عليك فى نفس الوقت فأنت
ضحية لسوء تصرف أمك معك , لهذا فقد نشأت تعرفين الكره أكثر مما تعرفين الحب , ولا
عجب فى ذلك لأن من ينشئ طفله على حبه وإحترامه , إنما ينشئه فى الحقيقة على حب
الإنسانية واحترام الحياة . لكنك تحولت إلى جانية لأنك لم تقاومي بما فيه الكفاية
هذه الآثار السلبية على شخصيتك فى حين أن كثيرين قد تعرضوا لمثل هذه المؤثرات فى
طفولتهم فاستفادوا بنفوسهم الخيرة بطبيعتها وبمغالبة النفس من دروسها وتجنبوا
أشواكها , بل وأكسبتهم تجارب الألم التى عانوها شفافية إضافية وحساسية زائدة ضد
ظلم الآخرين لأنهم عرفوا مرارته ,
فلماذا لم يكن انعكاس هذه المؤثرات عليك فى مثل
هذه النزعة الإنسانية ؟
ولماذا انعكست عليك بالقسوة السادية على إبنتك
والتمييز بينها وبين أختها الصغيرة .. ؟
إن القاعدة التي تقول إن فاقد الشئ لا يعطيه صحيحة
دائماً لكن فاقد الشئ يستطيع أيضاً أن يبدأ فى اكتسابه لكي يعطيه للآخرين وأنت
تستطيعين أن تسدلي الآن ستاراً عن ماضيك كله .. وأن تصفحي عن أمك أو تتلمسي لها
بعض الأعذار أو على الأقل تتركي حسابها عما جنته عليك لخالقها .. ثم تبدئين إخوتك
بالحب لأنهم لا ذنب لهم فى تفضيل أمهم لهم عليك.
وتأكدي أن من يتخلص من أحقاده على الآخرين وكراهيته
لهم لا يتفضل عليهم بشئ ولا يحسن إليهم وإنما يحسن إلى نفسه هو أولا لأنه يعفيها
من ثقل الحقد ومئونة الكراهية ويخفف عنها بعض أحمالها لكى تتفرغ لما هو خير وأبقى .
فإفعلى كل ذلك يا سيدتي وتذكري أن انحراف الأبناء
نفسياً على الأقل هو نسبة كبيرة منه مسئولية الأمهات والآباء وأن الطفل قد يشب
منحرفاً إذا أخفق أبواه فى أن يمنحاه الحب العاقل والفهم الحكيم والتوجيه السديد,
وإنه فى سنواته الأولى يحتاج بشدة إلى أن يستشعر حب أبويه وإلى الإحساس بالأمان
والاستقرار وبأنه مرغوب من أبويه وليس مكروها أو مرفوضاً من أحدهما , بل وإلى
الإحساس بأنه شئ له قيمته واعتباره أيضاً فى محيطه الصغير وانه لذلك فلا يجوز
الإسراف فى تسفيه كلامه وتصرفاته فى كل الأحوال , فكيف يكون الحال بضربه بوحشيه كل
يوم !
لقد تحملت يا سيدتي فاتورة الجهل التربوي والشقاق
الأسرى , والمشاحنات الزوجية بين أبويك .. وجناية التمييز بين الأخوة والأشقاء
وعرفت مرارة كل ذلك ..
فكيف هان عليك أن تديري كأسها المرة إلى فم طفلتك
الصغيرة البريئة ؟
إنني أطالبك بمراجعة نفسك .. وبالبدء فوراً فى
تغيير موقفك من طفلتك ومن الحياة بأسرها فإذا وجدت نفسك بعد حين مازلت مستغرقة فى
ضرب طفلتك بنفس الوحشية .. فلا تتردى فى طلب المساعدة النفسية قبل فوات الأوان.
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر