الجو الثقيل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
العدل الحقيقي هو أن نرفض الظلم لأنفسنا, وألا نظلم في الوقت نفسه أحداّ.. هذا العدل الذي يأمرنا به الله مع أنفسنا, ومع الآخرين كفيل بحل كل المشكلات.
عبد الوهاب مطاوع
كثيراّ ما قرأت
رسائل بريد الجمعة وتعاطفت مع أصحابها المهمومين, ولم أكن أدري أنه سيجئ اليوم,
الذي أصبح فيه واحده منهم, وأكتب إليك بهمي وشجوني كما يفعلون.
فأنا يا سيدي
محاسبة في السادسة والثلاثين من عمري, علي قدر من الجمال, تزوجت منذ 12 عاماّ من
محاسب يكبرني بخمس سنوات, تعرفت إليه لدي بعض الأقارب, وتفاهمنا منذ اللقاء الأول
وتزوجنا خلال أربعة شهور, بعد أن ربط الحب والألفة سريعاّ بيننا, وأنجبنا طفلنا
الأول, وبعد مجيئه توفي أبي الحبيب- رحمه الله - وتأثرت تأثراّ شديدا برحيله ولم
يخفف عني أحزاني سوي زوجي الذي أحببته , واعتبرته بعده كل شئ في حياتي , وبعد عام
آخر أنجبنا طفلنا الثاني , ثم عمل زوجي بإحدى الشركات الاستثمارية وازداد دخله
وراح يغدق علي أسرته الصغيرة , ويحاول أن يجعل بيتنا واحة جميلة وأنيقة معطرة بعطر
الحب والتفاهم , فلم أتردد طويلاّ في أن أستقيل من عملي , وأتفرغ لرعاية بيتي
وأطفالي , وتنظيم حياة زوجي والاهتمام بكل شئونه , فلقد سلمت إليه قلبي ولم يعد
يسعدني شئ في الوجود سوي قربي منه ووجودي إلي جواره, فحتي بعض الأزمات المالية
الطارئة لم تكن تنغص علي حياتي , وكنت أقول له دائماّ إن المال يذهب ويجئ , أما
الحب والسعادة وصفاء المشاعر فلا تقدر بمال , ومضت حياتنا جميلة , فأنا بطبعي
هادئة ومسالمة ولا أحب المشكلات ولا جو الخلافات , وأؤمن دائما بأن الزوجة لا تسعد
إلا بسعادة زوجها وأبنائها معها , كما أن زوجي عطوف ورقيق ومتفاهم , وكان ينتهز
أوقات فراغه القليلة ليضئ حياتنا بوجوده معنا.
ومنذ عام بلغ زوجي
سن الأربعين فبدأ - علي غير عادته- يكثر من الخروج حتي في الفترات التي لا يكون
مرتبطا فيها بعمل , كما بدأ يتأخر كثيراّ في العودة إلي البيت في المساء, واستمرت
هذا الحال ثلاثة شهور, إلي أن عاد ذات مساء متأخراّ فداعبته بالسؤال عما إذا كان
قد عرف امرأة غيري , فإذا به لدهشتي وصدمتي الشديدة فيه يجيبني بالاعتراف بأن ذلك
قد حدث فعلاّ , لكنه في سبيله إلي قطع علاقته بها حفاظا علي بيتنا ! وبرغم صدمتي..
فقد ذهلت لفترة ثم تمالكت نفسي , وأقسمت له صادقة أنه لو قطع علاقته بها فوراّ
فسوف أسامحه فعلاّ , عن هذه النزوة وسأعتبرها نزوة سن الأربعين وسأنساها نهائياّ ,
ولن أشير إليها مرة أخري في حياتنا وسنعود لمواصلتها كما كانت بالحب والتفاهم ,
فأكد لي زوجي أنه سيفعل ذلك فوراّ ولن يكون هذا الأمر مجالا للخلاف بيننا مرة أخري.
وسامحته بالفعل يا
سيدي , ولم تتغير مشاعري تجاهه , لكنه استمر في كثرة الخروج والتأخر, فساورتني
الشكوك في أنه لم يقطع هذه العلاقة العابرة , التي وعدني بقطعها وصارحته بذلك أكثر
من مرة , فكان يؤكد لي أن الأمر قد انتهي تماماّ, ولا داعي لإفساد حياتنا بالشك
فيه وأنست الصدق في حديثه, وأنا دائماّ أصدق زوجي وأصدق الآخرين أيضاّ, ولا أفترض
في أحد الكذب , فاطمأنت خواطري تجاهه وواصلنا حياتنا في سلام وأحطته بالحب
والتفاهم, الذي لا أتصور الحياة الزوجية بدونهما , لكن سيدة لا أعرفها اتصلت بي
بعد شهور وأبلغتني - بلا مقدمات - بأن هناك فتاة تتردد كثيراّ علي مكتب زوجي في
الفترات المسائية , وتنتظره حتي ينتهي من عمله ويغادر معها العمل , وانتظرت عودة
زوجي في تلك الليلة وأبلغته بما سمعت وسألته عن صحته , فأكد لي أنها شائعة ظالمة
ولا أساس لها من الصحة , وصدقته مرة أخري ولمست الصدق في حديثه , ولم أسمح للشكوك
بأن تفسد علينا حياتنا, ثم بعد ثلاثة شهور أخري فوجئت بسيدة أخري لا أعرفها, تتصل
بي وتبلغني هذه المرة خبراّ عجيباّ , هو أن زوجي قد تزوج من فتاة , وأن زوجته حامل
وإذا أردت أن أتأكد من صدق هذا الكلام , فلأذهب فوراّ إلي العنوان التالي وأتحقق
بنفسي من وجوده مع زوجته في شقة والدتها!.
وفكرت في البداية
في ألاّ أذهب , وأن أعتبر هذا الاتصال محاولة أخري مجهولة المصدر لإفساد سعادتنا..
لكنني بعد قليل وجدت نفسي مدفوعة برغبة طاغية في الذهاب إلي العنوان , الذي
أبلغتني به هذه السيدة , والتحقق مما سمعت. وارتديت ملابسي وتوجهت للعنوان الذي
تبين لي للأسف أنه قريب جداّ من مسكننا, وشاهدت سيارة زوجي تحت البيت , وصعدت إلي
الشقة التي أبلغتني بعنوانها السيدة المجهولة , وطرقت الباب ففتحته لي سيدة شابة
تبدو حاملاّ في حدود الشهر الرابع تقريباّ , وتطلعت إلي في هدوء وترقب وبغير دهشة
, فسألتها بصوت مرتجف عن زوجي فإذا بها تجيبني ببساطة بأنه موجود في " الداخل
".. ثم استدارت ونادت علي زوجي , فإذا به يخرج إلي من غرفة النوم , وحين رآني
عقدت الدهشة لسانه فلم ينطق بحرف, أما أنا فلم أتمالك نفسي حين رأيته خارجاّ من
غرفة النوم وخلعت دبلة الزواج , وأنا أرتجف من الانفعال.. وألقيت بها علي المائدة
الموجودة في الصالة وطلبت منه أن يطلقني فوراّ.. وارتبك زوجي بشدة وحاول تهدئتي ,
وأصر علي أن نخرج معاّ لنتكلم في أمرنا في مكان آخر, وسحبني من يدي إلي خارج الشقة
وهو يعتذر لي عما فعل , ويعترف لي بأنه لم يكن لديه أي مبرر لأن يفعل ما فعل , فلا
هو يشكو من نقص شئ في حياته. ولا أنا يعيبني شئ كما قال لي , بل إنه يحبني وسوف
يظل يحبني , وليس له من مبرر لما فعل سوي أن " ظروف " هذه الفتاة كانت
صعبة , وأنه قد وعدها بالزواج بعد أن تعاطف مع ظروفها وتزوجها , بعد ثلاثة شهور
فقط من تعرفه إليها , لكنه سوف يطلقها علي الفور ونعود لحياتنا كما كنا من قبل
وكأنه لم يحدث أي شئ.
ولم يستغرق الأمر
وقتاّ طويلاّ من جانبه لإقناعي بالسكوت علي ما جري ولاحتوائي , فأنا كما قلت منذ
البداية سيدة مسالمة ولا أحب الفضائح والمشكلات , وقد كتمت الأمر كله بالفعل عن
أقرب الناس إلي , وفي اليوم التالي طلق زوجي هذه الفتاة.. وتم إبلاغها بذلك فإذا
بها تأتي إليه في بيتي, وتهدده بأنها سوف تجعله يبيع كل ما يملك عقاباّ له علي ما
فعله معها, وسداداّ لإيصالات كتبها علي نفسه بمبلغ كبير, تعويضاّ لها عن الجهاز,
لأنه قد تزوجها في بيت أمها, ولم تكتف بذلك وإنما صرخت في وجهي واتهمتني أنا أيضاّ
بأنني ظالمة ولا أعرف ربي , لأنني قد دفعته إلي طلاقها وهي حامل , إذ ما ذنب هذا
الطفل الذي سيجئ إلي الدنيا بعد شهور فلا يجد له أباّ.. ولم أرد علي انفعالاتها
بشئ مراعاة لظروفها , بل طلبت من زوجي أن يوصلها بسيارته إلي بيت والدتها, وعدنا
إلي حياتنا ومرت أسابيع علي هذا التطور الخطير في حياتنا.. فبدأت صحتي تتدهور بشكل
ملحوظ وزادت نوبات البكاء اليومي في حياتي, حتي شحب لون وجهي وفقدت الكثير من
وزني, والذي يحدث الآن في حياتنا هو أنه منذ وقع الانفجار في حياتنا وأنا وزوجي
نعيش في جو ثقيل يخيم علي علاقتنا وبيتنا, ولم أعتده في حياتنا الزوجية , ولا أطيق
الحياة في ظله.. والسبب في ذلك هو مشاحناتنا اليومية أنا وزوجي حول هذا "
الطفل " , الذي سيجئ بعد شهرين ثمرة لخطئه وخيانته لعهدي , فقد طلبت منه -
وبإصرار لم أعرفه في حياتي من قبل- ألاّ تقوم بينه وبين هذا الطفل بعد مجيئه أية
صلة , ومن أي نوع ومنذ اليوم الأول لولادته كشرط أساسي لاستمرار حياتنا معاّ ,
لأنه ليس عدلاّ أن أدفع أنا ثمن غلطته وغلطة تلك الفتاة التي تزوجت زوجاّ لأخري
وأباّ , وأتقبل وجود هذا الطفل في حياته بما يحمله ذلك من دلالات ومشكلات, ورغم
أنه قد بدأ يتهمني - هو الآخر كما فعلت تلك الفتاة- بأنني ظالمة ولا أعرف ربي
لأنني أريد أن أحرمه من طفله هذا, فإنه وعدني في النهاية بأنه لن يري هذا الطفل ,
وسيكتفي بأن يرسل إليه مبلغاّ عادلاّ كل شهر, ولم يعدني زوجي بذلك إلاّ بعد أن
صارحته بلا مواربة بأنني أكره هذه الفتاة , وهذا الطفل الذي تحمله كراهية لا حيلة
لي معها , لأنهما سببان في تدمير حياتنا للأبد, ومع أن زوجي قد وعدني بما أردت
إلاّ أنني لا أكف عن التفكير والبكاء لحظة كلما تذكرت أن زوجي الذي أحببته وسلمته
قلبي ومشاعري, وحياتي, قد خدعني وكذب عليّ, واستمر في علاقته بهذه الفتاة , التي
أكاد أن أجزم بأنها هي التي اتصلت بي وأبلغتني بالعنوان لتعلن علاقتها بزوجي إلي
أن اكتشفت أنا خداعه وطالبته بطلاقي .
وما يحيرني هو أنه
يؤكد لي أنه لم يكف عن حبي حتي وهو معها, وأنني برغم حبي له الذي لا حيلة لي فيه
أيضاّ, أشعر أحياناّ بكراهية شديدة نحوه.
أما "
الكارثة " التي أخشاها, فهي أنني لا أتصور حياتي معه بعد مجئ هذا الطفل خلال
أسابيع , ومع وجود ثمرة الخداع والخيانة في الدنيا.. وأنظر إلي أطفالي وأتساءل ما
ذنبهم في أن يتهدم هذا البيت فوق رءوسهم؟ وأنظر إلي نفسي وأسأل : وما ذنبي في أن
أواجه هذه المحنة وأنا التي لم تقدم لزوجها سوي الحب والإخلاص والحياة الهادئة السعيدة
؟
لقد نصحني أبواه
اللذان صارحناهما أخيراّ بالأمر - قبل أن تذهب إليهما الأخري حاملة " صغيرها
" علي ذراعيها- بأن أحافظ علي زوجي وبيتي وأولادي, وأن أغفر لزوجي ما حدث.
وزوجي- برغم افتقادي الآن للأمان والحب معه - يحاول إسعادي وتعويضي بكل السبل,
لكنني شبة متأكدة من أن الحياة بيننا ستصبح مستحيلة بعد مجئ هذا الطفل للدنيا, إذ
لن أطيق أن أري زوجي في البيت , لأنه سيذكرني كل لحظة بطيبتي معه وسذاجتي المفرطة
, وثقتي الزائدة علي الحد به, والتي أدت إلي استمراره في هذا الزواج, وهو واثق
أنني حتي لو عرفت فسوف أغضب منه قليلاّ, ثم أصفح عنه كعادتي معه , وكأن شيئاّ لم
يكن.. وإحساسي بأنه قد استغل ثقتي فيه وطيبتي معه علي هذا النحو, يشعرني أحياناّ
بأنني قد حملت كل هذا الحب لمن لا يستحق! إنه يزعم لي الآن أنني لا أحبه بالقدر
الكافي , وأنه قد صدم بمطالبتي له بالطلاق, حين اكتشفت زواجه لأنه كان يعتقد أن
حبنا لن يهزمه شئ , حتي ولو كان زواجه سراّ من أخري وإنجابه منها ! وقد أصبحت الآن
أواجه ثلاثة اختيارات لا رابع لها هي:
إما أن أقبل
بحياتي معه كما هي الآن, وأحاول أن أنسي ما فعله ولا أظنني سوف أستطيع ذلك.
وإما أن أنفصل عنه
بالطلاق, وفي هذه الحالة ستمضي الحياة في البيت بصورة عادية , ولن أتأثر مادياّ
لأنه سيتكفل بي وبأطفالي من هذه الناحية , ويبقي معي الأبناء وينتقل هو للحياة في
بيت والديه.
وإما أن ننفصل
داخل البيت بغير طلاق , وقد جربنا هذه المحاولة فكانت غير مجدية للطرفين , لأننا
قد تعودنا علي حياة مليئة بالحب والتفاهم حول كل شئ , ولست أريد أن أضايق زوجي أو
أشقيه , وماأزال حتي الآن لا أتعامل معه إلا باحترام برغم الجو الثقيل الذي يخيم
على البيت, ويخيل إلي في أحيان كثيرة أنه من الأفضل لكلينا أن ننفصل , ولا يزال كل
منا يعامل الآخر برفق وحب من دون أن ننفصل , وكلانا يكره الآخر, وقد بقي الآن
شهران علي مجئ الطفل الذي ستضطرب له حياتي , ويحدد مصير علاقتي بزوجي , صحيح أن
الله سبحانه وتعالي قد أحل الزواج بأكثر من واحدة , لكنه صحيح أيضاّ أنه قد حرم
الكذب والخداع , فبماذا تنصحني أن أفعل مع رجائي لك بألا تنصحني بأن أقبل وجود هذا
الطفل في حياة زوجي , أو بأن أسمح لأبنائي بمعرفته , ففوق جثتي سواء بقيت مع زوجي
أن انفصلت عنه أن تنشأ بين هذا الطفل وأولادي أية صلة ذات يوم , أما زوجي فإن
علاقتنا ستظل مرهونة بوفائه بوعده لي, بألا يري هذا الطفل وألا تقوم بينهما أية
صلة, وله أن يختار ما يشاء بعد ذلك, فبماذا تنصحني أن أفعل؟
ولكاتبة هذه
الرسالة أقول:
لست مندهشاّ إلي
حد كبير لهذا الموقف المتصلب الذي تتخذينه من هذا " المولود ", الذي لم
يولد بعد, ولا يزال جنيناّ في علم الغيب , ليس لأنني أتفق معك في موقفك منه ,
وإنما فقط لأنني أفهمه وأتفهم دواعيه , فأنت - بالرغم من أنك سيدة طيبة حقاّ وحسنة
النية ومسالمة- فإن تسامحك مع الحياة ومع الآخرين, قد ضاق عن هذا المولود المنتظر,
ليس كراهية لا حيلة لك فيها كما تتصورين, وإنما تخوفاّ مما سوف يمثله من احتمالات
غير مستبعدة لتجديد الصلة والاتصال بين زوجك وأمه في المستقبل , مادامت بقيت دون
زواج آخر, فالأبناء رباط أبدي لا ينفصم بين الأبوين , حتي وإن انفصمت علاقتهما,
وأنت تتخوفين.. ولك الحق في ذلك , من أن يصبح هذا الطفل المنتظر حلقة اتصال لا مفر
منها , بين زوجك وأمه , قد تؤدي إلي تجديد العلاقة الزوجية بينهما في أية مرحلة من
العمر, لهذا فأنت تتشددين في رفضك أن يري طفله منذ يوم ولادته , كأنما قد أنجبه
غيره, وترهنين علاقتك به واستقرار أسرتك وأبنائك بمدي التزامه بهذا التحريم
المطلق. ولا شك أن الموقف العصيب الذي وجدت نفسك فيه أخيراّ هو سبب هذا التصلب,
وهذه المغالاة في التخوف من يوم ولادته , وتصورك أن حياتك مع زوجك سوف تضطرب اضطراباّ
شديداّ بمولده, إلي الحد الذي سيفسد عليك حياتكما وعلاقتكما الزوجية إلي الأبد.
ولا شك أنك تغالين كثيراّ في هذه المخاوف , ولا شك أيضاّ أنك محقة في كراهيتك لهذه
الفتاة, التي قبلت وربما سعت إلي أن يتزوجها زوجك , وهي تعلم بأنه أب وزوج لزوجة
لا ينكر عليها شيئاّ, بل ويعترف بأنه يحبها ولم يكف عن حبها حتي وهو يخون عهده
معها ويرتبط بغيرها, فإذا كنت تكرهينها فلأنها قد اعتدت علي حقك الطبيعي في
الاستئثار بمن تحبين لنفسك ولأطفالك , وهو مبرر مقبول ومفهوم , ولكن أي مبرر
تستطيعين يا سيدتي أن تبرري به " كراهيتك " لهذا الوليد المنتظر, وهو
ضحية مثلك لخطأ وعدوان أمه علي حقوق الآخرين؟
إنك ترين أنه ليس
عدلاّ أن تقبلي بوجوده في حياة زوجك, حتي لا تدفعي بذلك ثمن خطئه ونزوته غير
المفهومة وأنت لم تجني ذنباّ, لكن العدل نفسه الذي تريدينه لنفسك , هو أيضاّ الذي
ينكر عليك وعلي كل أطراف القصة أن يدفع هذا الطفل البرئ ثمناّ أفدح , وهو أيضاّ لم
يجن شيئاّ, ولا ذنب له في ضعف أبيه البشري ولا في عدوان أمه علي حقوق الآخرين.
والعدل الحقيقي يا
سيدتي هو أن نرفض الظلم لأنفسنا, ولا نظلم في الوقت نفسه أحداّ, لهذا فلست أتصورأن
تسمح لك طبيعتك الطيبة , بأن تتحملي وزر حرمان هذا الوليد من حقه المشروع , علي
أبيه في أن يراه ويعرفه ويرعاه نفسياّ ومعنوياّ , بغير أن يتعارض ذلك مع وفائه لك
وحرصه عليك وعلي أسرته , وما أكثر من يرعون أطفالهم من زواج سابق دون أن يتعارض
ذلك مع حرصهم وإخلاصهم لزيجاتهم الجديدة, وديننا الحنيف ينص علي ألا تزر وازرة وزر
أخري , وألاّ نحرم الأبرياء من حقوقهم العادلة احتجاجاّ علي أخطاء لم يرتكبوها,
ويقيني هو أن طبيعتك لو سمحت لك في البداية بفرض هذا الحرمان الظالم علي هذا
الوليد البرئ, تأثراّ بظروفك الحالية وتخوفاّ من احتمالات تجدد زواج زوجك بأمه ,
ولا تزال ذكري الخيانة ماثلة في ذهنك , فلن تسمح لك مثالياتك وقيمك الدينية في
المستقبل القريب , بأن تتحملي هذا الوزر إلي مالا نهاية , وربما يكون زواج أم هذا
الطفل من رجل آخر, هو أنسب الظروف التي تشجعك علي إسقاط صك هذا الحرمان عنه , كما
قد يكون أيضاّ استيعاب زوجك لدرس تجربته التي تذكرني بمطلع قصيدة من الشعر
الأمريكي التي تقول: متعة "الحب" تدوم لحظة - شجن الحب يبقي إلي نهاية
العمر-
هذا الاستيعاب خير
معين له , علي أن يحفظ عهدك ويتخلص من أي ضعف بشري يهدد حياتكما بالاضطراب في
المستقبل, ويكفيه ما خلّفته هذه النزوة العابرة من " شجن " في حياته ,
سيبقي إلي نهاية العمر متمثلاّ في هذا الطفل البرئ , الذي ستحكم عليه الأقدار
غالباّ بأن ينشأ بين أبوين أحدهما ليس الأب الحقيقي له , فأي "شجن" جدير
بالأسي وبأن يتعلم الإنسان درس التجربة , ويتجنب الخطأ نفسه أشد من هذا الشجن؟
أما العلاقة التي
تجزمين بأنك لن تسمحي بها بين أبنائك وهذا الطفل , إلاّ " فوق جثتك ",
فدعي أمرها للمستقبل الذي لا يزال في علم الغيب , ولا تزيدي من أسباب معاناتك
الحالية بلا طائل, ففي المستقبل لن يكون القرار بشأن هذه العلاقة من شأنك وحدك ,
وإنما سيكون أيضاّ من شأن أبنائك حين يشبون عن الطوق, ولهذا الطفل نفسه أيضاّ حين
يعي حقوقه الإنسانية ويطالب بها, وسيكون كذلك لمن جاء به وبأطفالك إلي الحياة, فلا
تتعجلي المشكلات ودعيها للزمن يتكفل بها وبتخفيف آثارها.
ولن تكون نهاية
الدنيا - علي أية حال- أن يدرك أطفالك بعد سنوات أن لهم أخاّ من زواج سابق لأبيهم
, فإنكار الحقيقة لا يغير منها شيئاّ, والضعفاء وحدهم هم الذين لا يقوون علي
مواجهة الواقع بكل حقائقه سواء رضوا عنه أم لم يرضوا.
أما البدائل
الثلاثة المطروحة عليك الآن, فلن أناقشها طويلاّ معك , ولن أذكرك بأن زوجك برغم
أنه قد أخطأ في حقك , وفي حق الوفاء والحب , وكل الأشياء الجميلة التي ربطت
بينكما. فإنه في النهاية لم يرتكب إثماّ أو حراماّ سوي إثم الكذب والخداع , وما
كان أحراه بأن يعفي نفسه منهما ومن هذه التجربة العبثية كلها , كما لن أذكرك أيضاّ
بأنه حين خير بين الاستمرار في الخطأ والرجوع عنه , فإنه قد رجع عنه واختارك أنت
وأطفالك , مفضلا إيّاك علي الطرف الآخر.
ولم يدخر وسعاّ
لإرضائك والتكفير عن خطئه في حق الوفاء وحقك, كما لن أذكرك أيضاّ بالحكمة القديمة
التي تحكي عن رجل كان دائم السخط , لأنه لا يملك حذاء ولا يستطيع شراءه , حتي رأي
رجلاّ بلا قدمين أصلاّ فرضي عن حفائه لأول مرة في حياته, وسار بقدميه علي الأرض
سعيداّ.
وإنما سأقول لك
فقط ما نقله لنا الرواة من بعض أقوال بوذا: من " أن الحياة مليئة بالمعاناة,
لهذا فلابد أن يعيد الإنسان النظر في أفعاله ويحكم عليها بقدر ما يترتب عليها من
معاناة للآخرين ".
وليس هناك من هم
أحق من أن يتحمل الإنسان بعض مالا يرضيه في حياته, لكي يجنبهم العناء من أبنائه
الصغار.
فاختاري لنفسك ما
ترين من كل البدائل المطروحة عليك , علي ضوء هذا المعيار الإنساني النبيل, الكفيل
- إذا راعيناه في حياتنا- بأن يقلل كثيراّ من حجم شقاء الإنسان وآلامه , ولو طرحت
الأمر علي نفسك بهذا الشكل , لما اخترت إلا أقل الخيارات ضرراّ بأبنائك الأعزاء,
حتي ولو آلمك شخصياّ وعاطفياّ بعض الوقت, ولما هدتك طبيعتك المسالمة المتسامحة
إلاّ إلي أن تصفحي عن خطأ زوجك , وتروضيّ نفسك علي النسيان, وتنتصري في داخلك للحب
القديم علي العثرات والأخطاء , ولما هدتك هذه الطبيعة نفسها إلاّ إلي أن تقبلي
لهذا المولود المنتظر بما كنت ستطالبين به وبشدة لأبنائك , إذا وجدوا أنفسهم في
هذه الظروف المؤلمة نفسها.
فالعدل الذي يـأمرنا به الله مع أنفسنا ومع الآخرين, كفيل بحل كل المشكلات , وجدير بأن نقبل به لأعزائنا وللجميع علي السواء فلا نظلم أحداّ, ولا نرضي بأن يظلمنا الآخرون.. وشكراّ.
رابط رسالة صمت الجاني تعقيبا على هذه الرسالة
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر