ضرب السياط .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

ضرب السياط .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

ضرب السياط .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995


رأى أحد الصالحين رجل كان يضرب آخر بالسوط عقاباً له علي شئ ارتكبه، فلم يستعطفه ولم يناشده الرحمة بمن يؤذيه، وإنما قال له في ثبات: إن شئت فأكثر.. وإن شئت فقلَّل .. فما تضرب في النهاية إلا نفسك!

 فإن شئتَ فاظلم، وإن شئتَ فاعدل. . فما تَظلم في النهاية سوي نفسك, وما تستعدي ربَّك في الحقيقة سوى على نفسك.

عبد الوهاب مطاوع


 أكتب إليك للمرة الثانية بعد أن كتبت إليك منذ شهرين بقصتي ولم أجد ردا عليها .. فأنا سيدة في اﻷربعين من عمري، أعمل موظفة بهيئة حكومية منذ 17 عاما، وأحب عملي كثيرا، وقد تزوجت منذ أحد عشر عاما من رجل متوسط العمر يملك محلا تجاريا بجوار مكتب الهيئة التي أعمل بها، وكان حين تزوجته أبا لثلاثة أولاد، ودائم الشكوى من زوجته التي طلقها ثلاث مرات، فارتبط بي وجمعني بيت واحد معه ومع أبنائه، وكنت قد أحببت هذا الرجل حبا ملك علي نفسي ، فأديت واجبي كزوجة وأم تجاهه وتجاه أبنائه الذين أحببتهم ورعيتهم بإخلاص . وقد شاءت إرادة الله ألا أزرق بأطفال، وفشلت كل محاولاتي لﻹنجاب، فاتخذت من أولاد زوجي أولادا لي، وكانت أسعد أوقاتي دائما هي تلك التي أخرج فيها ﻷشتري لهم ملابسهم وألبي مطالبهم، وقد توليتهم صغارا حتى كبروا ووصلوا إلى المرحلة اﻹعدادية، وطول هذه السنوات كنت أحل أية مشكلة تحدث معهم بعيدا عن زوجي حتى لا أفسد عليه سعادته، وكان هو يردد دائما أن الله سبحانه وتعالى قد عوضه خيرا عن زيجته اﻷولى الفاشلة بزواجه مني، وأنه يحبني ولا يستطيع أن يتحمل فراقي . وكنت أسعد كثيرا بهذه الكلمات الطيبة وأستمد منها قوة جديدة للاستمرار في العطاء، خاصة وأني - والحمدلله - سيدة متدينة ومحجبة، ثم حدث أن توفيت والدتي رحمها الله ، وكنت أعتبرها كل شيء لي في الحياة ﻷني وحيدة بلا إخوة ولا أخوات .. فحزنت لوفاتها حزنا شديدا، وشعرت أن الدنيا قد خلت من حولي بعد رحيلها .. وفعلا يا سيدي، فقد كان رحيلها عن الحياة نذيرا بانتهاء أيام السعادة واﻷمان في حياتي .. فعقب وفاتها بأيام أصيب ابن زوجي في حادث سيارة ونقل إلى المستشفى في حالة سيئة، فلازمته عشرة أيام وجاءت والدته من البلدة التي تعيش فيها لتطمئن عليه فكانت تذهب وتجئ وكأنها إنسانة غريبة عنه، ولا تطيل وجودها إلى جوار ابنها، في حين أقوم أنا بكل ما يحتاج إليه من خدمة ورعاية في المستشفى ﻷني أحب هذا الولد حبا كبيرا كما أحب إخوته، إلى أن جاءت ذكرى اﻷربعين لوفاة أمي ، فاستأذنت زوجي في الذهاب إلى شقتها لاستقبال أقاربي، فأذن لي بذلك، وذهب هو بدلا مني إلى المستشفى وأمضى النهار كله إلى جوار ابنه . وفي نهاية اليوم رجعت إلى بيتي ، فإذا بزوجي يرفض السماح لي بالرجوع إليه ويطالبني بالعودة إلى حيث أتيت . ومنذ ذلك الحين وأنا أقيم في شقة والدتي التي ينازعني عليها مالك البيت ويريد طردي منها بحجة أنني متزوجة، وزوجي يرفض عودتي إلى بيته إلا إذا قدمت استقالتي من عملي وتفرغت له نهائيا . ولقد توسلت إليه واستحلفته بربه أن يتركني أواصل العمل لمدة ثلاث سنوات فقط لكي أتم 20 عاما في الخدمة وأستحق نصيبي في المعاش ﻷني أخاف من تقلبات اﻷيام وليس لي مورد سوى عملي، فرفض ذلك بإصرار، ووسطت لديه اﻷهل واﻷصدقاء بلا فائدة، وأخيرا سلمت مضطرة برغبته ، وذهبت إليه وأبلغته بقبولي الاستقالة والتضحية بعملي من أجله ، مع أن عملي لم يكن يؤثر على حياتي أو واجباتي تجاهه ، فإذا بزوجي يفاجئني مفاجأة أشد وأقسى ، وهي أنني إذا رجعت للحياة معه فلن أعود الشقة التي عشت فيها 11 عاما وارتبطت بها ! .. ودهشت دهشة شديدة لذلك ، وحاولت أن أفهم منه تفسيرا مقبولا له فلم أستطع .. وأخيرا - وبعد عناء شديد - صارحني بأنه يريد أن يتزوج من أخرى ويجعل من هذه الشقة التي وضعت على كل ركن فيها بصماتي عشا للزوجية الجديدة !

 

ولا تستطيع أن تتخيل يا سيدي مدى شقائي حين علمت منه ذلك ولا ما شعرت به من غيظ وكمد وحقد على كل شيء .. لقد اسودت الحياة أمام عيني وفقدت اﻷمل في كل شيء ولازمني الاكتئاب بعدها واليأس حتى كرهت عملي الذي كنت أحبه كثيرا، وأهملت أداء واجباتي فيه ﻷني شعرت بأنه كان السبب فيما أعاني منه ذلك! ولقد رفضت أن تشاركني في زوجي الذي أحببته كل هذا الحب امرأة أخرى أيا كان وضعها ، وطلبت من زوجي الطلاق ، فطالبني بالتنازل عن حقوقي المادية ، ومازال سادرا في غيه ويرفض النصيحة ، ويرد على من يقولون له أن زوجتك طيبة ومتدينة وترعى أبناءك، ولديك من أبناءك الذكر واﻷنثى ، فما حاجتك إلى زواج جديد .. فيؤكد أنه معترف بذلك بل مازال يحبني .. لكنه يريد أن يتزوج وخلاص !

 


 

لقد أصبحت أشك في جميع الناس ، وفقدت الثقة في كل من حولي ، ولا أريد أن أقابل أحدا أو أتحدث مع أحد ، بعد ما فعله بي هذا الزوج الغادر الذي كنت أعتبره كل دنياي ، وأعتبره اﻷب واﻷخ والزوج والحبيب وكل أهلي وأقاربي .، وإنني أناشدك أن تكتب له كلمة بألا يفعل معي سوى ما يرضى عنه ربه ، وألا يظلمني فيه .. ولك مني كل شكر وتقدير .. والسلام .

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

تقلب المشاعر والقلوب أمر وارد ومن طبيعة البشر، لكن التجمل والتعفف عن خذلان من أخلصوا الود للإنسان، واسترجاع مواقفهم معه وعطاءهم المخلص له واﻹشفاق عليهم مما قد يصيبهم من أذى وإيلام إذا انساق لرغباته وحدها ، يرجع باﻷصلاء من بني البشر عن الاستسلام لخطرات النفس .اﻷمارة بالسوء، ويردهم عن غيهم .. وقد يحيي في قلوبهم بعد حين المشاعر القديمة تجاه شركائهم، فترجع صادقة إذا حثها على التنبه من مرقدها ورعاها.وأذكى نارها الفاترة إلى أن تسترد قوتها وعافيتها من جديد، وهذا هو ما ينبغي أن يفعله اﻹنسان في مثل هذا الموقف ، إذ لو استسلم كل إنسان لخطرات النفس وتقلبات المشاعر الطارئة لما دامت حياة ، ولما تشارك اثنان في رحلة العمر حتى نهايتها . والواضح يا سيدتي أن زوجك كانت له من قبل تحفظات قديمة على عملك وعلى تأثيره على حياتك معه ومع أبنائه ، وأن مطالبته لك بالاستقالة منه لم تكن مفاجأة كاملة لك بالاستقالة، وإنما كانت استطرادا لموقف سابق تمت مناقشته مرارا من قبل تحفظات.

 

ورغم أنه كان يستطيع أن يتجمل بالصبر ثلاث سنوات أخرى حتى لا يحرمك من حقك المشروع في المعاش وفي تأمين مستقبلك ، إلا أنه أراد عامدا هذه المرة أن يضعك أمام الخيار الصعب بين تطلعك للامان المادي وبين رغبتك في الاستقرار والسعادة معه . وظني أنه لم يكن جادا في هذا الاختيار، ﻷن من قبل بعملك أحد عشر عاما كان يستطيع أن يصبر عليه بغير عناء ثلاث سنوات أخرى ، وإنما هو في تصوري قد أراد أن يدفعك إلى التمسك بعملك وطلب الطلاق مقابل التنازل عن حقوقك المادية لديه، وأن يصور الخلاف بينكما وكأنه خلاف حول استمرارك في عملك والتضحية بزوجك ، أو التضحية بعملك وتفضيل حياتك الزوجية ، وحين فاجأته بالاستسلام لإرادته والتضحية بعملك قبل ثلاث سنوات فقط من أحقيتك في المعاش الكريم ، اضطربت برامجه .. فاضطر لمصارحتك بنيته المبيتة للزواج مرة أخرى ، وأراد إرغامك على القبول به كأمر واقع لا بديل عنه ، ورفض الاستماع لنصح الناصحين بأنه لا يحتاج إلى زواج جديد، وقد من الله عليه بالبنين وبالزوجة المحبة المخلصة الراعية ﻷبنائه ، وهو بالفعل زواج لا ضرورة له ولا مبرر سوى هوى النفس والاستسلام لرغائبها بغير توقف أمام ما يترتب على ذلك من إيلام للآخرين .

 

وحتى لو سلمنا له بحقه أن يفعل بحياته ما يشاء وألا يتوقف أمام شقاء اﻵخرين برغباته ، فلقد أعفانا الله سبحانه وتعالى من الحيرة ، وأوضح لنا الطريق لكي نخفف من وقع إيذائنا للآخرين بتحول مشاعرنا عنهم ، فخيرنا بين إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .. واﻹحسان في اللغة أشمل وأعم وأكبر من (المعروف) .. ومعناه أن نؤدي إلى من آذيناهم - إن عجزنا عن الترفع عن الاستسلام ﻷهوائنا وحدها - كل حقوقهم بلا مماطلة ولا تسويف ، وبلا منازعة لهم في شيء منها ، بل ورأى لنا بحكمته أن نكون أكثر من كرماء معهم ، عسى أن يخفف ذلك عنهم بعض ما يشعرون به من غصة وخذلان . وهذا هو نموذج الخلاف النبيل الذي ينبغي أن يخفف يلتزم به المرء مع من شاركهم حياتهم وتمازج عرقه بعرقهم .. أما أن نبخسهم حقهم وننازعهم فيه ، ونطالبهم فوق كل ما أصابهم من إيلام الجحود والنكران بالتنازل عنه ، فهو ما لا يليق بالشرفاء من البشر ، ولا يرضى عنه من حرم الظلم على نفسه -سبحانه- وجعله بين عباده محرما .. فقولي لزوجك كل ذلك يا سيدتي وذكريه بأننا لا نفلت أبدا بظلم نرتكبه ضد أحد من عقاب الدنيا قبل عقاب السماء ، وبأن اﻹنسان إنما يتوسل إلى ربه أن يجنبه ظلم الحياة واﻵخرين له بالعدل مع الجميع ، وباﻷمانة مع الحياة .. فإذا كان راغبا في غير ذلك فهو وشأنه ، فما يختلف حاله في ذلك في كثير أو قليل عن حال ذلك الرجل الذي كان يضرب آخر بالسوط عقابا له على شيء ارتكبه ، فرآه أحد الصالحين ، فلم يستعطفه ولم يناشده الرحمة بمن يؤذيه ، وإنما قال له في ثبات : إن شئت فأكثر .. وإن شئت فقلل .. فما تضرب في النهاية إلا نفسك !

 

وكذلك أقول لزوجك : إن شئت فاظلم ، وإن شئت فاعدل .. فما تظلم في النهاية سوى نفسك ، وما تستعدي ربك في الحقيقة سوى عليك .. فضع نفسك حيث  تراها جديرة بأن تناله من عدل الحياة معها .. أو ظلمها لها  والسلام.. 


  *نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1995

                     كتبها من مصدرها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات