أصوات الحياة .. بريد الجمعة عام 1995

 

أصوات الحياة .. بريد الجمعة عام 1995

أصوات الحياة .. بريد الجمعة عام 1995


أهداف الحياة هي دائماً كالميادين الدائرية التي تصب فيها طرق عديدة قادمة من اتجاهات مختلفة, ويستطيع الإنسان دائماً إذا وجد أحد هذه الطرق مسدوداً أمامه بالعقبات أن يسعي إلي نفس الهدف عبر طريق ثان أو ثالث أو رابع, يصل به في النهاية إلي الغاية المطلوبة أو قريباً منها, فإذا أدى الإنسان واجبه تجاه نفسه ولم يقصر في بذل الجهد والعرق لبلوغ أهدافه, ثم لم تسمح له الحياة ببلوغ نفس النقطة التي بلغها غيره.. أو طالما تمناها لنفسه, فليست كارثة ولا هي نهاية الحياة أو قمة الشقاء, فلقد اختارت له السماء غير ما اختار لنفسه, ويستطيع هو أن يتعزي عما عجز عنه بما أتيح له من أسباب التعويض العديدة التي تضئ حياته كالتوفيق والسعادة في الحياة الخاصة وحب الآخرين له وتمتعه بنعمة الصحة والأهل والصداقة.

عبد الوهاب مطاوع


منذ عشر سنوات وأنا أفكر في الكتابة إليك .. وفي كل مرة يشغلني شاغل هام عن ذلك ، أو أؤجل أنا قرار الكتابة ترقباً لتطور هام في قصتي أتمنى أن أبلغك به ، وأخيراً آن لي أن أكتب وأقول لك : إنني شاب في الثالثة والثلاثين من عمري ، نشأت في أسرة بسيطة يبذل عائلها الموظف الصغير بإحدى المصالح الحكومية كل ما في وسعه لتلبية احتياجاتها .. وكنت أول أبناء هذه الأسرة ، فتركزت علي الآمال في أن أحقق لنفسي شأناً كبيراً في التعليم والحياة ، وكنت متفوقاً في دراستي بالفعل ، لكني استنفذت خلال عام الثانوية العامة معظم طاقتي في الاستذكار طوال شهور السنة الدراسية فما أن جاء موعد الامتحان حتى كنت قد أصبت بالإجهاد الشديد ولم استطع تحقيق حلم حياتي في الحصول على مجموع يؤهلني لكلية الطب البشري ، ورغم سعادة أسرتي بالمجموع الكبير نسبياً الذي حققته ورشحني للالتحاق بكلية الطب البيطري ، إلا أنني كنت حزيناً لفشلي في تحقيق أمنيتي القديمة ، والتحقت بكلية الطب البيطري على أمل واحد هو أن أستطيع بعد التخرج فيها الدراسة بإحدى كليات الطب والعمل كطبيب بشري فيما بعد ، وبدأت دراستي باجتهاد شديد واضعاً هدفي الأساسي نصب عيني ، وتفوقت كعادتي في الدراسة ، لكني بدأت خلال العام الثاني من دراستي الجامعية أحس بطنين خفيف – لكنه متصل- في أذني ، وأحاول علاجه بالأسبرين والمسكنات ، و واصلت حياتي ودراستي ، ومن حين لآخر يشتد الطنين الخفيف في أذني ويستمر بالساعات .. شيء أشبه بخروشة الراديو القديم أو بخشخشة احتكاك الورق ، لكنه يوش في أذني طوال الوقت .. وينهكني .  وبعد أن كان الطنين يزورني كل بضع ساعات بدأ يلازمني طوال اليوم ولا أستريح منه إلا إذا استسلمت للنوم ، ولا أفتح عيني في الصباح إلا عليه .. إنه عذاب رهيب لا تتخيل وطأته وأدعو الله أن يحميكم ويحمي الجميع منه ، وقد راح هذا الطنين يتصاعد ويرتفع في أذني من شهر إلى شهر كأنك ترفع صوت الراديو القديم الذي لا تصدر عنه سوى الخروشة المستمرة ، وأنا أدور بين الأطباء بلا فائدة ، وكل منهم يشخص مرضي تشخيصاً مختلفاً ..

 

وبعد رحلة طويلة من العناء أجمعوا على أن الأذن الخارجية والأذن الوسطى عندي سليمتان ، وبالتالي فإنها ربما تكون حالة نفسية وستختفي في الوقت المناسب .. وانتظرت اختفائها فلم تختفي , وإنما استمرت وتزايدت .. وبدلاً من أن أستريح من هذا الطنين القاتل المستمر ليل نهار بدأت أشعر بأنني أفقد السمع تدريجياً وأشعر بثقل غامض في رأسي ، ثم فقدت قدرتي على تدوين المحاضرات أو الدروس العملية في كليتي ، فراح أصدقائي في الكلية يكتبونها لي نيابة عني ، وبفضل مساعدتهم لي وانتظامي في الحضور رغم معاناتي نجحت في عامي الجامعي الثاني وحصلت على أعلى التقديرات ، ولأول مرة فإني لم أسعد بتفوقي في الدراسة رغم سعادة أسرتي به ، فلقد فقدت السمع نهائياً مع ظهور النتيجة وحل الصمت القاتل الثقيل محل الطنين الدائم المعذب في أذني ، وبقى الإحساس بالصداع والثقل في رأسي ثم ساءت حالتي أكثر من ذلك ، فتأثر اتزان حركتي ولم أعد قادراً على المشي بطريقة طبيعية.. وضعف ذراعاي وأصابع يدي فعجزت عن الإمساك بالقلم ، وتأثر نطقي للكلمات والأصوات ، وبعد عام طويل من العلاج بقسم السمعيات بطب عين شمس ، كشف فحص المخ بالكومبيوتر عن وجود ورمين في مراكز السمع بالمخ ، ونصحي الأطباء بضرورة السفر إلى لندن لاستئصالهما في أقرب وقت قبل أن يتفاقم الخطر ، وصدمت حين أدركت ذلك ..

وتساءلت : وأنى لشاب بسيط مثلي أن يستطيع ذلك ؟ ..

لكن ما ظننته مستحيلاً قد تحقق بالفعل ، وخلال وقت قصير .

 

فقد سعى أبي الموظف الحكومي البسيط وساعده الجميع في طلب علاجي على نفقة وزارة الصحة بالخارج ، وصدر القرار وسافرت بالفعل إلى لندن وأجرى لي جراح بريطاني للمخ والأعصاب جراحة استئصال الورمين ، وبعد نجاح الجراحة ..قال لي الطبيب الإنجليزي بواقعيته المجردة : إني يجب ألا أفكر في أن أصبح طبيباً بشرياً ذات يوم أو حتى طبيباً بيطرياً ، وأنه من الأفضل لي أن أتوقف عن الدراسة بكلية الطب وأن أمارس عملاً بسيطاً لا يحتاج مني إلى مجهود ذهني أو عضلي .

 

ورغم نجاح الجراحة فإنني لم أتخلص من الآلام والمضاعفات ، كما أني لم أشف من ضعف اتزان الحركة وشلل عضلات الوجه وضعف الذراعين وأصابع اليد .. وقيل لي : إن شفائي من كل هذه الآثار رهين بانتظامي في العلاج الطبيعي وصبري عليه ، ورجعت إلى مصر وأنا أفكر فيما قاله لي الطبيب البريطاني وأسأل نفسي : هل أيأس حقاً من تحقيق حلمي القديم في التفوق والعمل كطبيب بشري ذات يوم ؟ وفي حيرتي وآلامي قررت فجأة أن أنسى كل ما قاله لي الطبيب الإنجليزي وأن أتصرف وأخطط لحياتي كما كنت أخطط لها من قبل تاركاً لله سبحانه وتعالى أن يختار لي بحكمته التي تخفي عن الأفهام ما يشاءه من مصير .

 

وبدأت رحلة العلاج الطبيعي الطويلة ، ولا أستطيع – و حتى نهاية العمر – أن أنسى كم كان أبي وأمي وإخوتي وأصدقائي كرماء وعظماء في صبرهم على إلى مالا نهاية ، فطوال عام كامل كانت أمي الطيبة ترافقني كل يوم إلى العلاج الطبيعي وتقضي الوقت الذي يستغرقه العلاج بجواري تشجعني على أداء المطلوب مني ، ولا أرى منها طوال الوقت سوى الابتسامة الجميلة الدائمة التي تخفف عني ما أحسه من عناء ، أما أبي الذي لم يكن يمضي يوم قبل ذلك دون أن يشتكي فيه من أعراض مرض مزمن قديم يعاني منه ، فلقد كف فجأة عن الشكوى من مرضه تماماً ولم أر منه بعد ذلك إلا التهوين والرغبة في أن يخرجني من دائرة اليأس ، كأنما قد شفي بقوة سحرية من مرضه مع أنه لم يشف منه أبداً !

 

فهل كنت يا سيدي أستطيع أن أكون أقل صبراً أو شجاعة من هذين الأبوين العظيمين ؟

 

لقد عدت بعد شهور قليلة إلى الدراسة وحضور المحاضرات وأنا أمشي بطريقة غير طبيعية وغير متزنة وتُلفت أنظار الآخرين ، ورجعت إليها وأنا لا أستمع أي شيء يدور حولي ، لكني أرى والحمد لله .. وأفهم .. وأستطيع أن أتكلم أيضا حتى ولو كان النطق مختلفاً بعض الشيء ، فراح أصدقائي و زملائي العظام يتعاملون معي بالكتابة والإشارة وينقلون لي المحاضرات ويشرحون لي ما لا أفهمه منها ، ولا تسلني كيف فعلوا ذلك وأنا لا أسمعهم ، فقد كانوا يستخدمون معي كل الوسائل البصرية والتحريرية ، بل وخفة الدم المصرية أيضاً في إبلاغي بما يريدون ، فإذا بي أنجح في الامتحان وأحصل على أعلى التقديرات ، وأتخرج في كليتي وسط سعادة الجميع وفخرهم بي من أبي و أمي وإخوتي إلى أصدقائي وزملائي ، حتى من لم يوفقهم الحظ للحصول على تقديرات عالية مماثلة في البكالوريوس .

 

وبعد تخرجي عملت بمساعدة أبي في أحد معاهد البحوث المتخصصة في دراستي كباحث ، وعملت أيضاً أميناً للمكتبة به ، وبعد شهور قليلة أصبحت صديقاً لكل من يعملون بالمعهد أو يترددون عليه ، أحبهم ويحبونني ، وأساعدهم عن طريق عملي في المكتبة ومعمل التحليل فيما يطلبون من بيانات ومعلومات ، ويساعدونني فيما اعجز عنه بسبب ظروفي الخاصة ، ولست أريد أن أطيل عليك أكثر من ذلك ، لهذا فإني سأعبر ثماني سنوات من الزمن تلت تخرجي في كليتي لأطلعك على وضعي في الحياة الآن .

 

فأقول لك : إن هدايا السماء التي تسميها أنت بجوائز الصابرين والراضين بأقدارهم قد هطلت علي خلال السنوات الماضية بلا حساب ، فوفقني الله سبحانه وتعالى إلى إنسانة تستهدي بقيم الدين علماً وسلوكاً وخلقاً تفهمت وضعي من البداية فكانت خير عون لي على ظروفي وحياتي ، كما حصلت على الماجستير في تخصصي بتقدير مشرف للغاية والحمد لله ، ووفقت أيضاً للعمل كأخصائي للتحاليل الطبية في مستشفى خاص بمساعدة زملائي لمدة 5 سنوات كاملة ، أما أهم الهدايا وأعظمها فقد هبطت علي من السماء حين وهبني الله ابناً جميلاً شاءت إرادته سبحانه وتعالى أن يكون شديد التماثل معي في الشكل والهيئة ، فذكرني بطفولتي التي كدت أنساها في محنة المرض ، وأضاء حياتي وحياة أبي و أمي .

ورغم مخاوفي البديهية عليه من أن يواجه ذات يوم ما تعرضت أنا له من مرض ، إلا أنني أنفض من رأسي هذه المخاوف حين تزورني من حين لآخر وأدعو الله الكريم أن يحفظه لي ويجنبه كل ما عانيت منه في حياتي ، إنه سميع مجيب الدعاء .

 

كما حصلت أيضا - بفضل الله وتوفيقه ، وبفضل إصراري على تحقيق الحلم القديم – على درجة الدكتوراه في تخصصي ، ونلت من شهور – بتوفيق آخر من الله – درجة مدرس باحث بالمعهد الذي أعمل به ، وتقدمت لوزارة الصحة لاعتمادي كأخصائي للتحاليل الطبية ، فاعتمدني على الفور لممارسة هذا التخصص الذي يعتبر من أرقى التخصصات الطبية في العالم ، وأصبح من حقي أن أدير معملاً للتحاليل حين أريد ذلك ، كما وفقني الله كذلك لبدء أول خطوة على طريق إنشاء مركز طبي خيري صغير لخدمة البسطاء من الناس ، والحمد لله كثيراً على كل شيء ، فإني أكسب الكثير من عملي ولا أدخر حتى الآن مليماً واحداً للمستقبل ، لأني أنفق كل ما يزيد عن متطلباتي واحتياجات  أسرتي في أوجه الخير شكراً لله على نعمته وعرفاناً مني بفضله ومنته علي .

 

صحيح أنني يجب أن ادخر بعض دخلي لأؤمن به مستقبل ابني لكنني لست قلقاً من هذه الناحية فلسوف يتسع المجال أمامي قريباً ، وسوف أستطيع أن أؤمن مستقبل ابني العزيز بغير أن أتوقف عن مد يد المساعدة للآخرين في المستقبل القريب بإذن الله ..

 

وإذا كانت المخاوف تعاودني من حين لآخر من احتمال أن يعاودني المرض أو يرجع الورم مرة أخرى ويدفعني ذلك للجوء إلى زملائي الأطباء الذين أتعامل معهم ، ولأن أجري فحوصي في أكثر من معمل ولا أطمئن إلى سلامتها إلا إذا توافقت كل الفحوص ، إذا كنت أفعل هذا فعلاً فليس من الوساوس أو القلق المرضي الذي لا داعي له ، وإنما فقط لأن عملي في مجال التحاليل الطبية يطلعني على الكثير من حقائق المرض وأسراره ، ولان من يعرف أكثر يخاف أكثر كما قلت أنت ذات مرة في أحد ردودك .

 


 

وإذا كان لي مطلب أو رجاء عندك في النهاية فهو أن تواصل جهدك وتبنيك لمشاكل إخواني المعاقين وأصحاب الظروف الخاصة في مصر ، وهم لا يقلون أبداً عن ستة ملايين إنسان ، ويزيد عددهم عن عدد سكان بعض الدول الصغيرة ، مناشداً إياك أن تواصل المطالبة بحقوقهم وبإنصاف المجتمع لهم ، وأن تقول لإخواني من الأصحاء إن كل مشاكل الحياة التافهة لا تساوي شيئاً إلى جانب مشاكل الحياة برفقة إعاقة دائمة و مزمنة ، لكي يرضوا عن حياتهم وظروفهم ويلتمسوا العذر والتقدير لغيرهم من أصحاب الظروف الخاصة ..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

 

حين نشرت الكاتبة الإنجليزية ذائعة الصيت أجاثا كريستي مذكراتها منذ حوالي ثلاثين عاماً ، قالت في مقدمتها : إنها لم تلتزم فيها بترتيب زمني لوقائع حياتها ، وإنما أرادت " أن تتذكر فيها ما يسعدها تذكره وتتجاهل ما يؤلمها أن تستعيده أو تتذكره " ، وقالت تأكيداً لذلك : " لقد تذكرت ما أردت تذكره ، ونسيت ما أردت أن أنساه " ..لهذا فقد قال أحد النقاد الإنجليز عن مذكراتها : " إنها ترنيمة جميلة لبهجة الحياة أكثر منها مذكرات شخصية " .

ولقد تذكرت عبارة هذا الناقد الإنجليزي وأنا أقرأ رسالتك الجميلة هذه رغم اختلاف الوقائع والظروف ، فرسالتك هذه يا صديقي التي تذكرت أنت فيها كل ما يؤلمك تذكره هي رغم ذلك ترنيمة أخرى لبهجة الحياة .. والأمل ..والرضا بكل ما تحمله لنا المقادير ، ودعوة مخلصة لأن يكتشف كل إنسان " الأشياء الجميلة " التي يستطيع أن يحققها لنفسه وحياته إذا استمسك بالأمل والثقة في النفس وفي عدالة ما يسعى إلى تحقيقه من أهداف الحياة .

 

فلا شك أنه من دلائل العجز أن يكتفي الإنسان بالرثاء لنفسه واجترار آلامه وأحزانه ،ولوم الظروف القاسية التي حالت بينه وبين تحقيق بعض ما كان يتمناه لنفسه ، كما أنه من دلائل العجز أيضا أن يتحجر الإنسان أم بعض أمنياته ورغباته التي حالت الظروف بينه وبينها ، ويتوهم أنه لن تكون له حياة بغيرها .. فأهداف الحياة كلها يمكن تلخيصها في كلمات قليلة هي : السعادة في الحياة الخاصة .. والتوفيق في الحياة العملية .. مهما كان نوع العمل الذي يمارسه الإنسان ، ومهما كان متوافقا مع أحلامه الوردية القديمة لنفسه أو متعارضا معها . فالعمل وسيلة لتحقيق الذات وتأمين متطلبات الحياة ، وليس هدفاً في حد ذاته لا تتحقق السعادة للإنسان إلا بممارسة بعض أنواعه وحدها دون غيرها . وأهداف الحياة هي دائماً كالميادين الدائرية التي تصب فيها طرق عديدة قادمة من اتجاهات مختلفة , ويستطيع الإنسان دائماً إذا وجد أحد هذه الطرق مسدوداً أمامه بالعقبات أن يسعى إلى نفس الهدف عبر طريق ثان أو ثالث أو رابع ، يصل به في النهاية إلى الغاية المطلوبة أو قريباً منها ، فإذا أدى الإنسان واجبه تجاه نفسه ولم يقصر في بذل الجهد والعرق لبلوغ أهدافه ، ثم لم تسمح له الحياة ببلوغ نفس النقطة التي بلغها غيره .. أو طالما تمناها لنفسه ، ويستطيع هو أن يتعزى عما عجز عنه بما أتيح له من أسباب التعويض العديدة التي تضئ حياته كالتوفيق والسعادة في الحياة الخاصة وحب الآخرين له وتمتعه بنعمة الصحة والأهل والصداقة ، وبالرضا عما أتاحته له الحياة من أسباب أخرى ، وكثيراً ما قادتنا خطانا إلى طرق مسدودة شقينا بعجزنا عن اجتياز عقباتها ، ثم كشفت لنا تجربة الحياة بعد ذلك أن ما اتخذناه من طرق بديلة مرغمين قد قادتنا إلى غايات أهم وأسمى مما تحرقنا شوقاً لأن نصل إليه وبكينا طويلاً حين حرمنا منه ، ولعل هذا ما عنيته أنت حين قلت في رسالتك أنك تشك كثيراً في أنك كنت تستطيع أن تحقق لنفسك بعض ما حققته لو لم تعترض حياتك محنة الألم والإعاقة وتنحرف بك عن الطريق الذي تمنيته في البداية لبلوغ أهدافك في الحياة  .. "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

صدق الله العظيم

 

ولأننا لا نعلم فإننا قد نحزن لأنه قد فاتنا بعض ما تمنيناه لأنفسنا ، ولأنه سبحانه وتعالى يعلم ،  فقد ينتظرنا الخير الكثير في نهاية الطريق إذا رجعنا إلى الرضا .. واستنفرنا قوانا وقدراتنا وسعينا إلى أهداف بديلة أو قريبة من أهدافنا السابقة ، وبذلنا الجهد والعرق وكففنا عن اليأس والعجز ولوم الظروف ، وهذا ما فعلته أنت يا صديقي في حياتك ، ويحق لك أن تفخر به وتعتز .

 

وإذا كنت قد سعدت وأنا أقرأ رسالتك بكل ما حققته لنفسك بإرادتك وكفاحك النبيل من تقدم في الحياة العلمية والعملية ، فلقد سعدت أكثر وأكثر بما أكرمتك به الحياة من توفيق وسعادة في الحياة الخاصة .. فهذا هو التوفيق العظيم حقاً يا صديقي الذي تستحقه وبغيره لم يكن لأي توفيق آخر أن يعوضك عن معاناتك ، فلا شك أنك تستحق هذه الإنسانة المتدينة التي كانت عوناً لك على الظروف المؤلمة كما تستحق أيضا هبة السماء الكريمة لك في هذا الطفل الجميل الذي يذكرك بطفولتك ، وأرجو الله أن يحفظه لك ويتم عليك نعمته ، ولا شك كذلك في أنك إنسان مفطور على حب الحياة والبشر ، وإلا ما أحبتك الحياة وأحبك البشر من أصدقاء وزملاء في الكلية وفي العمل .. فكاره الإنسان مهما تخفى بأحقاده أو خدع البعض مؤقتا لا يمكن أبدا أن يكسب حب الآخرين له أو يستمتع بنعمة الصداقة الحقيقية ودفئها ، ولقد كان الدعم النفسي الذي حظيت به من أبويك العظيمين ومن أصدقائك و زملائك من أهم أسباب تقدمك في طريق الشفاء ، أما أهم أسباب تقدمك على طريق تحقيق أهدافك  في الحياة فلقد كان في رأيي هو تمسكك الدائم بالأمل في غد أفضل ..وإيمانك العميق بهذا الغد .. فالذين يعيشون حياتهم – كما يقول لنا كاتب أمريكي معاصر – وفي أذهانهم أنه لن يكون هناك غد أفضل.. فإنهم لا يجدون هذا الغد أبدا حين يصلون إليه ، لأنهم لم يؤمنوا به من البداية ولم يتمسكوا بالأمل فيه ، أما أنت يا صديقي فلقد وجدته حين وصلت إليه لأنك لم تفقد الرضا بظروفك ولا الإيمان بنفسك وبحقك في هذا الغد الأفضل ولا الأمل فيه ..

 

وشكراً لك على هذه الترنيمة الجميلة في حب الحياة التي تتردد أصواتها البهيجة في قلبك بدلاً من أذنيك ، وشكرا لك لإحساسك النبيل بمشاكل المعاقين . . وعهدي معك ألا أكف عن مطالبة المجتمع بإنصافهم ورعاية حقوقهم عليه . 

 *نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1995

                                 راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات