حائط الأمان .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003
إن الآباء والأمهات نجوم تضيء سماءنا وشموس تحمينا من زمهرير البرد القارس، لكن المؤسف حقا أن بعضنا قد لا يحس بأهمية هذه النجوم والشموس إلا بعد كسوفها وانطفائها.
عبد الوهاب مطاوع
أود أن أوجه رسالتي هذه لأصدقائي القراء عبر بابكم, خاصة من جحد منهم الآباء, ليرأفوا بهم قبل فوات الأوان وقبل الندم وحلول غضب الله, وليستمتعوا بعطائهم حتى بعد الرحيل, ذلك أنه بين المتناقضات نجد أنفسنا, ولولا البرد ما عرفنا حلاوة الدفء ولولا الغنى ما عرفنا قسوة الفقر.. ولولا عطاء الآباء ما عرفنا عذاب فراقهم!
ـ تجربة اليتم في مرحلة الطفولة قاسية لكنه يحاط فيها الأطفال بعطف وعطاء مستعارين من الآخرين سواء بالتبني أو الوجود بدار الأيتام أو العطف والرقة في التعامل من الأهل والأقارب.
ـ أما اليتم في خريف العمر فله مذاق آخر غير معلن وله مرارة من نوع خاص! ففي هذه المرحلة نكون قد اعتدنا آباءنا ولمسنا عن قرب متعة العطف والاحتواء والأمان, وما إلى ذلك من عطاء الآباء الذي لم يلمسه الطفل اليتيم أو لم يعه في حينه, بل سمع عنه ورآه من الأطفال الآخرين فتمناه لنفسه وبقي محروما مكسورا.
اليتم في خريف العمر يأتي بعد رحلة طردية من العطاء والحب والدفء يزداد جمالها, وارتباطنا بها بقدر طولها ومن هنا نعرف قسوة انقضائها...
فعلى اختلاف أعمارنا نحن متمسكون بالآباء لأنهم حائط الأمان وراء ظهورنا نستند إليه وقت الأزمات فقد بني عند ميلادنا...
حتي إذا وصل الآباء إلى مرحلة متقدمة من العمر حيث وهن الجسد والحال وبداية رعايتنا لهم يضاف إلى عطائهم لنا نوع آخر من العطاء, لكنه غير مباشر وهو إمدادنا بعمل جديد يضيف معنى لأهمية وجودنا في الحياة ويذكرنا بقدرة الله ويقربنا منه أكثر وأكثر, ويفتح لنا باب رضائه الذي من خلاله تتيسر أمور حياتنا بعد فراق الآباء فيظل عطاؤهم يلازمنا حتى نهاية الحياة.
لقد فقدت والدي بعد رحلة عطاء طويلة من جانبه وكانت أنفاسه الضعيفة في نهاياته هي حبال الأمان بالنسبة لي التي استمرت بعد رحيله, تيسر لي أمور الحياة برضائه ورضا الله.. إنه اليتم في خريف العمر الذي أحياه الآن والذي لم أكن اتخيل له من قبل وجودا ـ فرفقا بالآباء لكي تستقيم حياتكم بعد رحيلهم.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
كما أذكر أيضا ما قرأته في مذكرات الزعيم الهندي الأسبق جواهر لال نهرو عن اهتزازه نفسيا بشدة عند رحيل أبيه أحد زعماء حزب المؤتمر الهندي, وكان الابن نفسه زعيما من زعماء هذا الحزب ومحاميا ناجحا وخطيبا مفوها في المؤتمرات الحزبية, وبعد انتهاء فترة الحداد كان عليه القيام برحلة3 أشهر في انحاء الهند الشاسعة والخطابة في مؤتمرات الحزب في كل موقع, فرحب بالمهمة عسى أن تشغله عن أحزانه, وبدأ جولته الطويلة فلم يمض يوم لم أتذكر فيه أبي إلا وتدمع عيناي لتخيله وهو في فراش الموت هزيلا ضعيفا ويصر بالرغم من ذلك على النهوض بعناء شديد جالسا يرد تحية زواره بضم يديه إلى صدره وإحناء رأسه.. بل كثيرا ما نسيت أنه قد رحل عن الحياة واشتقت إلى صحبته الطيبة وانس وجوده إلى جواري فهممت بأن ارسل له برقية أدعوه فيها للحاق بي في أقرب فرصة.. ثم اتنبه فجاة إلى أنه لم يعد يستطيع المجيء إلى أي مكان فتنهمر دموعي بلا نهاية.
أما في الصين فلقد كانت العادة القديمة أن يعتزل الشاب الحياة لفترة طويلة عند وفاة أحد والديه, وحين رحلت والدة حكيم الصين كونفوشيوس كان في الرابعة والعشرين من عمره فظل يتردد على قبرها يوميا يتأمل الحياة والموت لمدة 27 شهرا, وانصرف خلال فترة العزلة هذه عن زوجته, ويقال إن كونفوشيوس ربما يكون قد انشغل بزوجته الشابة وأطفاله الصغار عن بعض واجبات أمه عليه, فلما رحلت شعر بوخز الضمير, وسلك هذا السلوك تكفيرا عن ذنبه, وانتهت القصة بطلاقه لزوجته بناء على طلبها في الغالب بعد 4 سنوات فقط من الزواج, وقال المؤرخون تعبيرا عن ذلك: لقد طلق كونفوشيوس زوجته حزنا على أمه!
إنهم نجوم تضيء سماءنا وشموس تحمينا من زمهرير البرد القارس, لكن المؤسف حقا أن بعضنا قد لا يحس بأهمية هذه النجوم والشموس إلا بعد كسوفها وانطفائها.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر