العواصف الهوجاء .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1998
أريد أن أروي لك قصتي مع الزمن والحياة .. فلقد تعرفت بزوجتي في حفل زفاف شقيقتي .. رأيتها فلفت نظري إليها جمالها واعتدادها الواضح بنفسها وتعارفنا، وبعد فترة قصيرة تمت خطبتنا , وكنت وقتها مجندا بالقوات المسلحة .. وأنهيت فترة تجنيدي وتزوجنا فلم يمض وقت قصير حتي بدأت الخلافات بيننا على أتفه الأسباب واكتشفت أن ما ظننته اعتدادا بالنفس ليس في حقيقته سوى غرور شديد وتكبر أصيل في شخصيتها ولا علاج لهما، وكان من أمثلة خلافاتنا التي تقيم زوجتي الدنيا ولا تقعدها من أجلها إنني كنت بعد مغادرتي لبيتي في طريقي إلى عملي..أختلس بضع دقائق أتوجه خلالها إلى مسكن أمي لرؤيتها واحتساء فنجان من القهوة معها .. وكانت أمي تسعد بهذه الزيارة القصيرة جدا لأنني أكبر أبنائها .. ولأنها تعيش وحيدة في مسكنها بعد رحيل أبي عن الحياة ومع ذلك فلقد كانت زوجتي تستشيط غضبا لزيارتي لها .. واضطررت لأن أتكتم هذه الزيارات عنها .. وأن أقوم بها في السر كأنني أرتكب فعلا شائنا ومع ذلك فقد كانت تعلم بها وتثير علي العواصف الهوجاء من أجلها, ومضت الأيام بنا وأنجبنا طفلتنا الأولى واضطررت للعمل في الخارج بضع سنوات لإسعاد أسرتي الصغيرة , وحققت لزوجتي كل ما طلبته من أجهزة حديثة .. وأثاث جديد والانتقال إلى شقة أفضل وكتبت كل شيء باسمها لأدخل الطمأنينة إلى قلبها، ومرت السنوات ورجعت من غربتي .. وأصبح عدد الأبناء ثلاثة وضاع معظم مدخرات سنوات الغربة في شركات توظيف الأموال .. ولم يبق لي إلا دخلي من وظيفتي بالقطاع العام, وكبرت الابنة الكبرى وتخرجت في كليتها وأصبحت شابة جميلة يتهافت عليها الخطاب، وكانت زوجتي ترغب في تزويجها في أسرع وقت فتقدم إليها مهندس شاب وسعدت زوجتي به وتمت الخطبة , لكنها ما إن تمت حتى بدأت تفتعل المشاكل معه لأتفه الأسباب .. حتى ضاق ذرعا بتكبرها وصلفها وانسحب.
ومن بعده تقدم لابنتي طيار شاب وتكررت معه نفس القصة بنفس تفاصيلها ثم تقدم لها بعد ذلك طبيب ولم يكن حظه مع زوجتي أفضل من سابقيه فلقد سعدت به في البداية ثم لم تلبث أن افتعلت معه المشاكل لكي تطفشه كما حدث مع الآخرين. إلى أن جاء الخطيب الرابع عن طريق شقيقتي الصغرى .. وطارت به زوجتي فرحا لأنه ميسور الحال ماديا وصاحب شركة واهتمت به اهتماما شديدا وتوثقت العلاقة بينهما حتى شعرت أنا الأب ببعض الغيرة لحميمية علاقة خطيب ابنتي بزوجتي , ومع ذلك فقد تعاليت علي هذه الغيرة طلبا لمصلحة ابنتي .. وأملا في ألا تسعى زوجتي إلى تطفيشه كما حدث مع الشبان الثلاثة السابقين , وأسعدني أن لاحظت ان ابنتي قد أحبت هذا الخطيب وتمسكت به , وتم عقد قرانهما ونحن في قمة السعادة .. لكن عقد القران كان للأسف بداية النهاية لفترة العسل في علاقة زوجتي بخطيب ابنتها فقد دبت الخلافات كالعادة بينهما لغير سبب جوهري , وتمادت زوجتي كعادتها في اهانته عبر التليفون حتى أقسم الشاب ألا يدخل بيتنا مرة أخرى بعد هذه الاهانة , وفشلت كل محاولاتنا لإصلاح الحال بينهما بسبب تمسك كل منهما بأنه لم يخطيء ورفضه الاعتذار للآخر, وفعل التكبر والغرور اللذان يحكمان شخصية زوجتي فعلهما فتحولت مشاعرها تجاه الخطيب الذي كانت تطير به فرحا إلى كراهية شديدة , وحاولت تدمير علاقته بابنتي ومنعتها من لقائه أو الاتصال به ولو عن طريق التليفون.
ورفضت ابنتي أن تستسلم هذه المرة لرغبة أمها في تدمير علاقتها بخطيبها الرابع فنشبت الخلافات الحادة بينها وبين أمها .. واستمرت الخلافات دون بادرة أمل في تقارب وجهات النظر ووصلت إلى حد الضرب والاهانة من جانب الأم لابنتها, واستقطبت زوجتي ابنتها التي تكرر صورة أمها في طباعها وأخلاقها الى جانبها فانضمت إليها ضد شقيقتها .. ووقفت أنا بجوار الجانب الضعيف في الخلاف وهو ابنتي , ورأيت حسما للنزاع الفصل بينها , وبين أمها لبعض الوقت فاصطحبتها للإقامة لدى خالها حتى تهدأ النفوس. وأقامت ابنتي في هذا المنفى لمدة شهر ثم شعرت بالحنين إلى أمها فرجعت إلى بيتها وعدت أنا ذات يوم إلى البيت ووجدتها فيه تتحادث مع أمها فسعدت بذلك وأملت خيرا ورحبت بابنتي وقلت لها إنها قد أنارت بيتها بعودتها إليه .. فإذا بزوجتي تقول لي أمامها في جفاء إنها مجرد ضيفة وسوف تعود من حيث أتت , وامتقع وجه ابنتي حين سمعت ذلك .. وغضبت أنا وقلت لزوجتي إن ابنتي لن تخرج من بيتي .. فإذا بها تجيبني بأنها لن تخرج منه وحدها وإنما وأنا أيضا معها !
ونشبت بيننا مشاجرة عنيفة انتهت بخروجي أنا وابنتي من البيت , وإقامتنا لدى حماتي على أمل أن تنقشع الغمة وتستعيد زوجتي رشدها .. لكن هيهات أن يحدث ذلك فلقد طالت ضيافتي أنا وابنتي لدى جدتها ستة أشهر كاملة .. وانتهى خطيبها خلال هذه الفترة من إعداد عش الزوجية , وتحدد يوم الزفاف في نوفمبر الماضي .. لكن زوجتي كانت تغلي بالغضب لذلك وتقسم بأنها سوف تحرم ابنتها وخطيبها من فرحتهما في هذا اليوم , وقبل أسبوع واحد من موعد الزفاف توجهت زوجتي مع شقيقها إلى بيت والدتهما حيث تقيم ابنتي , واصطحباها بالقوة وهي بقميص نومها إلى سيارة الخال وسط توسلات الجيران لهما أن يرحماها ویدعاها لشأنها واركباها سيارة الخال بالضرب والاهانة وعادا بها إلى مسكن الأم , وهناك انهالت عليها الأم ضربا بخرطوم المياه وهي تتوعدها بأنها ستشعل فيها النار وهي نائمة لكيلا تتزوج الواد بتاعها هذا ! وعلمت بما حدث وأنا في عملي فغضبت غضبا شديدا وتوجهت الى منزلي وأنا أحمل السلاح لأدافع به عن ابنتي , فمنعني الجيران من الصعود إلى مسكني وقالوا لي إن المسكن خال من سكانه والجميع الآن في المستشفى القريب لأن ابنتي قد سقطت من شرفة الدور الرابع الذي نقيم بها .
وطار صوابي حين سمعت ذلك وتوجهت للمستشفى فوجدت ابنتي في حالة خطيرة والدماء تنزف منها, فما أن رأتني حتى بكت وقبلت يدي وهي تطلب مني أن أخذ لها بحقها ممن أذوها ثم راحت في غيبوبة وتم نقل ابنتي إلى مستشفى آخر خاص وتبين أنها أصيبت بكسر في الحوض والكوع وقصبة الساق والكاحل, كما أصيبت أيضا بتفتيت في الطحال من شدة الضرب, وأمام وكيل النيابة قالت ابنتي أنها ألقت بنفسها من الدور الرابع .. لكي تنقذ أمها من أية مسئولية ولم تشر إلى مسئولية أمها وخالها عن دفعها إلى ذلك بما ارتكباه معها من ضرب واهانة , والآن فقد انعم الله بالشفاء على ابنتي من الإصابات التي لحقت بها .. ونحن نستعد الآن لإتمام زفافها إلى عريسها الشهم ذي الأصل النبيل , الذي تألم غاية الألم لما تعرضت له خطيبته من إيذاء لتمسكها به ووقف إلى جوارها في محنتها واقسم ليعوضنها عن كل ما لقيت من أجله من أذى واضطهاد .. وإني لأكتب لك هذه الرسالة لكي تكون عبرة لبعض الأمهات المتكبرات المستبدات بأبنائهن لكي يعرفن إن القسوة والغرور والتكبر لا تفيد ولا عائد لها إلا خروج الأبناء علي طاعتهن بعد أن يعجزوا عن استمرار الاحتمال إلى النهاية واحسب انك تشاركني الرأي في ذلك .. والسلام..
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
من المؤسف حقا أن تتدهور العلاقة الإنسانية بين أم وابنتها إلى هذا الحضيض الذي تحاول معه الأم فرض إرادتها علي الابنة بالقهر النفسي والإيذاء البدني حتى لتضطر الفتاة إلى إلقاء نفسها من شرفة بيتها تخلصا من هذا الإيلام. نعم من المؤسف حقا أن تتدهور العلاقة بينهما الي هذا الدرك, ويضاعف من الأسف ان أسبابه ليست أسبابا نبيلة تتعلق برؤية الأم لما فيه خير ابنتها ومصلحتها وإشفاقها عليها من الارتباط برجل تري انه لن يكون الشخص الأمين الذي يرعاها ويحفظ أمانتها ويحقق لها سعادتها.. حتي ولو اختلفت معها الابنة والأب في هذه الرؤية, وإنما ترجع أسباب هذا التدهور لاعتبارات أنانية تتعلق بالأم نفسها .. وما تراه هي ماسا بكرامتها من وجهة نظرها, وهو رفض هذا الخطيب الاعتذار لها عما لا يري نفسه مخطئا فيه.. والي تعامل كل منهما مع الآخر بشخصيته التي تتسم بالاعتداد بالنفس, والندية! فإذا كنا لا نعرف الكثير عن شخصية هذا الخطيب لكي نحكم له أو عليه,فإن ما تقوله أنت عن زوجتك يرجح ـ اذا كان صادقا ـ أن تكون هي المسئولة عن الجانب الأعظم من أسباب سوء العلاقة بينهما, استطرادا لصلفها وغرورها ورغبتها الظاهرة في تطويع الجميع لإرادتها, واستطرادا أيضا لتاريخها مع الخطاب السابقين الذين ترحب بهم في البداية ثم لا تلبث ان تنقلب عليهم وتفتعل أسباب الخلاف معهم الي أن يولوا الأدبار ناجين بأنفسهم من هذا العناء. والإنسان تاريخ وليس موقفا عابرا نحكم به عليه , وتاريخ زوجتك مع خطاب ابنتها السابقين يرجح للأسف أن تكون هي المسئولة هذه المرة أيضا عن تدمير علاقتها بالخطيب الأخير, ونحن لا نستريح بالفعل لسوء العلاقة بين الأم وخطيب ابنتها, أيا كان الجانب الذي يتحمل المسئولية عن تدهورها, لما لذلك من آثار سلبية تنعكس بالضرورة علي علاقة الخطيبين ثم الزوجين في المستقبل, ونطلب دائما من الخطيب أن يحرص علي إقامة علاقة طبيعية حميمة وعادلة مع أم فتاته لكي تكون عونا له في حياته المستقبلية وليس العكس. لكن ذلك لا يعني علي الناحية الأخرى أن يقبل أي خطيب باهانات الأم له, أو بمحاولتها قهر إرادته وضمه الي شبكة الخاضعين لإرادتها وتكبرها وغرورها, وإلا تنمرت الأم له وانقلبت عليه ودمرت علاقته بابنتها كما حاولت زوجتك أن تفعل ومضت في هذا السبيل شوطا داميا كاد يودي بحياة ابنتها نفسها.. ذلك إن لكل إنسان كرامته الشخصية التي يحق له ألا يفرط فيها أو يقبل عليها ما لا يقبله الحر لنفسه حتى ولو كان عاشقا متيما للابنة. والحق ان التكبر والعناد وصلابة الرأي.. وتوهم احتكار الحق دون الجميع هو الآفة الأساسية التي صنعت هذه المشكلة منذ البداية بين الأم وخطيب ابنتها ثم بينها وبين ابنتها فيما بعد حين رفضت الانصياع لرغبة أمها في التخلي عن خطيبها الرابع. ولقد كنت أحار أحيانا في فهم سر هذا التلازم الدائم بين التكبر والعناد وصلابة الرأي والتمسك به إلى النهاية حتى ولو أدي بصاحبه وبالجميع إلى الخراب إلى أن قرأت ذات يوم نصيحة الإمام محمد الباقر لابنه الإمام جعفر الصادق وهو يحذره من الكبر فيقول له: ما دخل قلب امريء شيء من التكبر إلا نقص من عقله بمثل ما دخله! فالتكبر بهذا المفهوم نقصان في العقل والحكمة والقدرة علي الاستيعاب السليم للأمور. وعلي الناحية الأخرى فإن التواضع والمرونة والاستعداد للاقتناع بما في آراء الآخرين من حكمة وصواب والتنازل عن الرأي الخاطيء من أجل ذلك , هو في واقع الأمر إضافة إلى العقل وإطلاق لقدراته علي أن يعين الإنسان علي تجنب المشاكل التي لا مبرر لها مع الآخرين وعلي قيادة سفينته في بحر الحياة بمهارة وبغير أن تصطدم بالجنادل والصخور. ولقد ساهم في تصاعد الأمور بين زوجتك وخطيب ابنتها, أن خطيب ابنتك يتسم في تصوري بشيء من الاعتداد بالنفس يستمده غالبا من اعتزازه بأوضاعه المالية الميسورة.. أو ربما يكون سمة أصيلة في شخصيته منذ البداية ولهذا فلقد بدأت العلاقة بينهما حميمة ووثيقة في البداية وخلال فترة المجاملات والتنازلات البسيطة بين الطرفين طلبا لقبول الطرف الآخر.. ثم لم تلبث شخصية كل منهما ان عبرت عن نفسها بوضوح بعد التآلف والاعتياد,فكان الصدام وتطاول زوجتك عليه بالإهانة ورغبتها في فرض إرادتها عليه كما تفرضها علي الجميع, ولم يجد الرجل في نفسه ما يدفعه الي قبول الاهانة و التسلط فاستمسك بعدم الاعتذار إليها واستمسكت زوجتك بعدم الاعتذار إليه عما يري هو وتري أنت إنها أخطأت في حقه فيه, لان الحق دائما حكر عليها وفي جانبها علي الدوام كما تؤمن هي, فكان الابتعاد, وضاعف من التصاعد ان ابنتها قد خرجت هذه المرة علي إرادتها ورغبت في استكمال مشروع الارتباط به حتى ولو لم يعتذر لأمها.. وأيدتها أنت في ذلك بعد ان خشيت علي مستقبل ابنتك من رهن سعادتها وزواجها برؤية زوجتك وحدها للأمور وتقلب مشاعرها تجاه من يتقدمون لخطبتها.. فحلت الكراهية الشديدة لخطيب الابنة في قلب أمها محل الترحيب به والعلاقة الحميمة معه في البداية, ولا عجب في ذلك وجمال الدين الأفغاني يقول لنا ان الأكفاء في الزمن الواحد والمكان الواحد لا يكونون غالبا أصدقاء! وزوجتك وخطيب ابنتها كفئان الي حد ما في الاعتداد بالنفس, وان كان ذلك مضاعفا في شخصية زوجتك كما تروي عنها.. غير ان ذلك كله لا يبرر أبدا ان تشن زوجتك هذه الحرب الضارية ضد ابنتها لمنع زواجها من خطيب طارت هي نفسها فرحا به في البداية ثم كرهته بشدة بعد ذلك لرفضه الاعتذار لها, ولا يبرر أبدا إيذاءها لابنتها معنويا وبدنيا وطردها من رحمتها لكي تتزوج من تقدم إليها في بيت أسرتها ولقي القبول من الجميع في البداية, وهي وحيدة ومنبوذة من أمها وبعض أهلها لغير سبب سوي العناد والتكبر وصلابة الرأي والتمسك به إلى ما لا نهاية.. وإذا كان الأمر كذلك أفلا من سبيل لتقريب وجهات النظر بين هذه الأم وهذا الخطيب حتي ولو تنازل احدهما أو كلاهما بعض الشيء عن اعتزازه بنفسه لكيلا يحرما هذه الفتاة من حقها العادل في أن تتزوج تحت أنظار أبويها.. وبغير أن يكدر عليها بعض سعادتها إحساسها بالوحدة والنبذ من جانب هذه الأم العنيدة .
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر