الشموع المطفأة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 الشموع المطفأة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

الشموع المطفأة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


 الله هو الواهب المانح وحده .. وهو المانع والقابض وحده و لا فضل لمن أوتي خير الدنيا غير أن الله شاء ولا لوم على من حرم منه غير أن الله شاء ..فتقبل أقدارك ..واعتصم بالصبر والأمل.. فرحمة الله قد تهبط من السماء في أية لحظة .

عبد الوهاب مطاوع


أكتب إليك في عيد ميلادي الخمسين لأقول لك أني رجل تزوجت منذ ثلاثة وعشرين عاما من فتاة كانت ومازالت الزوجة الوفية والصديقة المخلصة والشريكة الأمينة .. تقرأ أفكاري قبل أن أبوح بها وتلبي رغباتي قبل أن أعلنها .. وأنا رجل منظم ودقيق وبار بأهلي وعشيرتي وذوي رحمي .

وعندما تزوجت كانت أمنيتي وأمنية من حولي أن أرزق بوليد يضيء حياتي وحياتهم .. لكن السنوات الأولى من الزواج مضت ولم نوقد شموعا ولم نسمع بكاء طفل  ولا ضحكته .. فانزعجت خاصة وأنا من أسرة صعيدية تقدس الولد وتفضل المرأة الولود , وبدأت بعد خمس سنوات من الزواج رحلة البحث عن الإنجاب بادئا باسم الله ومستعينا به ومستهديا بأنبيائه .. وتحملت زوجتي المسكينة العديد من العمليات الجراحية والجلسات الكهربائية .. ولم تئن أو تتوجع وتحملتها صابرة راضية بقضاء الله وقدره .. وأنفقنا في سبيل ذلك كل ما وقعت عليه أيدينا لكن الله لم يأذن بالفرج .. ومضت سنوات العمر وشموعنا مازالت مطفأة وبدأ الشعر الأبيض يتسلل إلى رأسي ونظرات الإشفاق في عيون أهلي تحاصرني فبدأت أعطي سمعي لمن ينصحني بالزواج مرة أخرى , وسألت نفسي ذات يوم .. لم لا ؟..

ولم يبق في العمر بقية .. فاستخرت الله واستشرت رجال الدين فوافقوني على أنه حقي الشرعي ورجال الطب أكدوا لي أنه لا مانع لدي من الإنجاب وبحثت عن زوجة بعقلي هذه المرة وليس بقلبي فما أنا بالرجل المزواج ولا صاحب النزوات لكني أريد وليدا .. مجرد وليد يبتسم فتبتسم معه الدنيا في وجهي .. ويبكي فأبكي له ويمرض فأمرض من أجله .. ويجري ويلعب وأحس بالخوف عليه والأمل فيه ويخلفني من بعدي , فراعيت في اختياري السن والاعتبارات الاجتماعية .. وجمعني الله بزوجة فاضلة من أسرة طيبة سبق لها الزواج والإنجاب ..وتزوجتها على بركة الله ..وراعيت حقوق زوجتي الأولى .. وعشرتها الجميلة فحرصت بكل طاقتي على إرضائها والعدل معها ..

واستقبلت حياتي الجديدة مستبشرا فمر العام الأول طبيعيا .. لكننا لم ننجب فيه ولم تحمل زوجتي الثانية ثم مر العام الثاني بلا حمل ولا إنجاب .. فتجددت المشكلة القديمة .. وعدنا نطوف من جديد على الأطباء ..فأكدوا جميعا أنه من ناحيتي لا مانع قطعي لدي من الإنجاب , كما أن زوجتي الثانية لا مانع طبي لديها منه .. وكلما مر عام ولم تظهر البشائر تزداد المشاكل وتتوتر الأعصاب وتتوالى الأسئلة والاستفسارات من حولي ..

وأصبحنا نحن الثلاثة : زوجتاي وأنا في سباق مع الزمن ..يجري كل منا على الأطباء ولا يدع وسيلة طبية إلا ويستخدمها .. ويلهث كل منا وراء الأمل في طريق معاكس .. ويلقي كل منا باللوم على الآخر فازداد التوتر العصبي والنفسي وأصبحنا نحن الثلاثة حقل تجارب طبية لكل من نتعامل معه من الأطباء والباحثين وتضخم ملفي الطبي الذي أعرضه على كل طبيب جديد يفحص زوجتي ومضت 5 سنوات منذ زواجي الثاني ونحن على هذا الحال ..

وجاء يوم ميلادي الخمسين فهاجت أفكاري وتأملاتي ووجدت نفسي في مفترق الطرق حائرا أحاول أن أجمع شتات نفسي وأصحح الأوضاع .. ولا أدري ماذا أفعل هل أسرحهما سراحا جميلا معا لعل الله يرزقهما بمن هو خير مني .. أم هل أسرح زوجتي الأولى .. هل أسرح زوجتي الثانية ..هل أتزوج للمرة الثالثة لعل الله يهبني غلاما ذكيا .. هل أنبذ هذه الأفكار جميعها وأتقبل قدري وأرضى بالأمر الواقع .. ماذا أفعل يا سيدي .. وقبل أن تجيبني دعني أسألك أليس من حقي أن يكون لي غلام ينير ظلام حياتي ؟ سبحانك ربي إن الحيوانات الضالة لها أولادها .. فهل عجزت أنا عن  أكون مثلها ؟ إن الشوارع ملأى بالأولاد اللذين لا مستقبل لهم .. فلماذا ضنت علي الأقدار بواحد مثلهم .. وعندي له ما يحمي مستقبله أستغفرك ربي وأتوب إليك .. لكن ماذا أفعل ؟

 

لكاتب هذه الرسالة أقول :

حالك يا صديقى هو خير حال تنطبق عليه تأشيرة رجال النيابة التقليدية في قضايا النزاع على المسكن , مع تحوير بسيط فيها لتتلائم مع ظروفك فتصبح : "يبقى الحال على ما هو عليه .. وعلى المتضرر أن يلجأ إلى الله الذي لا ينقطع فيه  الرجاء ".

هذه هي نصيحتي إليك بعد أن جرى ما جرى .. ذلك أن أي تصرف تقدم عليه الآن عدا الرضا بما اختاره الله لك والقبول به سوف يتضمن إساءة لطرف آخر لا حيلة له في هذه الظروف غير المواتية .

فما معنى أن تسرح زوجتك الأولى وقد كانت ومازالت الزوجة الوفية والصديقة المخلصة التي تفهم أفكارك قبل أن، تبوح بها .. وقد أحسنت عشرتك كل هذه السنين وقبلت وفي قلبها غصة لم تدرك عمقها أن تتزوج بأخرى أملا في الإنجاب ودخلت معكما السباق رغم كل ذلك تلهث فيه على أمل أن تنجب لك غلاما تسعدك به .. وما معنى أن تطلق زوجتك الثانية وقد قبلتك بظروفك الخاصة .. ولم تقصر في حقوقك .. ولم تنكص عن الجري معكما في نفس السباق إرضاء لك وحرصا عليك ...

إن كانت الحياة قد استحالت معهما أو مع إحداهما بسبب الظروف غير الطبيعية فالأقرب للعدل والرحمة أن تسرح الثانية إن رغبت هي في ذلك أما إن لم ترغب فيه ولن ترغب في ظني فلا حق لك في أن تعرضها لمحنة انفصال جديدة لم تردها لنفسها ولم تسع  إليها .

أما تفكيرك في الزواج للمرة الثالثة ..فهذا ما لا أفهمه ولا أوافقك عليه بأي حال من الأحوال.


إذ ماذا يمكن أن يعدك به زواج جديد يضيف إلى متاعبك و معاناتك  الكثير وقد جربت أن تتزوج للمرة الثانية من زوجة ولود فلم يأذن الله بالإنجاب وأنت باعترافك لست مزواجا ولا صاحب نزوات ..ولم تعد في سن التجارب والاختبارات الجديدة من بعد ما كان وما جرى .

أما تساؤلاتك المؤلمة عن الحيوانات الضالة وتعجبك من كثرة الأبناء الضائعين في الشوارع ..وأنت من تتشهى غلاما واحد ولم تدع سبلا ولا بابا لم تطرقه من أجله ..فلا رد عليه عندي سوى أنه قد ذكرني بمعنى هذا الحديث القدسي الكفيل بالإجابة عن كل التساؤلات الحائرة ..ليس في موضوع الإنجاب وحده وإنما في كثير من صور الحياة وتناقضاتها " لأرزقن من لا حيلة له ..حتى يتعجب أصحاب الحيل ! " .

 

نعم حتى يتعجب أصحاب الحيل يا صديقي ..ويرجعوا إلى ربهم ويسلموا له بأنه الواهب المانح وحده ..وبأنه المانع والقابض وحده وأنه لا فضل لمن أوتي خير الدنيا غير أن الله شاء ولا لوم على من حرم منه غير أن الله شاء ..فتقبل أقدارك ..واعتصم بالصبر والأمل..فرحمة الله قد تهبط من السماء في أية لحظة .. والرجل قادر على الإنجاب حتى السبعين ...وليس لنا سوى أن نشكر الله على ما أعطى وما حجب ..وهبك الله من فضله لترضى ..والسلام .  

 نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1989

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات