قضية الموسم ! .. بقلم عبد الوهاب مطاوع من كتاب أعط الصباح فرصة

 قضية الموسم ! .. بقلم عبد الوهاب مطاوع من كتاب أعط الصباح فرصة

قضية الموسم ! .. بقلم عبد الوهاب مطاوع من كتاب أعط الصباح فرصة

سامحه الله زميلي العزيز ورطني في هذه القصة منذ نحو 30 عاماً , فقد تعلمت منها درساً أستفيد به مادامت حياتي .

وقبل أن أرويها لك لابد أن أتحدث إليك – مضطراً – عن نفسي , فأقول لك إنني إنسان مسالم لا أحب أن أنازع أحداً على شيء , ولم أشكُ أحداً للشرطة أو للقضاء طوال رحلة العمر , وطبيعتي التي لا حيلة لي فيها ترغمني على التنازل عن حقي , إذا لم يكن هناك من سبيل للحصول عليه سوى منازعة من يغتصبه والوقوف أمامه في المحكمة أو في القسم ... ومبدئي الذي أدعو إليه دائماً في كتاباتي في بريد الجمعة بالأهرام هو أني أفضّل دائماً ألا يتنازع الأهل والأقارب والأصدقاء السابقون ..وتصل منازعاتهم إلى أقسام الشرطة وساحة القضاء , مهما كانت الأسباب , وأردد دائماً أن التنازل عن الحق في مثل هذه الحالة أكرم للمرء من أن يقف في ساحة المحكمة خصماً لمن كان حتى وقت قريب من خلصائه أو من الأهل الأقربين , فإذا كان قد استباح لنفسه ما ليس من حقه , ويرفض أن يؤديه لصاحبه بالطرق الودية ..ففي السماء قاض عادل لا تضيع عنده الحقوق , ولابد أن ينتصف للمظلوم ذات يوم وينتقم من الظالم وليهنأ الغاصب مؤقتاً بما اغتصب فلن يطول الوقت حتى يدفع الثمن غالياً .

 

وأما " الأذى " الذي يتبرع به البعض ضد الآخرين فيفترون عليهم بما ليس فيهم ..أو ينهشون أعراضهم بلا مبرر ..ويدَّعون عليهم بما لم يفعلوا ويرتكبوا , فمبدئي فيه ألا أرد إيذاء أحد بإيذاء مماثل وأن أغالب نفسي وغريزة حب الانتقام الكامنة في كل إنسان لأردَّها بجهد جهيد عن الانتقام ممن تعمدوا الإساءة إليّ .

 

ولا أعتبر ذلك موقفاً سلبياً من الحياة والبشر , وإنما أعتبره تعففاً عن الصغائر , وحرصاً على عدم الانزلاق إلى نفس الهاوية التي انزلق إليها من استباح لنفسه ارتكاب الأذى ..وأتذكر دائما كلمة الإمبراطور الروماني الحكيم ماركوس أورليوس " أفضل ما تعاقب به من أساء إليك هو ألا تكون مثله " ! وكلمة العظيم عمر بن الخطاب " خير ما تعاقب به من لم يتقوا الله فينا هو أن نتقي نحن الله فيهم " وأردد كثيراً في ردودي ومقالاتي كلمة الحكيم الصيني الذي قال : " لا تقتل خصمك ولكن اجلس على حافة النهر وانتظر فلن يمر وقت طويل حتى يحمل التيار جثته إليك , في مجلسك بغير أن تلوِّث يدك بدمه ! " , وهي كلمة حكيمة تجمع بين الإيمان بالله ..وبين الفهم الصحيح للنفس البشرية ..فإذا كان خصمك قد ظلمك فلابد أن ينتقم لك ربك منه في الوقت المناسب وهذا هو الجانب الإيماني في هذه الفطرة , أما الجانب العملي الواقعي منها فهو أنك إذا كانت على حق في موقفك من خصمك فهذا يعني أنه إنسان سيء الخلق والطبع .. وكما تعامل معك بأخلاقياته فسوف يتعامل مع غيرك بها بالضرورة , ولابد بأن يصطدم بمن هو أقوى منك وأشد نكراً فلا يتردد في رد أذاه بالإيذاء وبالعقاب الأشد قسوة فيصرعه أدبياً واجتماعياً , ويُلقى مجازاً " بجثته " في النهر ..فيحملها التيار إليك في مجلسك على شاطئه , دون أن تلوث أنت يدك بدمه , ولا عجب في ذلك " فقد ينتقم الله من ظالم , ثم ينتقم من كليهما معاً " كما قال صادقاً الإمام مالك بن أنس ..

 

لهذا كله أفضِّل ألاّ أرد إيذاء أحد بإيذاء مماثل ..ودعائي المفضل إذا اشتد همي بما أعانيه من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان هو : وأُفوِّضُ أمري إلى الله .. حسبي الله ونعم الوكيل .

 

فإذا كنت قد أطلت مضطراً في حديث عن الجانب الشخصي من حياتي , فلكي ندرك فقط حالي حين اضطرتني الظروف المحرجة ذات يوم لمنازعة إنسان ما بشكل رسمي وحول شيء أتفه من التفاهة !

 

والحكاية أنني منذ نحو 30 عاماً كنت سكرتيراً للجنة النشاط الثقافي والفني بنقابة الصحفيين وكنت أنظم لأعضاء النقابة حفلات وندوات عديدة , وكان مراقب النشاط بالنقابة في ذلك الوقت صحفياً زميلاً معروفاً بصرامته وشخصيته العنيفة , ثم حدث أن أقمت حفلاً في إحدى المناسبات ووقفت أُشرف على تنظيمه وإدارته ..فتصبب العرق مني بتأثير حرارة الجو في قاعة الحفلات , وكنت أرتدي البدلة الكاملة كعادتي وأرتدي تحت الجاكيت " بلوفر " جديداً من الموهير الذي كان وقتها " صيحة " جديدة فضقت بحرارة الجو من اضطراري للوقوف خلف الكواليس وتنظيم الحفل , فدخلت حمام النقابة وخلعت البلوفر وأعدت ارتداء الجاكيت ورجعت للحفل , فما إن رأيت أحد جرسونات بوفيه النقابة حتى أعطيته البلوفر وطلبت منه أن يحفظه لي في دولابه الخاص بالبوفيه إلى ما بعد انتهاء الحفل .

 

ودخلت قاعة الحفل وواصلت إشرافي عليه إلى أن انتهى بسلام وانصرف الحاضرون فاستدعيت الجارسون وطلبت منه إحضار البلوفر فإذا به يتلعثم ..ويتهرب .. ويقول لي أنه لا يعرف أين وضعه ؟ وكان الجارسون شاباً مستهتراً تكررت منه من قبل حوادث ومغالطات فجة مماثلة ..فضقت ذرعاً بمحاولته خداعي على هذا النحو الفاجر وصرخت فيه بأنه إذا كان يريد البلوفر لنفسه فإني مستعد لأن أعطيه له هدية .. لكنه لا يصح أن يغتصبه مني بهذا الخداع الرخيص ..مع علمه بأني أستطيع كعضو في النقابة عقابه على ذلك عقاباً صارماً ..فلم يتزحزح عن موقفه وتلعثمه .

 

ولفت جدالي معه أنظار بعض زملائي فأبلغوا مراقب النشاط بالقصة , فاستشاط غضباً واندفع وراء طبيعته العنيفة ..ورفع سماعة التليفون واتصل بقسم الشرطة الذي تتبعه النقابة وطلب مني الذهاب إلى القسم لتحرير محضر رسمي بسرقة البلوفر ! يا إلهي محضر رسمي ..وقسم شرطة , من أجل بلوفر حتى ولو كان من " الموهير " الجديد وقتها ؟ لا يا سيدي إنني متنازل عنه ..ويكفيني أن تزجره أو حتى تصفعه حتى لا يكرر استهتاره هذا مع غيري ...فإذا بمراقب النشاط العنيف ينتفض غضباً ..ليس من الجارسون السارق هذه المرة ..ولكن مني أنا شخصياً لتهاوني في كرامة النقابة وتستري على هذا الفعل الشائن برفض عمل محضر رسمي به .

 

وتحدث في هذا المعنى طويلاً بانفعال , حتى خُيِّل إليّ أنني لو رفضت الذهاب إلى قسم الشرطة ..فإن كرامة نقابة الصحفيين سوف تضيع إلى الأبد ..وتكالب عليّ بعض الزملاء الحاضرين , وأيدوا المراقب في وجهة نظره ..فلم أجد مفراً من الامتثال ..ووجدت نفسي بعد قليل أسير وسط " زفة " من الزملاء ومعنا الجارسون المتهم إلى نقطة الشرطة القريبة من مبنى النقابة , واستقبلنا الضابط الشاب بحفاوة , ونظر إلى الجارسون بغيظ بعد أن سمع القصة ودبج محضره ووقعت عليه وانصرفت وعدت إلى بيتي وأنا ألوم نفسي على ضعفي مع مراقب النشاط واستجابتي لرغبته .

 

وفي مساء اليوم التالي ذهبت إلى مبنى النقابة فكان أول من سألت عنه هو الجارسون المستهتر لأعرف منه ماذا تم في المحضر , فأبلغني زملاؤه أنه محتجز في قسم قصر النيل ينتظر من يضمنه للإفراج عنه , فلم ادخل المبنى وركبت سيارتي إلى قسم قصر النيل وقابلت الضابط المختص ..وقدمت له بطاقتي الشخصية راجياً الإفراج عنه بضمانتي , وكان الضابط شاباً لطيفاً فرحب بي وبدأ في اتخاذ إجراءات الضمان , ثم توقف وهو يدقق النظر في أوراق المحضر وفي بطاقتي عدة مرات , وأخيراً رفع رأسه , وقال لي باستغراب : أنت المجني عليه في حادث السرقة !

 

فقلت له : إن الأمر كله أبسط من البساطة , فالسرقة تافهة ..والجارسون شاب مستهتر , ولعل في مجرد دخوله قسم الشرطة ردعاً كافياً له ورجوته ألا يخذلني , لأنه سيتعذر عليّ في هذا الوقت من المساء أن أعثر على زميل آخر مستعد لأن يضمن هذا الشاب , فقال لي الضابط إنه سوف يستشير في ذلك نائب المأمور , ويسأله عن إمكانية أن يقوم المجني عليه بضمان الجاني في الإفراج عنه , وغادرني إلى مكتب نائب المأمور , ثم عاد بعد دقائق وأتم الإجراءات وسلمني بطاقتي الشخصية , فشكرته وانصرفت , ثم صادفتني بعد ذلك ظروف خاصة في عملي اضطرتني للتوقف عن نشاطي النقابي والانشغال أكثر بعملي الصحفي , فامتنعت عن التردد على مبنى النقابة بضعة شهور , نسيت خلالها هذه القصة تماماً إلى أن فوجئت ذات صباح بجندي شرطة يطلب مقابلتي في مكتبي بالأهرام وقابلته فإذا به مندوب تنفيذ أحكام يسألني عن عنوان الشاب " فلان الفلاني " للقبض عليه وتنفيذ الحكم الصادر ضده بالحبس , فتعجبت , لأنه يسألني عن شاب لا أعرفه , وقلت له ذك فأجابني مستنكراً : كيف لا تعرفه وأنت المجني عليه في حادث السرقة ؟

يا ربي .." البلوفر " اللعين مرة أخرى ! وحكم بالحبس , ومتهم هارب ومطلوب مني مساعدة الجهات المختصة في العثور عليه .

 

وسألت عن الحكم الصادر ضد هذا الشاب , فإذا به حكم غيابي بالحبس لمدة شهر ! واكتأبت لما عرفت , وصرفت الشرطي مؤكداً له أنني لا أعرف عنوان هذا الشاب ولو عرفته لما صارحته به ولعنت في سرِّي مراقب النشاط بالنقابة الذي أحرجني , وورطني في تقديم البلاغ للشرطة في البداية , موهماً إياي أنني إن لم أفعل فسوف " أخون " كرامة المهنة ! ودعوت الله في سري ألا يعثروا على هذا الشاب المستهتر فهو ليس مجرماً أصيلاً وإنما شاب عابث يكفي لإصلاحه ما تعرض له من حجز بقسم الشرطة في حينه , وقد أراد بسذاجة أشد أن يصلح خطأه بعد الإفراج عنه فجاء "بالبلوفر " موضوع القضية وألقاه في أحد حمامات مبنى النقابة وعثر عليه السعاة وجاءوني به , فرفضت أن ألمسه بعد أن تشاءمت منه ومما جرّه علي من متاعب , ثم شغلتني مشاغل الحياة عن هذه القضية فنسيتها من جديد , إلى أن صحوت على رنين جرس التليفون في مسكني ذات صباح وإذا بهذا الشاب المستهتر نفسه يبلغني بأنه قد علم بحكم الحبس الصادر ضده واستأنفه وتحددت له جلسه لنظر القضية بعد أيام , ثم يسألني بعد ذلك هل سأشهد ضده في المحكمة إذا ذهبت إليها ؟ فلعنت البلوفر و الجارسون ومراقب النشاط في سري , وأبلغت الشاب أنني لا أعرف شيئاً عن المحكمة ولا عن جلساتها ..ومع ذلك فسوف أحضر الجلسة القادمة لا للشهادة ضده , وإنما لشهادة الزور لصالحه لكي أبرئه من حكم الحبس الذي ينتظره آملاً أن يكون قد تعلم الدرس واستفاد منه .

 

وسعد الشاب بذلك وأكد لي أنه سيتصل بي صباح يوم الجلسة ليذكرني بموعدها , وفي اليوم المحدد كنت قد نسيت القصة كالعادة فنمت في الـ 5 صباحاً , فإذا به يتصل بي في الـ 7 بعد ساعتين فقط ويذكرني بموعد الجلسة فنهضت من نومي مترنحاً وركبت سيارتي وذهبت إلى مبنى المحكمة وجلست بين المتقاضين من الـ 9 صباحاً حتى الـ 2بعد الظهر دون أن تُعرض القضية , وعرفت من الحاجب أنها تأجلت لموعد آخر .

 

وودعني الشاب حتى باب السيارة وهو يعتذر لي عن إزعاجي بلا طائل , ثم طلب مني مبلغاً من النقود , لأنه عاطل ولا يعمل فأعطيته ما سمحت به ظروفي , وظللت بعد ذلك أتردد على المحكمة لبضعة شهور تالية , وفي كل مرة يوقظني من نومي في الـ 7 صباحاً , واذهب لأجلس بين المتقاضين بضع ساعات وأدفع للحاجب لأعرف موعد الجلسة القادمة , وفي كل مرة ألتقي في مبنى المحكمة بمحام من معارفي وأصدقائي ورفاق السهر في مقهى سوق الحميدية , الذي كنت امضي فيه سهراتي وقتها , فأرجوه أن يدخل معنا قاعة الجلسة , ويدافع عن " المتهم " حتى تناوب على الدفاع عنه 4 من المحامين المعروفين مجاملة لي , وشاهدني أحدهم أعطي للشاب المستهتر مبلغاً صغيراً من النقود , وكان المحامي من ظرفاء عصره – رحمه الله – فقال لي معلقاً على ذلك :

 

هذه أغرب جريمة سرقة تعاملت معها في حياتي , فالجاني يبتز المجني عليه بانتظام , وكأنما هو الضحية وليس الجاني !  ثم نصحني ضاحكاً بأن أُعطي هذا الشاب المستهتر مائة جنيه وكانت وقتها مبلغاً كبيراً ..وأن أدعه ينفذ حكم الحبس لمدة شهر بدلاً من هذه المرمطة ..والاستنزاف المتوالي للجهد والنقود !

 

وأصبحت قضية " البلوفر " حديث سهرتنا في سوق الحميدية ..وجعلها المحامي الأديب الفنان عباس الأسواني , وكان من أظرف الظرفاء – رحمه الله – قضية الموسم بتعليقاته الساخرة ..الذكية ..وكان يسمي رفاق السهرة اليومية من المحامين " هيئة الدفاع " في قضية البلوفر ! ويؤكد لي أن الجارسون المتهم يرشو حاجب المحكمة سراً لكي تطول القضية وتتأجل إلى أطول فترة ممكنة ..لكي يستمر في " ابتزازي " إلى مالا نهاية باستثارة إحساسي " بالذنب " تجاهه , وقال إن من يراني وأنا أدخل قاعة المحكمة مهموماً ومكتئباً , ويرى الجارسون وهو يسير إلى جواري مبتسماً ومبتهجاً يتصور أنني " الجاني " وهو الضحية !

 

وطالت " القضية " بالفعل أكثر من عام , تكلفت خلالها من الوقت والنقود والجهد ..ما يشتري كمية بلوفرات كبيرة من أحدث الأنواع ..إلى أن جاءت الجلسة الأخيرة ونظرت القضية لأول مرة ..فلم يستغرق نظرها دقائق , وصدر الحكم "ببراءة " المتهم ..فكاد يغمي علي من الانفعال ! وتبادلت أنا وصديقي المحامي التهاني بزوال " الغمة " التي شغلتني أكثر من عام , وانصرفنا من المحكمة , ونحن نتواعد على اللقاء في المساء بالمقهى , وركبت سيارتي مبتهجاً وسعيداً فجاءني الجارسون المستهتر يشكرني ويدعو لي بالستر ..وأنا أهز رأسي مبتهجاً ..ثم اختتم شكره بـأن طلب مني مرة أخرى مبلغاً من النقود ..فوجدت صدري ينتفخ بالهواء ..ووجدتني أقول له بقوة عجيبة : مفيش يا بن ...!

 

ثم أدرت موتور السيارة وتحركت بها وأنا في قمة الابتهاج والسعادة لتحرري من " ذلي " وضعفي وإحساسي بالذنب تجاه هذا الشاب ! فهل عرفت الآن لماذا أنصح قرائي بالتنازل عن حقهم , إذا كان لا يستحق غناء النزاع حوله , وإذا لم يكن هناك سبيل لأن ينالوه ..سوى دخول قاعة المحكمة ؟

    نشرت في كتاب / أعط الصباح فرصة .. عبد الوهاب مطاوع

راجعها وأعدها للنشر
نيفين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات