الجحود فطرة إنسانية قديمة .. لهذا يهوِّن علينا علماء النفس ما نحسه من مرارة حين نتوقع الشكر من الآخرين، فنتلقى الصفع ويرون لنا أن السيد المسيح عليه السلام قد شفى ذات يوم 10 من المشلولين، فلم يشكره منهم سوى واحد .. وأما الـ 9 الآخرون فقد انصرفوا عنه دون كلمة شكر واحدة !
عبد الوهاب مطاوع
تخيَّل أنك تجلس على الشاطئ، ترقب المصيفين
من حولك .. وفجأة لمحت طفلاً صغيراً في البحر , وقد غلبته الأمواج وسحبته بسرعة
هائلة إلى موقعه , ثم درت حوله حتى لا يعرقل حركتك , حين يتشبث بك , واحتضنته من
الخلف وهدأت روعه وبدأت تسبح عائداً به إلى الشاطئ .. وفي الطريق , قاومت الموج
العالي أكثر من مرة , وصمدت له وبذلت مجهوداً بدنيّا كبيراً حتى بلغت الشاطئ
منهكاً , فتركت الطفل يفلت من بين يديك , وارتميت على الأرض تلهث منهكاً وتحاول
التقاط أنفاسك , في حين جرى الطفل – وهو لا يصدق نجاته – إلى أسرته ..
وبعد قليل رأيته عائداً إليك مع سيدة تُمسك
بيده , قدرت أنها أمه .. وتهيأت نفسياً لأن تسمع منها عبارات الشكر والثناء على
شهامتك ومروءتك , فما إن اقتربت الأم حتى سألتك : هل أنت الذي أنقذت طفلي من الغرق
؟
وأجبت في تواضع : نعم يا سيدتي .
فإذا بها تقول لك : إذاً أين الساعة التي كانت
في يده ؟!
ماذا ستفعل حين تسمع ذلك ؟ أقول لك أنا
...ستنظر إليها ذاهلاً ومندهشاً ومكتئباً وأنت لا تصدق ما سمعت وستشعر بغصة شديدة
في حلقك تعجزك عن الكلام وبحجر ثقيل هبط فجأة فوق صدرك , وكيفما انتهى الموقف بينك
وبينها ! فسوف تعود إلى بيتك وأنت تحس بالقهر والغيظ والمرارة , بدلاً من أن ترجع
إليه راضياً عن نفسك وعما فعلت , وقد تعقد العزم على ألا " تفعلها " مرة
أخرى مع أي إنسان آخر ..فتكون النتيجة أن تنقص مروءتك بدلاً من أن تزيد ..
إن هذا بالضبط هو ما يفعله الجحود والإنكار
وكتمان الشكر والجلافة التي تصل إلى حد الوقاحة أحياناً في نفوس البشر .
فالجحود يؤدي إلى انتشار قيم الأنانية
والإحجام عن العطاء ..ويضعف من النخوة والشهامة والمشاركة , ويفسد على الإنسان
سلامه النفسي بما يخلفه فيه من مرارة تجاه من توقع منه الشكر , فإذا به يتلقى منه
طعنة جارحة , فضلاً عمَّا في الجحود نفسه من تناقض غير منطقي وصارخ بين الفعل ورد
الفعل .
لهذا كله حثت الأديان السماوية البشر على أن
يتعلموا الشكر , ويكتسبوا فضيلته وعادته , ابتداءً من شكر المُنعم الأكبر جل جلاله
إلى شكر كل إنسان أحسن إليهم عملاً أو قولاً.. وأن يستفيدوا بفضيلة الشكر في التقليل
من شرور الحياة ودفعها في اتجاه مثلها الأعلى , ولهذا أيضاً أحب الله عباده
الشاكرين له ولعباده على السواء , ووعدهم حسن الجزاء " وسيجزي الله الشاكرين
" وكره
الجاحدين لنعمته ولأفضال عباده عليهم , واعتبر من شكر إنساناً على صنيع أدَّاه ولو
كان تافهاً فكأنما شكر ربه وأحسن عبادته , فقال في الحديث القدسي : " عبدي لم تشكرني إذ لم
تشكر عبدي الذي أجريت نعمتي على يديه " .
وقال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : " من لم يشكر الناس لم يشكر
الله " ,
ورفع إنكار الشكر لمن يستحقه أو كتمانه إلى مرتبة الكفر فقال في حديث آخر : " من أُعطي عطاء فوجد
- أي وجد لديه ما يرده به إلى المهدي – فليجزه , ومن لم يجد فليثن , فإن من أثنى
فقد شكر ومن كتم فقد كفر " ..أي من كتم الشكر بخلاً به على من يستحقه أو تكبراً واستعلاءً
فقد كفر بنعمة ربه التي أجراها على يدي عبده ..وجاء في الأثر أيضاً أن المؤمن إذا
مُدح في وجهه ربا الإيمان في قلبه , أي زاد الإيمان في نفسه , واستحب أن يكثر من
العمل الطيب الذي استحق به الشكر .
لكن مئونة الشكر والعرفان ثقيلة على بعض
النفوس , وتحرك في أصحابها الإحساس بالنقص إزاء من يستحقونها , ولا يقوى عليها إلا
أهل الحق , وأصحاب النفوس الكبيرة .
لهذا كله يهوِّن علينا علماء النفس ما نحسه
من مرارة حين نتوقع الشكر من الآخرين , فنتلقى الصفع , بأن الجحود فطرة إنسانية
قديمة ويرون لنا أن السيد المسيح عليه السلام قد شفى ذات يوم 10 من المشلولين ,
فلم يشكره منهم سوى واحد , وأما الـ 9 الآخرون فقد انصرفوا عنه دون كلمة شكر واحدة
!
ويقولون أيضاً إن الإمبراطور الروماني
الحكيم ماركوس أورليوس كتب منذ أكثر من 1700 سنة : " سألتقي هذا اليوم بأشخاص أنانيين
جاحدين لكن ذلك لن يدهشني لأن الحياة لن تخلو منهم أبداً " .
فهل يعني ذلك .. أن نسلِّم بهذا البلاء
ونيأس من شفاء البشر منه ؟
ليس هذا هو الهدف بكل تأكيد , لكن النصيحة
هي أن تستهدف بعملك وجه ربك لا شكر الآخرين فإن جاء الشكر منهم فقد رفعوا عن
أنفسهم إثم كتمانه وأعفوا أنفسهم من عار كفر النعمة , وإن لم يجئ ففي السماء رزقكم
وما توعدون , ولقد شكر الله لك ما فعلت قبل أن يشكره لك البشر , وأضيف إلى رصيدك
من الخير والفضائل , سواء أقر به الآخرون أم لم يفعلوا , والهدف أيضاً هو أن تبدأ
أنت بنفسك فتكون من الشاكرين لربك ..وللبشر وللحياة وللجميع , ففي كلمة " شكراً " تقولها لمن أفسح لك الطريق أو
جاءك بكوب ماء , عبادة وأخلاق ودين , وفيها شهادة أيضاً لك بأنك إنسان راق متحضر
..إذا أنك لو دققت النظر للاحظت أن عادة الشكر ترتبط عند البشر بالمستوى الحضاري
والثقافي لهم ..فكلما ارتقى الإنسان اجتماعياً وثقافياً كثر استخدامه لمفردات
الشكر وتعبيراته المختلفة , وكلما نخفض مستواه الثقافي والحضاري والأخلاقي ..ندرت
عبارات الشكر على لسانه ولم يحس بحاجته إليها لانحطاط قيمه الأخلاقية والدينية ,
وعجزه هن إدراك حقوق الآخرين عليه , كما أن الشكر أو اكتماله يرتبطان أيضاً بسلامة
الشخصية ومدى خلوها من مركبات النقص , فالشاكر لا يحس بأي نقص تجاه من يشكره .
والمجتمع السليم المتحضر هو الذي تنتشر فيه
عبارات الشكر في التعامل اليومي بين البشر ..
ولا أظن أن أحداً يسعده أن يسمع ذلك من أي
إنسان , لهذا ففي الاعتدال تكريم لمن تمدحه وتأكيد له بأنه أهل لما فعل , والحق
أننا نحتاج جميعاً لأن نتعلم فضيلة الشكر ونقبض عليها بأيدينا وألاَّ ننساها في
معاملاتنا مع الجميع , لأنها تيسر الحياة وتقلل من صعوباتها ..وتأسر النفوس وتحثها
على العطاء والمشاركة بدلاً من الانكفاء على الذات , ونحتاج إلى أن ندرب أنفسنا
على ألاّ تفسد علينا المرارة التي نحسها حين يكتم عنّا الآخرون شكرنا أو يتنكرون
لنا , سلامنا النفسي واستعدادنا لمواصلة العطاء للحياة وللآخرين .
وقد مر السيد المسيح بقوم من اليهود فقالوا
له مقالة سوء , وقال لهم مقالة خير , فتعجب حواريوه وقالوا له : إنهم يقولون لك
شرّا وتقول لهم خيراً ..فقال : كل واحد ينفق مما عنده !
والتنزيل الحكيم يقول لنا : { وقليل من عبادي الشكور } , إذا فلتكن أنت يا صديقي
من هؤلاء "
القليل " ..ولا
يحملنك جحود الآخرين أو عقوقهم على أن تضع نفسك أنت حيث يجدر بها أن تكون , فأرسطو
يقول : "
إن من دلائل رفعة الشأن أن يسدي المرء صنيعاً للآخرين " .. وأنت بلا شك من أصحاب " الشأن الرفيع " إذاً فلا تبخل بعون تملكه
على احد ولا بعطاء تقدر عليه للحياة أو للآخرين ...شكروا لك أو لم يشكروا .
وقديماً لخّص الفاطميون بغير أن يقصدوا أزمة
الجحود الإنساني كلها في نوع من الحلوى كانوا يقدمونه في المناسبات الدينية فأسموه
: " كل
واشكر " ..لكننا
قد أكلنا جميعاً ...ولم نشكر , أو شكر منّا "القليل " وكتم الكثير أو جحدوا , وتواصل " الجحود " ..واستمر حتى يومنا هذا
يرسِّب المرارة في النفوس !
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر