ضوء الشعلة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1991

ضوء الشعلة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1991

 ضوء الشعلة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1991


" الألطاف الخفية  " .. هي ذلك التدبير الإلهي الذي قد يحمل إلينا بعض ما نكره لكي يأتينا بعد بأطيب ما نحب إذا رضينا بما كرهناه وواصلنا طريقنا في الحياة بصبر وأمل وبغير أن نتعجل كشف الأسرار.

 

عبد الوهاب مطاوع

بريد الجمعة


أكتب إليك قصتي هذه لعلي أشد بها أزر بعض من تضيق بهم الحياة في بعض الأحيان .

 فأنا يا سيدي شاب في الثامنة  والعشرين من عمري وقد توفي والدي منذ ثمان سنوات وكان تاجراً معروفاً بالإسكندرية وتركنا وأنا طالب بالسنة الثانية بكلية الطب وشقيقتي الوحيدة في الثانية عشرة من عمرها ووالدتي الحاجة الوقورة خريجة المدرسة النسوية الثانوية والتي تعلمت في مدرسة ابتدائية فرنسية ..في السادسة والأربعين من عمرها وكنا حين توفي أبي نعيش حياة مريحة ونقيم في فيللا قديمة تفوح من مبناها القديم رائحة الأصالة والعز القديم ونشغل دوريها ونعتز بحديقتها المتهالكة .. وعقب وفاة أبي اكتشفنا أنه غارق في الديون وكانت صدمة مذهلة .. وأنه توفي بأزمة قلبية حادة داهمته بعد أن خسر معظم ما بقي من ثروته في آخر صفقة عقدها وكان يعقد عليها الآمال في تسديد بعض ديونه وتعويم تجارته الغارقة .

 

ولم يكن أمامنا مجال للبكاء على الأطلال وواجهنا الواقع المؤلم دفعة واحدة وأخلينا الدور الثاني من البيت وأجرناه، واكتفينا نحن بالدور الأرضي والحديقة الصغيرة الأثرية وبعنا السيارة وبعض ما تبقى من أشياء عينية لتسديد جزء من الديون وواجهت أنا الاختيار الصعب بين الاستمرار في دراسة الطب التي تحتاج لنفقات كثيرة لم تعد في مقدرونا ..وبين الخروج للعمل ومواجهة مطالب الحياة ومطالب أسرتي، ولم أتردد طويلاُ رغم قسوة القرار وتخليت عن دراسة الطب وحلم العيادة والمركز العلمي والأدبي ..وعملت بإحدى شركات الأتوبيس السياحي التي تعمل بين القاهرة والإسكندرية وقررت أن التحق بإحدى الكليات النظرية منتسباً لأستطيع الجمع بين الدارسة والعمل ..وصدمت مرة أخرى حين علمت أن أقسام الانتساب بالكلية النظرية لا تقبل سوى طلبة القسم الأدبي ..فقررت أن أعيد الحصول على الثانوية العامة من القسم الأدبي، وكنت قبل وفاة أبي قد خطبت زميلة لي بكلية الطب وارتبطت بها عاطفياً ففوجئت بها بعد اضطراري لترك الدراسة واكتشافها أني لم أعد ذلك الطالب الذي يركب سيارة خاصة وتنتظره العيادة المجهزة بعد التخرج تطلب مني في برود عجيب وبدعوى أننا يجب أن نكون "واقعيين" أن أحلها من الارتباط بي ..واستجبت لطلبها مذهولاً ومتعجباً وتمت خطبتها بسلام لزميل آخر بنفس الكلية بعد فترة قصيرة وفقدت الثقة في كل الفتيات وأصبحت حين اقرأ رسالة في بريدك يمتدح فيها إنسان خطيبته أو زوجته التي ضحت بالمال من أجله أقول إن مثل هذه الفتاة لا وجود لها ..

 

ثم واجهت أنا الحياة الجديدة بواقعية لا مفر منها وواجهتها معي أمي العظيمة بشجاعة وتناست سريعاً أيام العز القديم واسترجعت ما تعلمته في المدرسة النسوية القديمة وراحت تقوم بالخياطة وصنع الجاتوه والتورتة بالأجر لبعض المعارف في مناسباتهم الخاصة ..ولا ترى في ذلك بأساً بل فخراً لها ولنا لأننا نكافح في الحياة بشرف لتسديد ديوننا ولمواصلة الرحلة، ورحت أنا أعمل بإخلاص في عملي الجديد وأعيد استذكار دروس الثانوية العامة للقسم الأدبي، ونسدد أنا وأمي بما نكسبه جزءاً من ديوننا وننفق الباقي على حياتنا وبالذات على مظهر شقيقتي التي تعودت على مستوى معين من الحياة ..ولم أطق حرمانها من شيء تعودته وهي التي حرمت من أبيها في سن الطفولة وكانت ابنته المدللة قبل رحيله يرحمه الله .

 

وكلما فاجئني شريط حياتي السابقة وأنا أستذكر دروس الثانوية العامة ..وتذكرت الخذلان الذي طعنتني به خطيبتي ..وتغير الأحوال طردت هذه الهواجس من مخيلتي سريعاً وقلت لنفسي لسنا أول من غدرت بهم الدنيا ولن نكون آخرهم وواصلت الاستذكار والعمل بجد حتى حصلت على الثانوية العامة وانتسبت لقسم الفلسفة بكلية الآداب ..وأكرمني ربي فغرس في نفسي حب هذه الدراسة وأصبحت احصل على تقدير جيد جداً كل سنة ويأتي ترتيبي الأول برغم من أني لا أذهب إلى الكلية إلا نادراً ..وكنت حين أذهب إليها أرى زملائي ينعمون بجو الزمالة والصداقة والرحلات وأأسف لأني لا أستطيع مشاركتهم كل ذلك لأني مشغول بعملي.

وفي ديسمبر الماضي كنت أقوم بعملي في الأتوبيس السياحي الفاخر وأمر بين الركاب لأتأكد من حصولهم جميعاً على التذاكر، ففوجئت بإحدى الراكبات تقول لي ألهذا لا نراك في الكلية إلا مرة واحدة في السنة ..مع أنك أول الدفعة ويثني عليك الأساتذة ؟ فتوقفت أمامها مرتبكاً ..وأدركت على الفور إنها إحدى زميلاتي وإن كنت لا اعرفها وتبادلت بعض كلمات المجاملة وغادرتها لأطوف بباقي الركاب وهي تنظر لي باحترام .

 

وبعد حوالي شهر من هذا اللقاء ذهبت إلى الكلية لأقدم بحثاً مطلوباً قبل موعد أجازة نصف السنة ..فصادفت هذه الزميلة هناك ..وألقيت عليها التحية وانصرفت لحال سبيلي ففوجئت بها تلحق بي وتقول لي إنها مستعدة لأي شيء أطلبه منها بخصوص الدراسة ومستعدة لإعطائي المذكرات أو تصويرها لي , وشكرتها كثيراً وتعددت لقاءاتي بها وعرفت أنها ابنة لأستاذ جامعي محترم وتولتها الدهشة حين حدثتها عن ظروفي السابقة وكيف أني طالب طب سابق ومن أسرة طيبة رغم سوء الأحوال ولعلها تشككت في صدقي وتصورتني أتجمل أمامها .

ثم عرفتني بأبيها الأستاذ الجامعي فأعجبت كثيراً بشخصيته فقد شجعني على مواصلة الكفاح ورفع من قدري ولم يشعرني بأي نقص وأصر على أن يوصلني بسيارته مع ابنته إلى البيت .

 

وبعد عدة لقاءات أخرى اتفقت معها على أن أتقدم لخطبتها وشجعتني على ذلك مؤكدة تأييد والدها لي لأنه يحترم الإنسان المكافح ويهتم بالخلق وبالأصل الطيب أكثر من أي شيء آخر ..وتقدمت إليه وأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى فرحب بي كثيراُ واشتبك معي في مناقشات سياسية وفلسفية وحول الأمور العامة ..وأصبحنا كلما التقينا نتحدث في هذه الأمور ويزداد إعجابي به .

 

وتحدثت مع أمي عن فتاتي كثيراً فطلبت أن تراها ودعوتها مع أسرتها وقبلت الأسرة الدعوة وجاءت فقدمت لها أمي تورتة جميلة وجاتوهاً من صنع يديها مع الشاي .. وراح صديقي الكبير الأستاذ الجامعي يتلفت حوله ليرى المكتبة ويتصفح كتب الطب القديمة التي مازلت احتفظ بها تذكاراً لما كان من أمري ، وجاءت شقيقتي الوحيدة التي أصبحت الآن طالبة في كلية الفنون الجميلة بلوحاتها ليتفرجوا على أعمالها الفنية وسعدنا جميعاً بجو عائلي جميل يسوده التفاؤل والحب واحترام الإنسان للإنسان بغض النظر عن إمكاناته .. وخطبت هذه الفتاة الرقيقة التي أصرت على ألا أقدم لها أكثر من خاتم خطبة فقط وعرفت في هذه اللحظة فقط الحكمة الإلهية وراء تركي لكلية الطب والتحاقي بتلك الكلية النظرية ..لكي يُظهر لي الله حقيقة معدن خطيبتي الأولى التي تخلت عني بغير أن يطرف لها رمش حين تغيرت ظروفي ..ولكي يجمع الله بيني وبين هذه الفتاة الأصيلة الرائعة خلقاً وخلقة ..والتي لم أكن لأعرفها لو لم أتعرض لهذه المحنة ..واستعدت ثقتي في أشياء كثيرة في الحياة ..وفي الفتيات وبدأت اصدق ما يكتبه القراء عن تضحيات فتياتهم واختيارهن للحب الصادق الشريف بديلاً عن عرض الدنيا التي لا تستقر على حال وأضاءت داخلي مرة أخرى شعلة الأمل التي كانت قد انطفأت وفهمت مغزى الآية الكريمة التي تقول " وعســى أن تكرهوا شيئاً وهُو خيرٌ لكم " وأرجو أن يرددها معي من تضيق حوله حلقات الهموم في بعض المواقف ..وأن ينتظر فرج ربه بصبر وإيمان كما انتظرته وجاء ليشفي نفسي مما أصابها والسلام عليكم ورحمة الله .

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

 

منطق أهل الغدر حين يخذلون من أحبهم ويتخلون عنه في محنته بدعوى النظرة الواقعية للأمور هو نفس منطق الأم القاتلة في مسرحية " سوء تفاهم " لألبير كامي حين بررت جرائمها بقولها " إن الحياة أقسى منا ! " فكان عقابها الإلهي هو أن قتلت ابنها العائد إليها من هجرته الطويلة ليريحها من عناء العمل قبل أن تعرف أنه ابنها المهاجر منذ زمن طويل ! 

أما منطق الأصلاء والمترفعين عن الدنايا فهو منطق الشاعر الذي يعرف جيداً :

إنما الدنيا هبات وعوارض مستردة

شدة بعد رخاء ورخاء بعد شـدة 

وهم الذين يعرفون أنه لا يغير من قدر الإنسان أن تتغير بعض ظروفه لأسباب طارئة أو لا حيلة له فيها ..وإنما يعيبه فقط كل ما يمس شرفه من خلق مستنكر أو تصرف لا يليق به ..فإذا كنا نشقى أحياناً بغدر الغادرين ..فإنما يعزينا عنه فهم الأصلاء لحقائق الحياة ..وتقييمهم العادل لمعادن البشر بعيداً عن الأسباب الزائلة التي لا دوام لها .

 

وفي الصبر دائماً يا صديقي " حيلة المحتال " كما يقول شاعر آخر وفي  فهم الضعف البشري والإشفاق على أصحابه من انحطاط تفكيرهم ما يهون على الجرحى بعض جراحهم ويقربهم بالكفاح الشريف والتمسك بالقيم من بلوغ الآمال وتعويض الخسائر ..وإدراك الجوهر المكنون للشدائد التي قد تندرج تحت مفهوم الألطاف الخفية ..وهي ذلك التدبير الإلهي الذي قد يحمل إلينا أحياناً بعض ما نكره لكي يأتينا فيما بعد بأطيب ما نحب إذا رضينا بما كرهناه وواصلنا طريقنا في الحياة بصبر وأمل وبغير أن نتعجل كشف الأسرار .

 

وقصتك يا صديقي تقول كل ذلك وأكثر ..فلعلك قد عرفت الآن أنه ليست كل الفتيات كفتاتك الأولى ..وإن من البشر من لا يتخفى وراء ستار " الواقعية " المزيفة لتبرير غدره وصغار نفسه بدليل فتاتك الأصيلة التي أحبتك واحترمتك قبل أن تعرف شيئاً عن حياتك السابقة وبدليل هذا الأستاذ الجامعي العظيم الذي رأى فيك إنساناً جديراً بالثقة والاحترام والفخر بغض النظر عن إمكاناتك المادية .

 

فهنيئاً لك سعادتك وفتاتك وصهرك وأسرتك الشريفة التي يجمعها الحب والتعاطف وتغبطها على دفء روابطها العائلية أسر أخرى لم تحرم من المال بقدر ما حرمت مما لا يشتريه المال وحده وإن كثر ..من الحب والتراحم والتساند في وجه تقلبات الحياة .

أما والدتك العظيمة فتقديري لها بلا حدود وأرجو أن تستعد من الآن لتورتة الفرح الكبيرة بفنها العظيم وروحها الطيبة الودود التي تجمل الحياة وتخفف من آلامها ..وشكراً لك  

 نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة أكتوبر سنة 1991

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات