طيف من الماضي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 

طيف من الماضي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

طيف من الماضي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988


الإنسان هو الإنسان في كل مرحلة من العمر .. ويحب دائما أن يحس أنه مرغوب ومطلوب لذاته وشخصه وليس فقط بسبب عقد " الشركة " الذي وقعه مع زوجته .. بل لعل حاجته لهذا الإحساس تتزايد كلما تقدم به العمر عنه وهو في سن الشباب .. لهذا جاء في القرآن الكريم عن الزواج أنه " مودة ورحمة" .. وتعبير " المودة " هذا هو نفسه الحب بلغة العصر التي نستخدمها الآن .

عبد الوهاب مطاوع


أنا يا سيدي رجل في الأربعين .. واجهت الحياة وحيدا منذ صغري .. فقد حرمت من أبي وأنا في سن الخامسة وتولت جدتي تربيت مع إخوتي من ریع قطعة أرض صغيرة لا تسمن ولا تغني من جوع .. وهكذا وجدت نفسي غير قادر على مواصلة التعليم بعد المدرسة الابتدائية .. لكني بإرادة من حديد جمعت بين العمل في هذه السن الصغيرة وبين الدراسة غير المنتظمة والاستذكار في البيت .. وتقدمت لامتحان الشهادة الإعدادية وفزت بها ثم حصلت على الثانوية العامة والتحقت بالجامعة وأثناء الدراسة الجامعية اتجهت مشاعري إلى زميلة لي وجدت نفسي مهتما بأمرها ومشغولا بها لكن تاریخی الطويل مع الشقاء قد أكسبني حرصا شديدا في التعامل مع الحياة فكتمت مشاعري عنها ولم يزد ما بيني وبينها على تبادل الأحاديث والمذكرات، انتظارا لأن أتخرج وأكاشفها بمشاعري ورغبتي في الارتباط بها ، و ساورتني نفسي بعد قليل أن أفاتحها في أمري خوفا من أن تضيع مني في زحام الحياة ، وحين هممت بذلك وجدتها تحادث زميلا عزيزا لي فظننتها مجرد دردشة عادية ، لكن زميلي العزيز فاتحها بعد قليل في الارتباط بها ، فكبت مشاعري وقررت عدم إزعاجها وتباعدت عنها لعدة أيام ، فوجدتها تقترب مني وتحادثني ، وقررت بيني وبين نفسي أن أترك أمري للقدر إن شاء جمع بيننا وإن شاء فرقنا.

 

وتخرجت .. وتخرجت هي ، وتقدمت لأداء امتحان المسابقة للتعيين في إحدى الهيئات فالتقيت بها فيها ، وفرحت جدا برؤيتها وأقبلت عليها متهللا فأشاحت بوجهها عني قائلة لى أن زميلي ينتظرها في الخارج وأسرعت بالخروج . فقررت عدم قبولي التعيين في هذه الهيئة رغم نجاحي .. وأعلنتها بذلك فألحت علي ألا أضيع على نفسي هذه الفرصة لكني كنت قد حزمت أمري . فلم أقبل التعيين والتحقت بهيئة حكومية أخرى .. وغالبت نفسي طويلا لأنساها ، وخلال عملي في الهيئة الجديدة عرفت أن زميلتي السابقة قد تزوجت لا من زميلي کما توقعت ولكن من آخر لا أعرفه فخفق قلبي ألما.. وقررت اعتبارها أختا عزيزة علي وتمنيت لها السعادة من أعماقي ، وركزت حياتي في عملي وفي دراساتي العليا ، وبعد فترة ملت إلى زميلة لي في العمل وتبادلنا المشاعر وتمت الخطوبة وكانت خطيبتي من أسرة طيبة لكنها مفككة لا يربط أفرادها الحب والتعاون، وكانت تعاني من ذلك فانعكس عليها في مزاج عصبي يستجيب للثورة لأتفه الأسباب لكني كنت أتحملها .. وأتحمل الكثير من تصرفاتها لأني أحببتها هي الأخرى ولأني أعرف أنها ضحية للمشاكل العديدة التي تحيط .

وسافرت في بعثة دراسية لمدة عام لم تنقطع خلالها المراسلات بيننا ثم عدت لأجدها في غاية الضيق من جو الخلافات الذي تعيش فيه فأسرعت بالبحث عن مسكن وعثرت على شقة متواضعة قمنا بتأثيثها على عجل ، وتم الزواج وفي الليلة التي يفترض فيها أنها أسعد ليلة في حياة الإنسان ، انعكست خلافات الأسرة على الليلة ، وبعد انتهاء الفرح سمعت زوجتي تلعن أبا الدنيا بأسلوب المحشور في زحام الأتوبيس والذي يضيق بكل شيء ! وتحملت لأنها ضيفتى ، وتحملت بعد ذلك الكثير من جراء مشاكلها العائلية بين الأخوة حتى خيم على حياتي العائلية جو ثقيل من النكد باستمرار وكلما تأففت أو حاولت لفت نظرها إلى ضرورة الفصل بين حياتنا وبين المشاكل التي لا بد لي فيها ضاقت بحديثي حتى طلبت الانفصال بعد شهر واحد من الزواج فأسرعت أهدي خاطرها .. وأسلم بيني وبين نفسي بالمقادير وأنجبنا طفلين ثم سافرنا إلى إحدى الدول العربية للعمل وعشنا 4 سنوات طويلة لم يتوقف خلالها الشجار والنكد بسبب عصبية زوجتي ، ثم عدنا إلى مصر وشغلتنا الحياة عن كثير مما أعانيه .. وقد كبر الولدان والتحقا بالمدرسة وأصبحت لنا في الحياة أهداف أخرى .. تستحق أن نضحي من أجلها لكن نفسي كانت تهفو دائما إلى الشريكة التي تبادلني المشاعر وأبادلها الأحاسيس و التي لا تنصرف عنى إلى رعاية الأولاد وحدهم ، وكلما صارحتها بخواطري هاجت وماجت وقالت لى إنها لا تكف عن العمل طوال النهار كالشغالة مع اختلاف بسيط هو أنها شغالة بلا أجر .

 

ومرت السنوات وفجأة اكتشفت أن زوجتي منذ أنجبنا لم تشر إلى مرة باعتباري زوجها أو حبيبها أو شريك حياتها .. وإنما تتحدث إلي أو عني دائما بأني "أبو فلان .. وفلان" أي أبو أولادها فقط لا غير .. كأنها تحس في قرارة نفسها بالنفور مني.

وأحزنني هذا الخاطر طويلا خاصة وأني أحاول دائما إسعادها وأعاملها دائما بالحسنى ووجدت نفسي أعيش في شبه عزلة عاطفية عنها فلا حديث لها معي إلا عن مشاكل البيت والأولاد أو مشاكل أسرتها أو مطالب الحياة كأننا شركاء في المسكن ورعاية الأولاد فقط ..

وبدأت ألاحظ أن اكتئابي يتزايد فسعيت للعودة إلى العمل الذي كنت فيه خارج مصر.. سافرت وحدي هذه المرة لكي ينتظم الأطفال في الدراسة .. وأصبحت أسرتي تمضي معي عدة شهور كل سنة لا يختلف الحال فيها عما كان عليه في مصر فأنا أبو الأولاد فقط أو هكذا أحس من تعاملها

ثم وجدت نفسي أنا أيضا أسلم بيني وبين نفسي أنها قد أصبحت بالنسبة إلى "أم الأولاد" كذلك ما دامت هذه هي طريقتها وفهمها للحياة الزوجية ولم أعد أشعر تجاهها بأية عاطفة .. وفي هذه الظروف ومع الساعات الطويلة التي أمضيها وحدي في شقتي الخالية في الغربة ، وجدت زائرا غريبا يقتحم حیاتی بدون استئذان .. هل تعرف من هو هذا الزائر ؟ انه طيف زميلتي السابقة في الجامعة التي لم أرها منذ 15 عاما ! ففجأة أصبح طيفها رفیق الدائم في وحدتي كأني ما أزال طالبا في الجامعة .. وأتحدث معها .. وأبوح لها بكل ما لم أستطع أن أقوله لها في هذا الزمن البعيد .. ولم أعد أستطيع النوم إلا قليلا فصورتها تطاردني ليل نهار .. وهي معي في العمل وفي الطريق وفي مسكني وأتخيلها دائما قادمة إلى من طريق طويل .. وأهم بأن أفتح ذراعي لاستقبالها فأتنبه لنفسي وأستغفر الله طويلا .

 



ولكاتب هذه الرسالة أقول :

إنه من الطبيعي أن يفر الإنسان من تعاسته إلى ذكرياته وخیالاته فالحنين إلى الماضي ورموزه إحساس تهفو إليه نفس الإنسان من قديم الزمان .. وليس منا من لم يحن إلى ماضيه "إذ الناس ناس .. والزمان زمان" ، كلما ضاق صدره بما يعانيه ، والحق أن ظروفك تؤهلك تماما لهذا النوع من الهروب إلى الماضي ، لأنك تفتقد دفء المشاعر بينك وبين زوجتك ، وأنت وحيد غريب بعيد عن الأهل والأصدقاء وفي مثل هذه الظروف يستعرض الإنسان كثيرا شريط حياته ويتمنى أحيانا لو كانت الدنيا غير الدنيا ، والطريق غير الطريق ، لكن هل كل ما يتمناه المرء يدركه یا صدیقی .

إنها مجرد استراحة نفسية من الهموم .. تخفف الآلام .. ثم يواصل الإنسان بعدها الطريق .. ولا بأس بها ولا خطر منها إذا لم تتجاوز حدودها ولم تتعد دائرة الأفكار والخواطر إلى دائرة الفعل والمستحيل وهو استدعاء الماضي ورموزه إلى الحاضر من جديد وأعتقد أن الأمر بالنسبة لك لا يتعدى هذه المرحلة لذلك فهو لا يستدعي إستشارة الطبيب النفسي ، لأنها ليست هلاوس مرضية يختلط فيها الواقع بالخيال ، وإنما مجرد دفاع مشروع عن النفس ضد المرارة والاكتئاب.

وفي الحقيقة فإن ما تعانيه ليس هو المشكلة إنما هو عرض من أعراض المشكلة الأساسية وهي إهمال زوجتك للجانب العاطفي من علاقتها بك، وهو خطأ قديم تقع فيه زوجات وأزواج كثيرون يترفعون غباء و حمقا بعد سنوات من الزواج عن الاهتمام بالشؤون العاطفية في العلاقة الزوجية .. ويتصورون أنها أمر لا يتناسب مع قدم العهد بالزواج وكثرة الأعباء والمسئوليات ، فيحولون بذلك العلاقة الزوجية إلى علاقة مساكنة ومشاركة في الأعباء والمتاعب العائلية فقط ، مع أن الإنسان هو الإنسان في كل مرحلة من العمر .. ويجب دائما أن بحس بأنه مرغوب ومطلوب لذاته وشخصه وليس فقط بسبب عقد "الشركة" الذي وقعه مع زوجته.. بل لعل حاجته لهذا الإحساس تتزاید کلما تقدم به العمر عنه وهو في سن الشباب .. لهذا جاء في القرآن الكريم عن الزواج إنه «مودة ورحمة » ، وتعبير " المودة " هذا هو نفسه الحب بلغة العصر التي نستخدمها الآن .. لكن آفة البعض منا أنهم لا يجيدون التعبير عن مشاعرهم لشركاء حياتهم .. أو يضنون بذلك عليهم بعد سنين من الزواج ، رغم أهميته وحيويته لاستمرار العلاقة الدافئة بين الزوجين دائما .. لأن الحب کالزهور النادرة يحتاج دائما إلى رعاية مستمرة وإلى خدمة طويلة .. وإلا جفت أوراقها وسقطت وتعذر إحياؤها من جديد .

ويبدو أن كل ذلك قد غاب عن زوجتك .. في غمرة انشغالها بتربية الأبناء وفي استنامتها إلى الإحساس الخادع بأن الزوج في قبضة اليد دائما ما دام هناك أبناء. وهو إحساس يقود غالبا إلى الإهمال والتقصير .. ويفتح الباب أحيانا للمتاعب والنزوات المفاجئة بعد سنوات الاستقرار فهل لابد من زلازل دائما لكي يتنبه البعض لضرورة أداء واجباته تجاه الآخرين ؟.

إن الإنسان مطالب دائما بأن يستشعر شيئا من الخوف من احتمال فقد الآخرين إذا تمادى في تجاهلهم لكي يدفعه هذا الإحساس إلى الحرص عليهم وأداء حقوقهم ويبدو أن زوجتك في حاجة إلى شيء من هذا الإحساس .. ولا شك أنك تستطيع أن تنقله إليها بحكمة .. بشرط أن تضع أنت نهاية لوحدتك بعيدا عنها .. فإن أطياف الماضي تهاجمك بشدة الآن لأنك بعيد عن أسرتك والأفضل لك أن تتحصن ضدها إما باستدعاء أسرتك للإقامة الدائمة معك ، وإما بعودتك أنت إلى عملك وبلدك ، فاختر من هذين الأمرين ما يناسبك ، لأن المرض لا يتمكن من الإنسان إلا في حالة ضعفه ، وأنت الآن في حالة ضعف يسهل معها غزوك بالأطياف والأشباح وقد فات الآن أوان التحسر على الماضي والندم عليه وأنت يا صديق لم تكافح جديا في شبابك للارتباط بمن تعایشك الآن في خيالك بل كنت سلبيا تماما في علاقتك بها فلا مبرر الآن للعذاب وقد خط كل إنسان طریقه بعيدا عن الآخر وأثمرت رحلتك ثمارها فأنجبت طفلين جميلين وحققت لنفسك الكثير من النجاح والتقدم . فانظر أنت أيضا إلى جوانب الصورة الأخرى المضيئة .. وارض عما أعطته لك الدنيا ، فالصوفية يقولون في بعض أوراقهم : "إن الشيطان يغرى الإنسان بالمفقود .. لينسيه الشكر على الموجود " والموجود في حياتك كثير ويستحق منك الشكر عليه والمفقود منها ليس بعيد المنال .. لو بذلت المزيد من الجهد والصبر والمهارة .. لكي تبقى السفينة طافية فوق الماء.


   نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1988

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات