الهزيمة المؤقتة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002
أكتب إليك لتشير علي بما أفعل..
فأنا موظف تخطيت الخمسين من
العمر.. محبوب من زملائي ومتدين, لكن صداقاتي خارج نطاق الأسرة محدودة..
وقد رأيت زوجتي لأول مرة في حفل
زفاف شقيقتها الكبرى وأعجبت بها وأعجبت بي وتقدمت لخطبتها وتبادلنا الحب خلال فترة
الخطبة ووجدتها فتاة جذابة ومحبوبة من الجميع ثم تزوجنا وتحملنا صعوبات البداية
وظروف الحياة سنوات طويلة حتى تحسنت أحوالنا منذ بضع سنوات وأنجبنا أربعة أبناء
بلغ أكبرهم المرحلة الجامعية الآن وشهدت حياتنا الزوجية العديد من المشاكل التي
تقع في كل أسرة, لكنها مرت بسلام وإن كانت زوجتي مازالت تذكرني بها من
حين لآخر كلما ثارت بيننا مشكلة عادية من مشاكل الحياة العارضة,
وزوجتي الآن في الأربعين من
عمرها غير أنها جميلة وتبدو أصغر من سنها في حين أبدو أنا أكبر منها بصورة واضحة
الآن.
وقد لاحظت في الفترة الأخيرة
أنها تبتعد عني حين أتودد إليها.. وسألتها عن أسباب ذلك وألححت عليها فصدمتني
بقولها لي إنني رجل جاف الطباع وإنها قد فشلت في إصلاحي ولهذا فهي تريد الانفصال
عني لكي تجد لنفسها زوجا عاطفيا قبل أن يتقدم بها العمر وتضيع فرصتها في الزواج
مرة أخرى! وذهلت لما سمعته منها وشعرت بالاختناق وسألتها عما إذا
كان في حياتها رجل آخر وترغب في الانفصال عني لترتبط به فنفت ذلك بشدة,
فحاولت مناقشتها في الأمر وقلت
لها إنها إن وجدت الشخص المناسب لها من ناحية السن والظروف فلسوف يكون غالبا
متزوجا ولديه أبناء فكيف ترتبط بمن كان زوجا لأخرى وأبا؟ وتصورت أنني بذلك قد
نبهتها إلى حقيقة كانت غافلة عنها ففوجئت بها تقول لي إنها تفضل أن تكون زوجة
ثانية لرجل متزوج على الاستمرار معي!
إنني علي خلاف ما تظن بي زوجتي رجل عاطفي,
لكني لا أجيد التعبير عن نفسي
بالكلمات أو الإشارات.. وأنا حزين ومضطرب وأشعر بالهزيمة ولا أعرف
كيف أتصرف لإنقاذ أسرتي وزواجي, كما أنني لن أستطيع إذا حدث ما تريده أن أبدأ
من جديد لسني وظروفي.. فبماذا تنصحني أن أفعل.. وبماذا تنصحها؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
أن تطلب زوجة الانفصال عن زوجها
لعجزها عن احتمال الحياة معه.. أو لتحول مشاعرها تحولا نهائيا عنه..
أو لفساد العلاقة واستحالة
العشرة بينهما.. أمر مفهوم وليس من غرائب الحياة حتى ولو ترددت أمامه
طويلا فضليات أخريات يؤثرن سعادة أبنائهن وأمانهم علي بعض اعتباراتهن الشخصية..
أما أن تطلب زوجة وأم لأربعة
أبناء الانفصال عن زوجها لكي تبحث لنفسها عن زوج عاطفي قبل أن يتقدم بها العمر
وتتراجع فرصها في الزواج مرة ثانية فهو بالفعل من غير المألوف في الحياة الزوجية
والعلاقات الإنسانية, ويتناقض تناقضا كليا مع ما يسميه الفقهاء
التلطف في التعليل عند الإقدام علي الطلاق وهو ما يعدونه من كمال شروطه ويطالبون
الزوج بالالتزام به رعاية للحرمات وروابط الأبناء وسنوات العشرة السابقة بين
الطرفين, وما يطالب به الزوج في هذا الشأن تطالب به الزوجة كذلك
ولنفس الاعتبارات.
والبحث عن الأفضل ليس مبررا مشروعا ولا مقبولا للانفصال عند الفضلاء من البشر, وواجب الزوجة إذا أنكرت على زوجها بعض طباعه أن تحاول إصلاحها أو التواؤم معها أو التغاضي عنها رعاية للاعتبارات العديدة, وفي مقدمتها سعادة الأبناء فإذا استحال عليها ذلك وتعذر عليها الاحتمال لم يرغمها أحد على معاشرة من لا تطيق معاشرته.. ولكن بعد أن تكون قد استنفدت كل سبل الإصلاح ومراودة النفس على الاحتمال وكل الجهود لإنقاذ الأسرة من الانهيار وتجنيب أبنائها اضطراب الحياة ومن غير المقبول بالمرة أن تتوقف فجأة في منتصف الطريق.. وتجري حساباتها الشخصية دون النظر لأية اعتبارات أخرى, فترى نفسها في الأربعين من العمر ومازالت تبدو جميلة وصغيرة السن, وبالتالي فإنها لو انفصلت عن زوجها الآن فلقد تسعدها الأقدار بزوج أفضل منه من الناحية العاطفية ذلك أنه مؤشر خطير لفساد القيم واضطراب الأفكار.. وتراجع الإحساس الأمومي وإعلاء التفكير الفردي.. وإني لأرجو ألا يكون لما قد يعتري المرأة في سن الأربعين وما بعدها من بعض التغيرات البيولوجية والنفسية بعض الأثر في هذا التفكير المضطرب الذي قد يكون من سمات أزمة منتصف العمر لدى بعض النساء أو الرجال, ولابد لزوجتك من أن تراجع نفسها وتتفكر في مسئولياتها كأم لأربعة أبناء لن يسعدهم أن تنفصل عن أبيهم لكي تبحث عن العاطفة لدى رجل آخر ولو كان زوجا وأبا لأبناء مثلهم.. ولابد لها أيضا من ألا تغيب عنها حقيقة مهمة هي أنها زوجة وأم الآن بالفعل, وليس من اللائق أن تتجه بأحلامها وأفكارها إلى التطلع إلي السعادة مع رجل آخر ولغير أسباب جادة يتعذر معها استمرارها في حياتها الحالية, وجفاف الطبع الذي تنكره عليك زوجتك وتنفيه عن نفسك وتقول إنك رجل عاطفي في أعماقك, لكنك لا تحسن التعبير عن نفسك, ليس أمرا غير قابل للتغيير بالاستعانة بشيء من الإرادة والرغبة الصادقة في إنقاذ السفينة الموشكة على الغرق.
وبالرغم من تسليمي بأن كل إنسان سجين طبعه
إلا أن الإنسان يستطيع دائما تعديل بعض سلوكياته واكتساب سمات جديدة خلال رحلة
العمر.. وبقوة الدوافع الضرورية, ومن الممكن بالفعل أن تكتسب مهارة التعبير
العاطفي عن النفس بالقول والإشارة.. وأن تراجع شخصيتك وتتخلي عن بعض ما تعتبره
زوجتك من جفاف الطبع.. وتكتسب رقة التعامل غير أن المشكلة هي أن
تحول مشاعر الزوجة عن زوجها إلى الحد الذي تطلب فيه الانفصال عنه لمثل هذا السبب
لا يتحقق عادة نتيجة لموقف عارض أو خلاف عابر, وإنما يحدث غالبا نتيجة لتراكمات طويلة تتقطع
معها أوتار المحبة بينها وبين زوجها وترا بعد الآخر حتى تصل معه إلى نقطة اللا
عودة, فإذا كان هذا هو ما حدث بالنسبة لزوجتك فلا تفسير له إلا
أن المشاكل العديدة التي شهدتها حياتكما الزوجية لم تمض في سلام كما كنت تتصور,
وإنما خلفت آثارها التراكمية في
نفسها حتى امتلأ الإناء ولم يعد فيه متسع للمزيد, ومن المحزن حقا أن يسمع المرء من شريكة حياته
أنها لا ترغب في استمرار الحياة معه وأنها تفضل أن تكون زوجة ثانية لرجل آخر على
أن تكون الزوجة الوحيدة له. لكنه إذا واجهته زوجته بذلك فإن واجبه
الإنساني تجاه أبنائه الذين سيضارون بانفصاله عن أمهم هو أن يعطيها فرصة أخيرة
لمراجعة نفسها فيما سوف تقدم عليه من خطوة مصيرية ستترك آثارها الخطيرة علي حياة
من يرتبطون بها ولكي تتبصر موقفها جيدا ودوافعها لما سوف تقدم عليه ومدى جديتها..
فإذا أصرت على الانفصال بعد
فترة المراجعة وإعادة التفكير هذه.. فلا مفر من أن يستجيب لطلبها بغير أن يمتهن
نفسه في استجدائها الاستمرار معه, وليس مقبولا أن يتمسك بمن ترفضه لمثل هذه
الأسباب لمجرد أنه يتصور أنه سوف يعجز عن أن يبدأ حياته مرة أخرى من بعدها..ففي
بعض مواقف الحياة يكون اختيارنا لكرامتنا الإنسانية هو الاختيار الوحيد لنا..
حتى ولو تجرعنا في صمت مرارة
النبذ والخذلان. وإذا كنت تشعر الآن بالهزيمة ومرارة الإحساس بالرفض من
جانب شريك الحياة.. فإن الحياة هزائم وانتصارات..
وكما نسعد بانتصاراتنا وجولاتنا
المظفرة فيها فمن واجبنا أيضا أن نتقبل هزائمها المؤقتة حين تفرض علينا بروح عالية
وبغير أي إحساس بالدونية أو العجز أو فقدان الاعتبار, ولابد أن نتقبل الهزيمة المؤقتة..
ونتمالك أنفسنا ونستحث قدراتنا
النفسية للخروج من دائرتها.. وبدء جولة جديدة من جولات الحياة بإذن الله.
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر