نظرة إشفاق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

 نظرة إشفاق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

نظرة إشفاق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

   الجمال مسألة نسبية، ولا تخلو امرأة من لمسة جمال مهما كانت دمامتها والجمال الباهر أو الشهادة الجامعية لم يكونا وحدهما أبدا طريقا للسعادة بل لعل من شقوا بجمال زوجاتهم أضعاف أضعاف من شقوا بدمامة زوجاتهم فالمهم حسن المعاشرة والوفاء.

عبد الوهاب مطاوع

أنا يا سيدي شاب فى الثلاثينات من عمري عشت حياة كريمة فى ظل والدىّ حتى رحلا عن دنيانا ثم تغيرت حياتي بعد رحيلهما فقد وجدت نفسي بلا رقيب ولدى ما يكفيني من معاش والدي ومن نصيبي فى ميراثه وهو قطعة ارض زراعية صغيرة فاندفعت في طريق الأهواء وطالت مرحلة دراستي الجامعية ورسبت أكثر من مرة وحين نجحت بجهد في اجتيازها كنت قد أتيت على كل ما تركه لي والدي .

 

وفي هذه المرحلة الحرجة من حياتي تعرفت على فتاة من أسرة متوسطة مثل أسرتي ، عطفت عليّ وتقربت مني بكل الوسائل وساندتني فانجذبت إليها وقررت الزواج منها ، وعندما علم بذلك إخوتي عارضوا ذلك بشدة لسببين : أنها غير جميلة أو بمعنى أصح دميمة والثاني أنها غير متعلمة إذ لم تنجح في الحصول على الشهادة المتوسطة التي كانت تدرس للحصول عليها ، ولم أعرف هذه الحقيقة إلا قبل الزواج بأيام ، وبالرغم من ذلك فلقد صممت على الزواج منها رغم معارضة إخوتي وعشت معها في شقتها خاصة وأن أمها كانت قد توفيت قبل زواجنا بأسابيع وأمضيت فترة التجنيد وأنا عريس .. وكنت أخرج في أجازاتي لأقيم معها ولم أتقدم للقوى العاملة طالبًا عملاً لأني كنت قد قررت أن أسافر للخارج للعمل هناك ، وبالفعل سافرت إلى إحدى الدول العربية من 9 سنوات ومازلت هناك إلى الآن ، وقد أنجبنا ولدين نشأتهما منذ الصغر على التدين والتقوى وزرعت الفضيلة في نفسيهما ، وتحسنت علاقة إخوتي بزوجتي عقب الزواج بقليل بفضل إتزانها وشهامتها وحسن معاملتها للناس .

 



أو أتمنى لو كانت زوجتي جميلة مثلها، وقد أصبحت أفكر فى الزواج مرة أخرى لكن ما يخيفني هو الأولاد لأني أرى فى الحياة معاناة الأولاد عند زواج الأب بأخرى غير أمهم وما يخيفني أيضا هو رفض المجتمع لصورة زوج الاثنتين علما بأني لا أريد التضحية بأولادي وفى نفس الوقت لا أطيق الحياة بغير زواج .

 

وهناك سبب ثالث لمخاوفي هو أنني أريد أن أتزوج زوجة بها كل المواصفات التي تفتقدها زوجتي .. كالجمال الباهر والتعليم الجامعي .. إنني مازلت اخشي أن استشير إخوتي فى ذلك لأني اعرف الرد مقدما وهو أن هذا الزواج اختياري وعلى أن أتحمل نتائجه .. لهذا الجأ إليك على غير معرفة فهل تستطيع أن تساعدني فى تحقيق هذه الرغبة التى تلح على وان تعتبرها مشكلة من مشاكل القراء؟ 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

 سأروى لك يا صديقي قصة قد تبدو بعيدة عن الموضوع لكن رسالتك هذه قد ذكرتني بها ، فذات يوم اتصلت بى أستاذة جامعية وروت لى قصة مغلفة بالمشاعر الإنسانية عن فقدها لكلبها الصغير الذى غادر الشقة بلا عودة خلال غيابها فى العمل ، وكيف أنها تفتقد هذا الكلب وقد نشرت إعلانا بالصحف تعد فيه من يعيده إليها بمكافأة مالية فلم يستجيب للإعلان أحد ثم اختتمت حديثها الطويل بأن طلبت منى أن اكتب هذه القصة فى بريد الجمعة مضيفا إليها من اللمسات الدرامية ما يثير مشاعر القراء فينطلقون فى الشوارع بحثا عن الكلب الضائع ثم اجلس فى مكتبي لاستقبال كل من عثر على كلب ضال وظنه الكلب المفقود مسلحًا بمواصفات الكلب الضائع أتفحص الكلاب المضبوطة بعناية قائلا : شكرا ليس هذا.. شكرا ليس هذا ، إلى أن أجد الكلب المطلوب فأشكر حامله وأصرفه .. بغير أن أفصح عن شخصية صاحبته حرصا على "مكانتها الجامعية" ثم اتصل بها واستدعيها فتحضر لتسلمه والحمد لله أنها لم تكلفني بتوصيله إليها أيضا ، فاستمعت إلى لهجتها المتعجرفة صامتا ثم انفجرت فيها قائلا لها إن لدى من مشاكل القراء الجادة ما تضيق به ساعات يومي وأنى أفضل أن أعطى هذا الوقت وهذا الجهد لمريض يبحث عن العلاج والدواء أو لعاطل محتاج يبحث عن عمل أو لطالب يحتاج إلى ثمن كتبه الجامعية، وأنهيت المكالمة حانقا فما كان من الأستاذة الجامعية إلا أن كتبت للأهرام رسالة تقول فيها إن بريد الأهرام لا يهتم بمشاكل المواطنين وتطالب بعزل المشرف عليه!

هل فهمت يا صديقى ما أريد أن أقوله لك من هذه القصة؟ إنني أريد أن أقول لك شيئين .. الأول : انه لا وقت لدى للبحث عن " الكلاب المفقودة " لذلك فأنى لست على استعداد لأن أضيع جهدي ووقتي فى المساهمة فى حل مشكلة هامشية صنعها البطر "وتيسر الأحوال المادية بعد الجفاف" وقلة الوفاء كمشكلتك هذه!

والثاني : إن من يعاشر حيوانا أليفا قد يعز عليه فقده ، فلماذا لا يعز على الإنسان فقد عشيرة من بني الإنسان ، لأن ظروفه المالية قد تغيرت إلى الأحسن .. وتلفت حوله يبحث عما يرضى أهواءه العابرة؟ انك تقول لى انك ترى نظرات الإشفاق فى عيون أصدقائك من دمامة زوجتك ووسامة "سيادتك" وأنا أسألك لماذا لم تكتشف هذه النظرات إلا الآن فقط بعد أن استقرت أحوالك المادية ، ولماذا لم ترها فى عيون الآخرين وأنت ضائع بلا عمل وبلا مال ، أو حين تزوجتك وآوتك وكفلتك فى بيتها وحين "ساندتك" فى بداية حياتك.

لقد كنت على استعداد لأن اقدر آلامك لو كانت زوجتك متعبة وحولت حياتك إلى جحيم بسوء عشرتها.. لكنك تعترف لها بالشهامة والاتزان وحسن معاملة الآخرين وأنت أولهم بالطبع ومثل هذه الزوجة الوفية المعطاءة لا يفرط الإنسان فيها يا صديقي ولو كانت دميمة ، وما أظنها كذلك لكنك غالبا تبالغ فى الأمر لتبرر لنفسك حنينها القديم إلى "الأهواء" فالجمال يا صديقي مسألة نسبية، ولا تخلو امرأة من لمسة جمال مهما كانت دمامتها والجمال الباهر الذى تبحث عنه أو الشهادة الجامعية لم يكونا وحدهما أبدا طريقا للسعادة بل لعل من شقوا بجمال زوجاتهم أضعاف أضعاف من شقوا بدمامة زوجاتهم فالمهم حسن المعاشرة والوفاء فراجع نفسك يا صديقي واقنع بما أعطتك الدنيا فلقد أعطتك الكثير وأخشى أن تطالبها بالمزيد فتعطيك أيضا .. ثم تخسر أضعاف ما أخذت فتخسر استقرار حياتك ..

وتعرض أبناءك لمحنة لا مبرر لها .. وتخسر راحة البال وتتمزق بين أسرتين وحياتين وتغلق أسر عديدة أبوابها فى وجهك .. لأنها لا ترحب بزوج الاثنتين خشية أن تنتقل العدوى إلى الأزواج .. وساعتها لن ترى فى عيون الآخرين نظرة الإشفاق التي تشكو منها .. وإنما سترى نظرات الانتقاد والضيق وعدم الترحيب .. فاختر لنفسك ما تريد فأنت الغارم وحدك فى كل الأحوال لكنى لا استطيع أن أشاركك هذه الجريمة بأن أقدم لك العون فيها لأني غير مقتنع بجدية الأسباب .. والسلام.

 *نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات