
البحر الهائج .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002
إن الحياة لم تكن أبدا ترنيمة بهيجة من بدايتها حتى نهايتها وإنما كانت وسوف تظل مزيجا متعادلا من السعادة والشقاء، فإذا كان هناك من قد لا يتعادل مزيج الحياة لديهم فتكون أحزانهم طويلة وأفراحهم قليلة.. فهؤلاء هم من نطلق عليهم تعبير أبطال الحياة لأنهم يقودون غالبا سفينة العمر وسط بحر هائج مضطرب بالصعاب والعقبات، ويغالبون أقدارهم ويكافحون كفاحا مريرا من أجل البقاء غير أن هؤلاء أيضا هم أحق البشر بأن يعتزوا بصلابتهم وصمودهم أمام اعتى التحديات دون أن يفقدوا تفاؤلهم بالغد الأفضل .. وإيمانهم بأنفسهم وبحقهم العادل في أن ينالوا ذات يوم السعادة وكل طيبات الحياة.
عبد الوهاب مطاوع
بريد الجمعة
أنا شاب نشأت
في أسرة مكونة من أب وأم وثلاث شقيقات يكبرنني في السن أبلغ من العمر 33 عاما .. أما عن أمي فهي سيدة قروية غاية في الطيبة والتدين وحسن
الخلق,
وأما أبي فهو شخصية مثقفة اكتسب
خبرته وثقافته من أسفاره العديدة,
حيث كان يعمل فنيا على البواخر
التجارية التي ترسو كل يوم في ميناء من موانئ العالم, ومنها المدينة الساحلية التي نشأت فيها, وقد تفتح وعيي للحياة وأنا في العاشرة من عمري فوجدت أبي
يسافر كثيرا ويجوب العالم على السفن التي يعمل عليها, فيمكث في كل رحلة عدة شهور ثم يعود حاملا من خيرات
الدنيا ما يستطيع أن يحمله من أجهزة كهربائية وملابس وهدايا ولعب وخلافه, فتعم الفرحة أرجاء البيت كله بل وتمتد أيضا إلى بيوت
الجيران الذين اعتادوا أن يأتوا إلينا لتهنئة أبي بالوصول وأخذ ما يعطيه لهم من
هدايا.
ويبقى أبي معنا شهرا أو أكثر
قليلا يكون قد انفق فيه كل ما معه من نقود وباع ما باع من الأشياء التي احضرها معه
من الخارج كالأجهزة الكهربائية مثلا,
وما أن يفعل ذلك حتى يستعد مرة
أخرى للذهاب في رحلة أخرى على سفينته التجارية ونستعد مرة أخرى لكي نحيا أنا
وشقيقاتي وأمي دون والدنا وتستعد أمي لتحمل عبء تربيتنا بمفردها من جديد ومتابعة
دراستنا في مراحل التعليم المختلفة.
وبالرغم من إنني كنت الابن
الوحيد بين ثلاث شقيقات وأنا أصغرهن فلم أكن طفلا مدللا أبدا وكنت على العكس من ذلك
.. طفلا مهذبا هادئ الطباع مجتهدا في دروسي.
وبعد عدة أشهر رجع أبي كعادته
محملا بالهدايا وحاملا إلينا مفاجأة رائعة هي أنه قد قرر البقاء نهائيا معنا في
مصر دون سفر,
وفرحنا أنا وشقيقاتي كثيرا بذلك
لكن والدتي لم تشاركنا الفرحة,
لأنه بذلك قد انقطع مورد رزقنا
ورحنا أنا وشقيقاتي نرسم صورة مشرقة لحياتنا بعد بقاء والدنا معنا, وتصورنا وضعنا الجديد بعد لم شمل الأسرة ولم نفكر مطلقا
في المستقبل وما قد يحمله لنا من مفاجآت.
بقي أبي في المنزل دون عمل
لمرضه وبحثت شقيقتي الكبرى عن عمل فوجدته بأحد النوادي العائلية على كورنيش
مدينتنا الساحلية وأثرت شقيقتاي الوسطي والصغرى تكملة تعليمهما وأسرعت أنا ابحث عن
عمل "وأنا ابن العاشرة" فوجدت لي شقيقتي الكبرى التي كانت قد حصلت على
دبلوم التجارة عملا لدى احد محلات بيع الثلج والذي يقوم بتوريد الثلج إلى النادي
الذي تعمل به,
وقد اضطررنا لذلك لأن والدي لم
يدخر قرشا واحدا لمثل هذا اليوم الذي ستتقدم به السن ويعجز عن تحمل عمله على السفن
وهكذا اضطررت أنا للخروج إلى ميدان العمل وأنا في العاشرة من عمري وعملت لدى بائع
الثلج ورحت أحمل على يدي وصدري ألواح الثلج طوال أشهر الصيف بدلا من أن العب مع
أبناء الجيران لأبدد عناء المذاكرة طوال العام بالاستمتاع بأجازة الصيف مثل قرنائي, وكنت احمل الجنيهات الخمسة التي أتسلمها كأجر أسبوعي, واجري لاشتري ما استطيع شراءه من طلبات المنزل, واضع ما يتبقى منها في يدي والدتي لتشتري أدوية لوالدي
وتصرف على المنزل مستعينة براتب شقيقتي الكبرى
.
ولم يتنازل أبي للأسف أبدا عن
مستوي المعيشة الذي اعتاد عليه خلال سنوات سفره وكسبه بغير حساب. . وكان
ذلك يمثل وحده عبئا كبيرا علينا.
وعلى مصروف المنزل, كما كان أيضا سببا أساسيا في المشكلات التي تفجرت بين
والدي ووالدتي التي رأت انه يجب أن نغير من عادات إنفاقنا ليتفق مع وضعنا المادي
الجديد,
ودخلنا البسيط للغاية.
وانقضت أشهر الصيف, وبدأت المدارس تفتح أبوابها, وبدأت أعاني كحة غريبة تستمر معي طوال اليوم ولا تغيب
عني إلا ساعات قليلة بسبب الثلج الذي كنت احمله على صدري طوال أشهر الصيف, وذهبت إلى الأطباء وسمعت تشخيصات مختلفة منهم, كل منها يصيبني بالرعب ولكن فضل الله كان عظيما فما هي
إلا أسابيع قليلة حتى شفاني الله عـز وجل من هذه الكحة الغريبة التي كادت تقتلني
وحمدت الله تبارك وتعالى على ذلك ومضي العام الدراسي بسلام وكنت فيه مثالا للتلميذ
المجتهد الذي يعجب به كل مدرسيه,
وبدأت شقيقتي الكبرى تبحث لي عن
عمل جديد بعيدا عن بائع الثلج,
فوجدت لي هذه المرة عملا لدى
أحد تجار المواد الغذائية بالجملة
.
وبدأت عملي لدي هذا التاجر, وكان عملي منحصرا في كنس ومسح المحل وغسل سيارة صاحب
العمل وتوصيل الطلبات للعملاء بعربة يد أدفعها أمامي وأديت عملي بجد وإخلاص رغم
صغر سني,
وأدى اجتهادي في عملي إلى كسب
حب صاحب العمل,
فزاد مرتبي الأسبوعي وقربني منه
بعد أن عرف قصتي بالتفصيل وراح يعاملني وكأنني ابن من أبنائه.
ورحت اعمل وابذل كل ما في وسعي
لنيل رضا صاحب العمل أكثر وأكثر,
وأخذت الأظافر الناعمة تخشن
يوما بعد يوم,
ويمر العام الدراسي بسرعة البرق, وتأتي الأجازة الصيفية واذهب مجددا إلى عملي الذي أحببته
برغم عنائه ومشقته,
وطول ساعاته التي تمتد إلى خمس
عشرة ساعة في اليوم,
لم يكن يهونها علي سوى عطف صاحب
العمل وإشفاقه علي وعلى أحوالي وإعطائي ما تجود به نفسه بخلاف راتبي الأسبوعي
تقديرا منه لظروفي العائلية,
بل كان يصطحبني أيضا مع أبنائه
في عطلة نهاية الأسبوع لأروح عن نفسي عناء العمل طوال الأسبوع.
ومرت السنون هكذا, وتخرجت شقيقتي الوسطى في أحد المعاهد الفنية, وعملت في مدينة تبعد عن مدينتنا, واستقلت بحياتها هناك براتبها البسيط الذي يكفيها بالكاد
وواصلت شقيقتي الصغرى دراستها في احد المعاهد الفنية أيضا, وكنت وقتها قد بلغت السنة الثالثة من التعليم الثانوي.
وازدادت ظروف الحياة قسوة مع
تقدمنا في العمر واستمرار مرض والدي وزيادة مصاريف الحياة اليومية وأصبحت
المسئولية علي اكبر بعد أن تزوجت شقيقتي الكبرى وتفرغت لبيتها وزوجها دون عمل
وانقطع بذلك مورد أساسي من موارد حياتنا.
وحين حدث ذلك قررت أن اعمل طوال
العام وليس في الأجازة الصيفية فقط حتى استطيع أن أتحمل المسئولية الكبيرة الملقاة
على عاتقي,
وفعلت ذلك وكنت انظر إلى زملائي
في المدرسة الذين يهربون من المدرسة ويذهبون إلى السينما في الحفلات الصباحية وارى
نفسي ذاهبا إلى العمل وليس إلى السينما واحمد الله أن جعلني رجلا أتحمل مسئولية
أسرة بكاملها برغم صغر سني.
وزاد راتبي خلال هذه السنوات
ولله الحمد عدة مرات بفضل الله ثم بفضل صاحب العمل الذي كان يعطف علي كثيرا, وكنت أرد له الجميل بالعمل الجاد والمخلص والأمانة
المتناهية في العمل حتى راح يعتمد علي في الكثير من أعمال المحلات التي يمتلكها
خلال السنوات التي قضيتها معه.
واقترب موعد امتحانات الثانوية
العامة فجلست في المنزل قبلها بشهر واحد حتى أتمكن من استذكار دروسي التي لم أتمكن
من تحصيلها طوال العام,
وكان صاحب العمل ـ أكرمه الله ـ
يرسل لي طوال هذا الشهر راتبي الأسبوعي إلى المنزل مع أحد زملائي في العمل وكأنني
اعمل معه بالضبط,
لكنني لم أتمكن للأسف من النجاح
لقلة تحصيلي خلال الفترة القصيرة التي ذاكرت فيها, ورسبت لأول مرة في حياتي الدراسية بعد أن كنت مجتهدا
طوال السنوات السابقة,
واعتزمت أن ابذل كل جهدي في
العام التالي لأنجح بل ولأحقق أيضا مجموعا كبيرا يؤهلني للالتحاق بكلية الهندسة
التي كانت تمثل لي حلم حياتي.
وبالفعل عملت طوال العام وجلست
في المنزل هذه المرة قبل شهرين من الامتحان وذاكرت بكل ما أوتيت من قوة ونجحت
وحصلت على مجموع كبير ولله الحمد وأصبح حلم كلية الهندسة قاب قوسين أو أدني مني
لكني فوجئت بأن مجموعي تنقصه ثلاث درجات فقط لكي يمكنني أن ادخل كلية الهندسة!!
وحمدت ربي على كل حال بالرغم من
حزني لتبدد حلم حياتي.
والتحقت بإحدى الكليات النظرية
التي كنت اكرهها قبل أن ادخلها وقبل أن أرى مبانيها أو اطلع على مناهجها..
ولكنه ما باليد حيلة..
وشاء الله سبحانه وتعالى أن
يهون علي ما أنا فيه من حالة نفسية سيئة وتحضر أختي الوسطى من المدينة التي تعمل
فيها وتبشرني بأنها قد حصلت على عقد عمل بإحدى الدول العربية براتب كبير ودفعني
ذلك لأن أتقبل الأمر الواقع الخاص بكليتي وان اهتم بدروسي ومذكراتي, خاصة أن شقيقتي الوسطي ستتحمل المسئولية عني على الأقل
لحين إنهائي من الجامعة ثم آخذ الراية منها من جديد وسافرت شقيقتي بالفعل وتحملت
المسئولية وحدها طوال عام كامل,
ورجعت بعده فتعرفت على احد
الشباب ورغبت في الزواج منه وسألت عنه فوجدته غير مناسب لها بالمرة ولكنها أصرت
عليه وعارضتني بشدة وأنهت إجراءات العقد, وأجلت الزواج لحين سفرها لعملها ومحاولة إحضار عقد عمل
لزوجها ليلتحق بها وفعلت ذلك بالفعل وتوقفت منذ بداية سفر زوجها عن إرسال أي نقود
لنا بإيعاز من شريكها,
فاضطررت إلى العودة إلى العمل
مرة أخرى لدى صاحب المحلات طوال العام وأهملت دروسي وبالتالي رسبت لعدم تفرغي
للكلية وعدم حضوري المحاضرات.
وتحملت مسئولية الأسرة مرة أخرى
بعد أن تخلت شقيقتي الوسطي عنها بسبب زواجها وكانت مفاجأة زوجها لها على زواجها
منه وتسفيره إلى البلد الذي تعمل فيه بل وشراء أثاث المنزل كله على حسابها وشراء
سيارة له فور سفره إليها مباشرة,
هي أن ضربها وأهانها وظهر على
حقيقته التي حذرتها منها وأكثر من ذلك انه كان يجلس في المنزل وتعمل هي بمفردها
وتتحمل مسئولية البيت والأولاد الذين أنجبتهم منه برغم الضرب والشتم وسوء المعاملة.
أما في بيتنا فقد ساءت العلاقة
بين والدي ووالدتي كثيرا,
وازدادت المشكلات بينهما وأصبحت
شبه يومية,
ووجدت شقيقتي الوسطي ذات يوم
ترسل إلي طالبة مني أن أوافق على سفر والدتي إليها لأنها تعمل ولا تجد من يرعى
أولادها خلال ساعات عملها,
فتحفظت في البداية على هذا
الطلب لمعرفتي بطباع زوجها وسلوكياته,
ثم وافقت لكي أضع حدا للمشكلات
شبه اليومية بين أبي وأمي وعسى أن يتحسن وضع زوج شقيقتي على يد أمي.
وسافرت والدتي إلى شقيقتي
الوسطى وتحولت مشكلات والدي إلى شقيقتي الصغرى, وأسفرت ذات مرة عن طرد أبي لي, ولشقيقتي من المنزل ولم نجد حلا سوى أن ارحل مع شقيقتي
الصغرى لنقيم في غرفة متهالكة وفرها لي احد زملائي بالجامعة في منزل شبه منهار
بإيجار زهيد
.وكانت شقيقتي الصغرى مخطوبة في هذه الأثناء
فلم أجد بدا من الإسراع في زواجها لكي نتخلص من الوضع الذي نواجهه, ولكن كيف لها بالزواج وظروفنا المادية لا تخفى على أحد.
لقد عرضت علي شقيقتي الوسطي أن
أسافر للعمل في البلد الذي تعمل به لعدة سنوات اعتذر خلالها عن عدم دخولي
الامتحانات بالجامعة على أن أكمل دراستي بعد زواج شقيقتي فقبلت على الفور هذه
الفكرة برغم أنني كنت في المرحلة الثالثة في الجامعة ولم تبق أمامي سوى سنة واحدة
لإنهاء الدراسة.
وعلى الرغم من بعدي عن منزل
والدي فإني لم أنساه وكنت أزوره وأحمل له الطعام والشراب والدواء وأنظف له منزله
مرة كل أسبوع على الأقل,
واحمل ملابسه المتسخة واغسلها
وأرجعها له نظيفة مرتبة وكان يقدر لي ذلك جدا برغم ما بيننا من خلاف في حين انقطعت
عنه شقيقاتي بسبب طردنا من المنزل.
وفكرت في إرجاع والدتي مرة أخرى
إلى مصر قبل سفري لكني خشيت أن تحدث مشكلات بينها وبين والدي خلال غيابي, ففضلت بقاءها مع شقيقتي الوسطي, وأصلحت بين شقيقتي الكبرى والصغرى وأرجعت الأخيرة إلى منزل
أختها لتستقر معها لحين زواجها.
وسافرت بالفعل وما هي إلا أيام
قليلة مكثتها في منزل شقيقتي الوسطي حتى أكرمني الله عز وجل على يد شقيقتي بعمل
بإحدى المؤسسات الصغيرة رحبت به,
وطلبت من صاحب العمل تدبير مسكن
لي مع الموظفين الآخرين أيضا لأهرب من إقامتي مع شقيقتي وزوجها, وازدادت المشكلات كثيرا بين شقيقتي وزوجها حتى اضطررت
ذات مرة إلى أن ارحل بوالدتي بعيدا عنهما بعد أن اتهم زوج شقيقتي والدتي بأنها
السبب فيما يحدث من مشكلات بينه وبين زوجته, واعدت والدتي إلى مصر وأكملت عاما في الغربة بصعوبة
ورجعت لمصر لأزوج شقيقتي الصغرى بعد أن ساعدتها شقيقتي الوسطى بمبلغ من المال دون
علم زوجها,
وتزوجت شقيقتي الصغرى بعد أن
تحملت الكثير من الديون على عاتقي واستعددت لسدادها من عائد عملي وقبل أن ارجع
لعملي بأيام رشحت شقيقتي الكبرى ابنة الجيران لكي ارتبط بها قبل سفري فتقدمت لخطبتها
ووجدتها فتاة غاية في الجمال والأدب والكمال والاحترام والالتزام وعقدت النية على
الارتباط بها برغم قسوة أحوالي المادية وبعد سفري مباشرة علمت بوفاة والدي الذي
اشتد به المرض في الفترة الأخيرة وحزنت كثيرا عليه وتألمت لفراقه وكان عزائي
الوحيد هو أنني قد وقفت بجانبه طوال حياته وحتى مماته.
وأقامت والدتي لدى شقيقتي
الكبرى بعد وفاة والدي وتحملت أنا نفقاتها ونفقات شقيقتي الكبرى ورحت أسدد الديون
التي تراكمت علي بسبب زواج شقيقتي الصغرى.. ومرت أربع سنوات وأنا اعمل بكل جهد وإخلاص وأتنقل من عمل
إلى عمل آخر بحثا عن الأفضل وعن الراتب الأعلى حتى أتمكن من الالتزام بما علي من
مصاريف تجاه أسرتي وتجاه زواجي الذي طالت مدة الإعداد له كثيرا, ونجحت بعد هذه السنوات الأربع في أن أتزوج بما استطعت أن
اشتريه من أثاث وأجهزة وشقة متواضعة وأرسلت بعد زواجي مباشرة إلى زوجتي فلحقت بي
فكانت بشير السعد بالنسبة لي وانتقلت إلى عمل جديد أفضل وازداد راتبي ولم تمض إلا
أشهر قليلة حتى بشرتني زوجتي بأنها تنتظر مولودنا الأول, وبعد أيام جاءت البشرى أيضا بأنني أصبحت مديرا في عملي
متجاوزا بعملي وإخلاصي وأمانتي من هم أيضا أقدم مني بكثير في العمل واستقبلت أول
مولودة لنا وكانت أجمل طفلة رأتها عيناي ولم أجد اصدق من اسم جهاد لكي أطلقه عليها
لأنه يعكس ظروف حياتي..
وشعرت بالسعادة والرضا..
لكن الكدر لم يلبث أن تسرب إلي
مع خبر طلاق شقيقتي الكبرى,
فقد احتدمت المشكلات بينها وبين
زوجها وانتهى الأمر بطلاقها وتقدم إليها آخر رغبت هي في الزواج منه واعترضت عليه
فلم تأبه لمعارضتي برغم وقوفي معها وبجوارها هي وأولادها طوال خمسة عشر عاما منذ
بداية زواجها وحتى طلاقها وكانت هذه نقطة فاصلة بيني وبينها وما هي إلا سنة أخرى
وجاءني خبر طلاق شقيقتي الصغرى التي ضحيت بكل شئ من اجل زواجها وقد فرطت هي فيه
بكل سهولة وطلبت الطلاق من زوجها بعد ثلاث سنوات فقط من زواجهما لاختلاف الطباع.
لقد كان حلم حياتي أن ادخل بيت
كل شقيقة من شقيقاتي فأقابل فيه بالترحاب والفرحة فإذا بي احرم من دخول بيت شقيقتي
الوسطي لسنوات أظنها ستطول واحرم من دخول بيت شقيقتي الصغرى بسبب طلاقها وتتزوج
شقيقتي الكبرى على غير إرادتي,
وترفض أن تنقطع لأبنائها بعد
طلاقها,
كما كنت أريد, لقد خيبت كل شقيقاتي أملي فيهن جميعا ووالدتي لا حول ولا
قوة لها ولا تستطيع أن تؤثر علي أي واحدة منهن بل إنني أجدها في كثير من الأحيان
متعاطفة معهن بسبب أو وبدون سبب بدعوى إنهن فتيات لا احد لهن.
وفي وسط هذه الأحزان لاحت نقطة
ضوء جديدة حين أخبرتني زوجتي أنها حامل في طفلنا الثاني وطرت من الفرحة بالخبر
السعيد..
وجاءت اللحظة الموعودة فإذا
بطفلنا يجئ إلى الحياة بثقب في القلب ولا يعيش سوى يوم واحد ويتوفاه الله ثالث
أيام عيد الفطر المبارك وأخفيت على زوجتي الخبر خلال فترة وجودها بالمستشفي بعد
العملية القيصرية التي أجريت لها وتحملت مرارة الصدمة بمفردي, وخرجت زوجتي من المستشفي وأخبرتها بالخبر الحزين وكان ما
كان منها وازدادت الأحزان بالمنزل حتى أصبحت الضغوط علي وكأنها جبال فأصبت بحالة
نفسية سيئة للغاية شعرت معها بالاكتئاب والحزن العميق وخضعت للعلاج النفسي ـ
ومازلت ـ حتى كتابة هذه السطور.
لقد أطلت عليك كثيرا, ولكن هذه الكلمات التي سطرتها لك مجرد سطور من حياتي
التي تحتاج إلى مجلدات لكي اكتبها مفصلة دون اختصار, فكل سطر فيها أظن انه يحمل من مشاعر الحزن والعناء
والمشقة بل والمرارة الكثير.
إن الكلمات ستظل عاجزة عن
التعبير عما يجيش في الصدر من مشاعر وأحاسيس, فمشواري الآن مع الحياة الذي امتد ـ حتى الآن ثلاثة
وثلاثين عاما كانت منه ثلاثة عشر عاما أظنها كلها عناء ومشقة ومرارة ولم يتخللها
سوى لحظات سعادة وهناء قليلة.
إنني اشعر أنني أضعت حياتي كلها
دون فائدة فأسرتي لا أجد فيها ما كنت احلم به من لم الشمل وحسن علاقة شقيقاتي بي
وحسن تذكرهن لما ضحيت من اجلهن.
والحالة النفسية التي أمر بها
حاليا لا توصف فقد أصبحت الدنيا مظلمة في وجهي إلى ابعد الحدود, ولا اعرف ما إذا كنت محقا في كل هذا أم إنني قد ضخمت
الأمر كثيرا,
إنني في أمس الحاجة إلى ردك
لعلي أجد فيه البلسم الشافي لحالتي ولحالة كثيرين أظنهم عاشوا نفس ظروفي.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
لو استرجع كل إنسان أحزانه القديمة, وكل ما شهدته رحلة حياته من عناء وآلام وغدر وجحود وفشل
وهزائم وانكسارات وتجمد عند موقف الرثاء للنفس هذا وحده دون أن يتجاوزه للإحساس
بالرضا عن صلابته التي مكنته من اجتياز كل تلك الأهوال والصعوبات حتى بلغ لحظة
التأمل هذه لرشح الإنسان نفسه على الفور للاكتئاب المرضي.. ولضعفت استجابته لمؤثرات الحياة الإيجابية وأفسد على
نفسه الأوقات الثمينة التي يحق له فيها أن يستشعر الأمان بعد طول العناء بل وتعذر
أيضا على الكثيرين أن يرددوا كلمة شاعر شيلي الكبير بابلو نيرودا حين كتب مذكراته
وروي ما شهدته حياته من لحظات السعادة والألم والانتصارات والهزائم فاختتمها بقوله: اشهد أنني قد عشت!
يقصد انه قد عاش حياة حافلة هو
راض عنها وبكل ما حملته إليه الرياح خلالها ولما استطاع كثيرون كذلك أن يقولوا ما
قاله الفيلسوف الألماني كانت حين استرجع وهو في مرض الموت رحلة حياته بكل ما شهدته
من أحداث وأحزان وانتصارات وصراعات ثم تمتم. قائلا:
هذا حسن!
ذلك أن الحياة لم تكن أبدا
ترنيمة بهيجة من بدايتها حتى نهايتها وإنما كانت وسوف تظل مزيجا متعادلا من
السعادة والشقاء,
فإذا كان هناك من قد لا يتعادل
مزيج الحياة لديهم فتكون أحزانهم طويلة وأفراحهم قليلة.. فهؤلاء هم من نطلق عليهم تعبير أبطال الحياة لأنهم
يقودون غالبا سفينة العمر وسط بحر هائج مضطرب بالصعاب والعقبات, ويغالبون أقدارهم ويكافحون كفاحا مريرا من أجل البقاء
غير أن هؤلاء أيضا هم أحق البشر بأن يعتزوا بصلابتهم وصمودهم أمام اعتى التحديات
دون أن يفقدوا تفاؤلهم بالغد الأفضل..
وإيمانهم بأنفسهم وبحقهم العادل
في أن ينالوا ذات يوم السعادة وكل طيبات الحياة.. وأنت يا صديقي واحد من هؤلاء بغير جدال, فلقد أبليت بلاء حسنا في صراعك المرير مع الحياة, وبدأت ملاحتك الصعبة في بحر الحياة وسط أصعب الظـروف حتى
لتنطبق عليك كلمة أمير القصة انطون تشكيوف حين قال عن نفسه: في طفولتي..
لم تكن لي طفولة!
وكل ما في الأمر هو أنك تمر
الآن بحالة ضعف نفسي طارئة بسبب حزنك على وفاة وليدك وحداد زوجتك عليه والجو
الثقيل الذي يخيم على حياتك العائلية حاليا والجسم البشري إذا ضعف سهل غزوه
بالأمراض,وكذلك النفس فإنها حين تضعف يسهل غزوها
بالاكتئاب والأحزان والشعور بالإجحاف وافتقاد التقدير.
والحزن على فراق الأعزاء أمر
طبيعي ولكل حزن من أحزان الحياة فترة حضانة يرعى خلالها الإنسان حزنه, ويتحمل لهيبه صابرا إلى أن يهدأ ويخمد..
ويستقر لكنه إذا طالت فترة
الحزن هذه عن المعدل الطبيعي وبغير أن تخف حدته أو يستعيد الإنسان تفاعله مع
الحياة..
فانه يتحول إلى اكتئاب مرضي
يتطلب علاجا نفسيا متخصصا..
واحسب أن هذا هو ما تواجهه الآن..
ولو أنك حاولت أن تنظر إلى
الجانب الآخر من الصورة لرأيت انك قد خضت معركة بطولية من أجل البقاء والصمود أنت
وأسرتك وبلغت سفينتك في النهاية مرفأ الأمان, واستقرت أحوالك المادية بعد طول العناء واستقلت كل شقيقة
من شقيقاتك بحياتها..
وتزوجت أنت ونعمت بالسعادة
والوفاق مع شريكة حياتك وبإنجاب طفلة جميلة ستكون رحلتها في الحياة اقل عناء من
رحلتك معها بإذن الله ورحل والدك عن الدنيا وهو عنك راض.
كما أن شقيقاتك جميعا وعلى خلاف
ما يبدو لك في الظاهر لابد أنهن يقدرن لك صراعك مع الحياة منذ الصغر لحماية أسرتهن
من الضياع ويحملن لك بالضرورة أنبل المشاعر, لكن عرفانهن لك بما قدمت لهن ولأسرتك لا يقتضي منهن أبدا
كما تتصور أن يتنازلن لك أنت عن حقهن في اختيار حياتهن وهن الراشدات القادرات على
اتخاذ قراراتهن المصيرية لأنفسهن,
كما أنهن جميعا يكبرنك في السن
فإذا اعترضت على اختيار إحداهن لشريك حياتها ولم تقتنع برأيك ومضت إلى الارتباط به, فليس في ذلك جحود لك أو تمرد عليك حتى ولو أثبتت تجربتها
معه فيما بعد بُعد نظرك لأنه مجرد اختلاف في وجهات النظر وزاوية الرؤية لا ينبغي
له أن يفسد للود بينكما قضية,
ولا شأن له بإنكار سابق عطائك
لها وإذا أرادت أخرى الزواج مرة ثانية بعد انهيار زواجها الأول ورغبت أنت في أن
تعزف عن الزواج لكي تتفرع لأبنائها من زواجها السابق فلا يعني ذلك أيضا أن تستشعر
المرارة تجاهها والجحود من جانبها,
لأنها أعلم باحتياجها الإنساني
للزواج,
وأقدر على تقدير احتمالها للصبر
على الوحدة منك.
ولست في النهاية تملك لهن إلا
النصيحة والمشورة المخلصة,
عملن بها أم لم يعملن..
ومن واجبك أن تستمر في أداء دور
الأخ الأكبر لهن حتى ولو كن يكبرنك جميعا لأنك رجل الأسرة من بعد أبيك, فتجاوز عما تعتبره جحودا من جانبهن لكفاحك المرير من أجل
الأسرة وتضحياتك لها,
وتقبل ما تسمح به طبيعة كل منهن
وثق بأنك حين تفصل بين وفائهن لك وما تتصوره أنت أن من واجبهن أن تكون لك الكلمة
العليا في مصائرهن,
سوف تتفتح لك قلوب شقيقاتك على
مصراعيها,
وسوف تلقي في بيوتهن كل الترحيب
والاحتفاء والعرفان,
فلا تفسد على نفسك أوقاتك
باجترار الأحزان القديمة,
وتوهم جحود الشقيقات..
وأعلم دائما أن جنة الأرض هي في
اطمئنان القلب والنفس وراحة البال واستشعار الرضا عما قدمه الإنسان للحياة حتى ولو
كان ما ناله منها مازال قليلا..
أو أقل من القليل.. وشكرا.
نشرت عام 2002 في باب بريد الجمعة بجريدة الأهرام
راجعها وأعدها للنشر/ نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر