الثمرة الناضجة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أريد أن أحكي لك قصتي من البداية .. في الثامنة عشرة من عمري كنت فتاة جميلة ومرحة ومقبلة على الحياة أعيش مع أبي وأمي وأخي الأصغر في إحدى مدن الأقاليم الصغيرة .. ثم ظهر في أفق حياتنا فجأة العريس الذي يعمل بالتجارة .. ولا يريد شيئا سوى هذه العروس الجميلة .. وكان شابا في الرابعة والثلاثين من عمره رأيته لاول مرة فكرهت ملامحه غير المتناسقة ومظهره غير المهندم ورفضته في أعماقي .. لكن أبي وأمي وشقيقي الأكبر المتزوج وشقيقي الأصغر ضغطوا علي بشدة لقبوله , بإغراء أحلام الحياة المريحة بلا مشاكل مادية وتزوجته فلم تمض أيام بعد الزواج حتى تبددت أحلام الهناء .. وتساءلت نادمة كيف يتحقق الهناء مع شخص لا احتمل مجرد النظر إليه إذا تحدث إلي وأكره سماع صوته وأغسل له ملابسه وأنا كارهة ساخطة وداعية في سري أن تكون هذه هي آخر مرة ألمس فيها ملابسه , وأنام إلى جواره في فراش الزوجية وكأني أتقلب على الجمر ؟
لقد أسفرت التجربة بعد شهور قليلة من الزواج عن حياة مملة كئيبة لا استمتع بشئ فيها وكلما سألتني أمي عن بشائر الحمل تمنيت في أعماقي ألا أحمل من زوجي حتى لا يربطني به طفل إلى نهاية العمر .
وحين علمت بعد بضعة شهور أنني حامل بكيت لا فرحا كما تفعل الزوجات السعيدات وإنما حزنا , وانسحبت كراهيتي لزوجي على جنيني منه .. فكرهته قبل أن أراه وضقت به , واكتأبت لكل مظاهر الحمل التي تفرح بها الزوجات ويشتكين منها وهن يغمرهن السعادة بها .. وفي غمار ضيقي بحملي وبكائي منه توفي زوجي الأول فجأة بعد مرض خاطف لم يستغرق أكثر من أسبوعين .. وزلزلتني المفاجأة القاسية رغم كراهيتي له .. وارتديت السواد وبكيت طويلا وأنا أعرف إنني إنما ابكي حظي ونفسي وليس زوجي .. وكان أكثر ما يثير أحزاني هو هذا الجنين الذي يتحرك في أحشائي .. وبعد أيام الحداد القصيرة اجتمعت أسرتي حولي واتفق رأيهم على أن أفضل ما أفعله هو أن أقوم باجهاض نفسي سرا والجنين في أسابيعه الأولى .. حتى لا أحرم نفسي من فرصة الزواج مرة أخرى .. فأنا صغيرة السن ولابد أنني اتزوج ذات يوم , وسيقلل وجود طفل لي من زواجي الأول من فرصي في السعادة والزواج واستمعت لنصيحة أهلي التي صادفت قبولا في صدري , واجهضت نفسي سرا , وعدت إلى بيت أهلي وتسلمت نصيبي من ميراث زوجي , وبعد عامين آخرين تقدم لخطبتي شاب أعزب لم يتزوج من قبل , فجذبني إليه من اللقاء الأول بوسامته ورجولته وحديثه العذب وأحببته وتم زواجي منه بعد فترة قصيرة .. ووجدته حنونا عطوفا فأفضت عليه كل عواطفي المحرومة واسلمت له قيادي , وأعطيته كل ما ورثته عن زوجي الأول من مال ليتاجر به إلى جانب عمله فأضاع أكثره في تجاره خاسرة مع أحد أصدقائه ولم أهتم كثيرا بذلك فقد كنت قد أحببته بما فيه من مزايا ومن عيوب وأخطاء يرتكبها أحيانا في حق نفسه وفي حقي .. وحملت منه فسعدت بحملي الجديد سعادة لا توصف .. وتذكرت اكتئابي بحملي الاول وتعجبت للفارق الكبير بين الحالتين ورحت أنظر إلى نفسي في المرآة ارقب باعجاب ما صنعه الحمل في جسمي من تغيرات واترقب وصول طفلي الأول الذي سيربط بيني وبين زوجي الحبيب للأبد .. ومضت ثمانية شهور من الحمل فإذا بالجنين ينزل إلى عالم الوجود قبل أن يدعوه أحد ويموت حلم السعادة الذي انتظرته بلهفة .. وحزنت على جنيني المؤود حزنا شديدا ووقف زوجي إلى جواري حتى أعانني بحنانه على اجتياز الأزمة حتى استرددت صحتي ونفسي، وبعد شهور أخرى حملت من جديد وفرحت بالحمل مرة أخرى وبلغ الجنين شهره السابع فإذا بي أشعر بآلام شديدة طارئة وتم نقلي على عجل إلى المستشفى وأجريت لي ولادة قيصرية وجاء المولود ولدا نقلوه إلى الحضانة ليكتمل نموه فيها وأنا تحت تأثير المخدر وأفقت فوجدت زوجي يقبلني في جبيبني وهو يشكرني بامتنان لأني منحته ولدا كان يتمناه وأغمضت عيني راضية وشاكرة .. ونعمت بالحنان الذي أحاطني به زوجي .. وبعد ثلاثة أيام فقط جاءتني الممرضة متجهمة ونعت لي وليدي الذي توقف قلبه الصغير في الحضانة بغير أن أراه !
وخرجت من المستشفى حزينة متداعية .. وساعدني زوجي مرة أخرى على احتمال الأزمة .. وتجدد حديثة لي عن أن الفرصة مازالت أمامنا لتحقيق أحلامنا في الإنجاب.
وبعد عامين تكررت نفس القصة بنفس تفاصيلها المؤلمة .. وصرخت وأنا في المستشفى وبكيت ورفضت أن أغادره .. وتذكرت في هياجي فجأة الحلم الغريب الذي رأيته في نومي عقب إجهاضي لجنيني من زوجي الأول بأيام فلقد رأيت نفسي في حديقة بها شجرة مانجو قطفت منها ثمرة كبيرة ناضجة وتذوقتها فوجدتها شهية الطعم .. لكني رغم ذلك لم آكلها وإنما أعطيتها لشخص لا أعرفه فألقى بها في الأرض وداسها بقدمه في قسوة . فقطفت ثمرة أخرى فوجدتها غير ناضجة ولا تؤكل وقطفت ثانية وثالثة ورابعة فوجدتها كلها غير ناضجة وألقيت بها , وبكيت بشدة حين تذكرت هذا الحلم الغريب وأحسست بأن الله سبحانه وتعالى يعاقبني على أني أجهضت الثمرة الأولى الناضجة بإرادتي فحكم علي بألا تنضج ثمرة أخرى ويكتمل نموها في أحشائي .. وعدت إلى بيتي وأنا مهمومة بهذا الاحساس وخائفة منه .. وزاد من همي وتعاستي ما لاحظته من تغير كبير من معاملة زوجي لي .. فقد بدأ يتهمني بأنني عاقر ولا أصلح للانجاب .. وبدأ يسئ معاملتي ويضربني عند الخلاف ويطردني من بيته وانتابته حالة جنونية فتخبط في عمله وبدد ما بقي من مالي في خطوات خائبة وركبته الديون وكتب على نفسه شيكات دون رصيد كأنه يريد بغير وعي أن يدمر نفسه ويدمرني معه .. وقد وقع مؤخرا خلاف بيننا فهجرته لفترة وأقمت لدى أحد أقاربي في القاهرة حتى يفيق لنفسه ويستعيد سيطرته عليها .. وأنا أعرف يا سيدي أنني قد ارتكبت جريمة بشعة باجهاضي لنفسي بعد وفاة زوجي الأول .. وأن الله يلقنني درسا بما تعرضت له بعد ذلك من أحداث مؤلمة بعده، لكني أتساءل في إشفاق هل يطول الدرس إلى نهاية العمر فيهدم سعادتي وأحلامي ؟ إنني أحب زوجي وأريد أن أستعيد سعادتي معه وهو الرجل الوحيد الذي أحببته .. والأطباء يقولون لي أن أمامي فرصة واحدة وأخيرة للانجاب وبعدها يضعف جسمي ولا أستطيع الحمل , إذ أنني الآن في الثلاثين من عمري وأريدك أن تساعدني في عرضي على طبيب كبير في أمراض النساء والعقم يتولى علاجي ويتعهدني برعايته حتى يحقق لي هذا الأمل الأخير , فهل تفعل ذلك انقاذا لسعادتي وأحلامي المؤودة ؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـــكـــاتـــبة هـــذه الـــرســالــة أقـــول :
حلمك الغريب عقب إجهاضك لنفسك لم يكن استقراء للمستقبل ولا إشارة للغيب كما تتصورين لأن رؤى الأنبياء وحدهم هي التي تنبئ بالمستقبل وتشير إليه .. وإنما كان تعبيرا عن إحساسك بالذنب تجاه ما فعلت وتخوفك الكامن في عقلك الباطن من أن يكون عقابك عليه هو حرمانك في المستقبل من ثمرة أخرى ناضجة كالثمرة التي أهدرتها بيديك , وأحلام البشر من أمثالنا ليست ارهاصا بالمستقبل ولا إشارة إليه وكل ما قد يتشابه معها من أحداث تالية ليست إلا من قبيل المصادفة والميل لتفسيرها اعتسافا وفقا لرموز هذه الأحلام التي رأيناها من قبل .. أما وظيفة الحلم الحقيقية فهي ترجمة مشاعرنا ورغباتنا اللاواعية ومخاوفنا وهواجسنا وشواغلنا الملحة إلى صور مرئية ترتبط غالبا بما نهتم به ونأمل فيه أو نخاف منه.
فلا تنزعجي في البداية لحلمك الغريب هذا ولا تبحثي فيه عن تفسير لما تعرضت له فيما بعد من أحداث مؤلمة فلهذه الأحداث أسباب صحية وعلمية أخرى , وأغلب الظن أن ثمرتك الأولى الناضجة لم تكن لتنجو من نفس المصير المؤلم الذي لقيته ثمارك التالية لو لم تتعجلي وءدها وترتكبي هذه الجريمة البشعة في حق نفسك التي تعديت بها حدود ربك .. وأورثت نفسك الاحساس المرير بالذنب الذي يتنبه عندك ويخرج من مكمنه كلما صادف حمل جديد لك سوء المصير , فإن كنت التمس لك بعض العذر فيما فعلت فإني التمسه لك في صغر سنك وقتها وفي تأثير أسرتك عليك وفيها الراشدون الذين اجتمعت كلمتهم على أن الحل الموفق السعيد لك هو اجهاضك حتى لا يقف الوليد المأمول في طريق زواجك مرة أخرى , ولو التزموا حدود ربهم لما أشاروا عليك بهذه المشورة الظالمة ولما نقصت فرص زواجك شيئا لأن حملك لم يكن ليكتمل ولما يتم علاجك من الأسباب الصحية التي أعاقت اكتماله أكثر من مره بعد ذلك وموقف ديننا واضح من الاجهاض ولا يحتاج إلى بيان فهو يفرق فيه بين اجهاض الجنين قبل نفخ الروح فيه وقبل استقراره في الرحم ومضي 120 يوما عليه , وبين اجهاضه بعد هذه المدة , ففي هذه الحالة اختلفت آراء الفقهاء حوله بين الإباحة بعذر وبدون عذر , وبين الإباحة بعذر والكراهية بغير عذر , وبين الكراهية في كل الأحوال , ثم بين الحرمة عند فريق رابع هم المالكية .. أما بعد نفخ الروح فيه واستقرار الجنين في رحم أمه , فلقد انعقد الاجماع على حرمة الاجهاض إلا لعذر قاهر كأن يجمع الأطباء على أن بقاء الحمل يهدد حياة الأم بالموت .
ولست أريد أن أغوص في بحث فقهي يطول الحديث فيه .. لكني أقول لك فقط أنك إن كنت قد أجهضت نفسك بعد أربعة أشهر من الحمل فقد قتلت نفسا حرم الله قتلها إلا بالحق وبغير عذر قاهر يرفع عنك إثمه الثقيل .. فتوجهي إلى ربك بصدق الندم والاستغفار ولا تفقدي الأمل في عفوه ومغفرته وهو قابل التوب غافر الذنب .
والعبرة الحقيقية في قصتك ليست فيما صادفت من تكرار الاجهاض أو وفاة الوليد , وإنما في أنك لو علمت الغيب ما اخترت إلا الواقع وما تعجلت اجهاض نفسك ولربما تنبهت إلى حاجتك للعلاج ورعاية الحمل رعاية خاصة إلى أن تنضج الثمرة وتسعى إلى الأرض بإذن ربها كما أنها أيضا في أننا لا نستطيع أن نسعد في حياتنا وقد ظلمنا غيرنا وتجنينا عليهم دون ذنب جنوه علينا , فلا شك أنك قد ظلمت زوجك الأول بزواجك منه وقد كرهتيه من اللحظة الاولى وكرهت النظر إليه وكرهت صوته وتمنيت موته , فإذا كنت لا أعفي أيضا أسرتك من مسئوليتها عن ذلك , فإن ذلك لا يغير أيضا من حقيقة أن الحياة ديون واجبة السداد وعلينا أن نرضى بأداء ضرائبنا فيها ونأمل عفوه ورحمته عما سلف من أمرنا فخففي عن نفسك يا سيدتي ما تعانين وتعلقي بالأمل في أن يستجيب الله لرجائك ويتم عليك نعمته بالانجاب وعودة الوفاق والسعادة مع زوجك.
فقد تتجهم السماء .. وتتكاثر الغيوم ونعجز أحيانا عن فهم ما يجري حولنا مما نضيق به .. ثم بإذن الله تكشف الغيوم ويعود الصفاء .. وللشاعر الانجليزي الفريد تنيسون أبيات جميلة كثيرا ما استعيدها حين تتكثف الهموم حولنا تقول :
انظر أننا لا نفهم شيئا
مما يدور حولنا
ومع ذلك فبوسعي أن أؤمن بأن الخيرات للجميع آخر الأمر وكل شتاء لابد صائر إلى ربيع عسى أن يأتي إليك الخير آخر الأمر ويتحول شتاؤك إلى ربيع قريب وتفضلي بالاتصال بي .. وشكرا .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر