الرجـل القـوي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990
إن أبواب
الحياة متسعة للجميع .. ويستطيع كل إنسان لو أراد أن يحقق سعادته بغير إشقاء
الآخرين .. ويستطيع أن يرضى بما حقق ولا يتعجل قطف الثمار إلى أن تأتيه راغبة وحين
يأذن الله تعالى له بها . وما أحقر ما نتصوره أهدافًا جليلة في الحياة إذا قارناها بما
يستحق أن نشقى للوصول إليه كالسعادة .. وراحة القلب .. ودفء المشاعر .. والسلامة
من غوائل الدهر .. والإحساس بالأمان . وبأننا في أمن من عقاب الله وعقاب الحياة.
عبد الوهاب
مطاوع
لم أكن حتى سنوات أتابع بريدك
الأسبوعي .. ثم بدأت أقرؤه متندرًا على ضعف هؤلاء الأشخاص الذين يشكون من هموم
عابرة لا يليق بالأقوياء أن يشكوا منها .. أو أن يعرضوها تحت أنظار آلاف القراء
لأني أؤمن أن الرجل القوي لا يصح له أن يشكو .. أو أن يطلب عفو الآخرين .. وإنما
عليه أن يصارع الناس والحياة ويظهر دائمًا بمظهر القوي الذي لا يضعف .
وكانت نشأتي تؤهلني للإيمان بهذه النظرية تجاه الحياة فقد كان أبي
موظفًا صغيرًا بمجلس مدينة صغيرة بالأقاليم ونعيش في بيت كبير مع شقيقين لأبي
متزوجين ولكل منهما زوجة وأولاد ، وكنا نحن خمسة أخوة ولكل عم 4 أولاد فكنا 13
ولدًا وبنتًا في أعمار متقاربة نعيش في بيت واحد من دورين ونتناول طعامنا من
مطبخ واحد تتناوب الخدمة فيه أمي وزوجتا عميَّ فتعد إحداهن بالتناوب الطعام للأسرة
كلها وتقدمه للأبناء بغير تفرقة .. فإذا تأخر أحدنا عن موعد الغداء لم يجد ما
يأكله وكنت إذا لم أذهب إلى المطبخ قبل الآخرين فقد لا أجد ما آكله .. وإن لم أسبق
البعض فقد يظفرون قبلي بما لذّ وطاب . وانتقلت معي هذه الطبيعة إلى المدرسة ..
فتعلمت أن آخذ ما أريد بالحيلة أو بالقوة .. أو بالتفوق .. وقد حدث أن شكوت لأبي
من أن ابن عمي الأكبر مني قد ضربني فلم يزد على أن قال أننا أخوة ولا فرق بيننا ثم
لم يفعل شيئَا فتعلمت ألا أشكو لأحد وأن أنتقم ممن يؤذيني بنفسي ، وبكل الطرق
الممكنة .. وساعدني بنياني المتين على فرض سطوتي على إخوتي وأبناء عمي وأصدقاء
الشارع ، لكني لم أنجح أبدًا في أن يكون لي أصدقاء دائمون في مراحل عمري كإخوتي
وأبناء عمي . فقد كانت لي دائمًا صداقات مؤقتة ترتبط بفترة معينة أو رياضة أمارسها
ثم تنتهي سريعًا من جانب الآخرين وبلا أي محاولة من جانبي لاستعادتها أو المحافظة
عليها ، وكان أبي يرقبني بقلق ، وقال لي ذات مرة أنه ليس قلقًا على أحد من إخوتي
سواي لأني كما قال في عراك دائم مع الدنيا والناس ولن تكون رحلتي في الحياة آمنة ،
ونصحني كثيرًا بأن أحب الناس وأتعاون معهم .
ورغم أني اعتبرت الحب أيضًا من أنواع الضعف التي لا تليق بي فإنني
وقعت في غرام زميلة لي بالكلية وبذلت المستحيل لكي أستميلها إليَّ بلا فائدة
وغاظني أن هناك زميلاً لنا ترتاح إليه ويجلسان معًا كثيرًا .. فانتظرته خارج
الكلية وتحرشت به ثم ضربته علقة موجعة .. وأمضيت ليلة في قسم الشرطة حتى جاء أبي
من البلدة .. واستعطف ضابط الشرطة ألا يضيع مستقبلي بعمل محضر رسمي ، وبكى أمام والد
الشاب حتى تنازل عن المحضر ، وأخرجني وسار أمامي صامتًا مهمومًا .. ثم توقف فجأة
في الطريق واستدار نحوي وهوى بكفه على وجهي فتطاير الشرر من عيني لكني سكت
احترامًا له ورغم ذلك فقد أثمرت هذه العلقة تحولاً غريبًا في مشاعر زميلتي فقد
بدأت تستجيب لمحاولاتي للتقرب منها .. وانتهى الأمر بأن تقدمت لخطبتها بعد تخرجنا
وفرضت هذه الخطبة على أبي رغم أني كنت قد وعدت ابنة عمي بخطبتها وكانت الأسرة كلها
تعلم ذلك لكن إصراري على تفضيل زميلتي أدى إلى نشوء خلافات عائلية انتهت إلى
استقلال عمي بمسكن خاص له بعيدًا عن بيت الأسرة .. وإلى اتهامي من الجميع بأني
أفسدت ما بين الشقيقين بما أسموه نذالتي لكني لم أهتم كثيرًا بذلك بل واعتبرت ما
حدث انتصارًا لي .
وعينت مع خطيبتي في هيئة مرموقة يحلم الشباب بالعمل فيها بفضل والد
خطيبتي الذي كان من كبار مديريها واضطر أبي لبيع قطعة الأرض التي يملكها ليقدم لي
المهر والشبكة اللذين طلبتهما وحرصت على أن يليقا بمستوى الأسرة التي صاهرتها
وطيبت خاطر أبي عندما قال لي أنني ظلمت إخوتي بإصراري على هذا الزواج الباهظ
بالنسبة لنا فوعدته بأن أساعده في زواج إخوتي بعد أن أحقق نجاحي قريبًا وتزوجت
وواصلت حياتي بنفس منهجي .. وحددت طريقي دائمًا في أن أتقرب من "الرأس"
الكبير في أي موقع أعمل به وأكافح حتى أنال ثقته ، فإذا ما تمكنت منه نفضت يدي من
الجميع وركزت جهدي واهتمامي عليه ، فأمضيت أيضًا سنوات العمل الأولى بلا صداقات
حقيقية مع الزملاء ولولا علاقاتي مع أسرة زوجتي وبعض أقاربي لما زرنا أحدًا ولا
زارنا أحد .. واستاءت زوجتي من كثرة عداواتي في العمل .. ومن كثرة ما سمعته من
شكاوى الآخرين مني ، وحاولت أن تحسن صورتي أمام الزملاء وهي تقسم لهم بأني لست
بهذا السوء الذي يتصورونني به . لكن عيبي أنني لا أهتم بالرد على ما يقال عني !.
فلم تنجح كثيرًا في تغيير مواقف الزملاء مني .. ولم أهتم أنا بذلك
واكتفيت بأن أعاملها وأسرتها معاملة طيبة وعشنا معًا حياة زوجية هادئة وأنجبنا
ولدًا وبنتين وحاولت إسعادهم بقدر طاقتي ثم ألححت عليها في أن تحدث أباها في
ترشيحي للعمل بأحد مكاتب الهيئة المنتشرة في بعض عواصم العالم لكي نرفع مستوى
حياتنا .. ونحقق أحلامنا في تربية أطفالنا تربية راقية ونكوّن لأنفسنا ثروة تحمينا
من غدر الزمان فتم نقلي للعمل في فرع الهيئة بإحدى عواصم العالم قبل دوري الطبيعي
بـ 3 أعوام .. واعتبرني من كان مرشحًا للسفر مغتصبًا حقه واتهمني اتهامات سخيفة
فتماسكنا بالأيدي وكاد سفري يلغى لولا توسلي لمديري وجهود صهري وسافرنا وبدأت
مرحلة جديدة من حياتي وبعد عدة شهور أراد شقيقي أن يعقد قرانه فكتب إليَّ أبي
يستنجزني وعدي بالمساعدة زواجه ، فرددت عليه بأني لم أستطع بعد تكوين أية مدخرات
وأرسلت له مبلغًا بسيطًا فأحزنه ذلك ورد عليَّ بخطاب يتهمني فيه بالأنانية والعقوق .
ومضت رغم ذلك سنوات العمل في الخارج سعيدة ونجحت في تكوين مدخرات
كبيرة وشراء مستلزمات بيت عصري وعدنا لمصر فأجَّرنا شقة أكبر وفرشتها بالأثاث
الفاخر وبدأت أعيش حياة اجتماعية جديدة ، وأسعى لمصادقة الأشخاص المهمين ودعوتهم
للعشاء في بيتي ، في حين تباعدت زياراتي لأسرتي .. وانقطعت تمامًا كل صلاتي بزملاء
عملي قبل السفر وكان قانون الهيئة لا يسمح بعملي في الخارج من جديد قبل 4 سنوات
أخرى فسعيت عن طريق أصدقائي الجدد وأصهاري للحصول على عمل في هيئة دولية وتم اختياري
فعلاً بفضلهم للعمل في نفس العاصمة التي أقمت فيها 4 سنوات فعدت إليها وتسلمت عملي
رئيسًا لأحد مكاتبها وكان نظام العمل بهذه الهيئة يقوم على نظام العقود المحددة
المدة لعام أو عامين حسب الحاجة ، وكان معي في هذا المكتب مساعدان مصريان يعملان
بعقود محددة المدة ويقيمان مع أسرتيهما في هذه العاصمة منذ سنوات ، فتعاونت معهما
في البداية وتصادقت أسرتي مع أسرتيهما لكن ذلك لم يمنعني من أن أكون حازمًا معهما
في العمل بل ولا من عقابهما كلما تطلب الأمر ذلك .. حتى ضاقا بي وخيِّل إليَّ
أنهما يتآمران ضدي فبيَّت النية على التخلص منهما في أقرب فرصة ، واستمرت العلاقات
العائلية بيننا وأنا أبذل كل جهدي في عملي وفي نيل ثقة رئيس الإدارة التي نتبعها
حتى جاءت اللحظة المناسبة وانتهى عقد أحدهما .. وسألني المدير عن رأيي فيه فأكدت
له عدم صلاحيته فرفض تجديد العقد وأثنى على إخلاصي للعمل الذي دفعني لإصدار حكم
محايد على زميل رغم كونه مصريًا مثلي !
ونزل خبر الاستغناء عن هذا الزميل على أسرته كوقع الصاعقة فقد كان
أطفاله في المدارس وليست أمامه فرصة أخرى قريبة للعمل وعدت إلى البيت فوجدت زوجته
وأولاده يبكون ويتهمونني بأنني وراء فصله فدافعت عن نفسي قدر استطاعتي وغادرت
زوجته البيت باكية وهي تدعو الله عليَّ أمام زوجتي وأولادي وتشاءمت زوجتي وبكت
فنهرتها .. فشتمتني فصفعتها صفعة احتاجت لأن تتردد على طبيب الأذن بعدها لمدة شهر
لعلاجها واضطررت أنا لشراء خاتم سوليتير ثمين لها لاسترضائها خوفًا من أن تشكوني لأبيها
، أما الزميل الآخر فقد ضيَّقت عليه الخناق حتى ضاق فدخل مكتبي ذات يوم ثائرًا
وحاول الاعتداء عليَّ فاستعنت بقوتي للدفاع عن نفسي والسيطرة عليه وأشهدت عليه
الزملاء فانتهى الأمر بفصله جزاءً لرعونته ، ورغم خطئه الواضح فقد تكرر نفس المشهد
السخيف في بيتي وجاءت زوجته لا لتبكي وإنما لتتوعدني بانتقام السماء مني وتنصرف
داعية عليَّ ، وضقت بهذه المشاكل فطلبت نقلي إلى مدينة أخرى فنقلت إلى عاصمة
أفريقية واحتفظت بمسكني في المدينة الأوروبية وعشت فيها 4 سنوات أخرى شهدت أيضًا
بعض المشاكل المماثلة مع الموظفين والمساعدين حتى تعلَّمت ألا أزور أحدًا من
الزملاء وألا يزورني أحد خاصة ممن يعملون معي . وانتهت إعارتي للعاصمة الأفريقية
فعدت للعاصمة الأوروبية وكنت خلالها أسافر كل عام إلى مصر لقضاء الإجازة الصيفية
وزيارة أهلي وفي إحدى هذه الزيارات توفي أبي وحزنت عليه كثيرًا ولمت نفسي طويلاً
لأني انشغلت عنه كل تلك السنوات الماضية ، وواسيت أمي وإخوتي ثم اشتريت لنفسي شقة
جديدة وشاليهًا على البحيرات المرة وعدت إلى مقر عملي وواصلت عملي وكفاحي لتحقيق
أهدافي وأصبحت مديرًا لنفس الإدارة . التي بدأت عملي فيها واكتشفت أن حياتي
الماضية كلها كانت عملاً في عمل وأني بلا أصدقاء تقريبًا.
وتمر عليَّ معظم الأمسيات .. وأنا حبيس بيتي أتفرج على
التليفزيون أو أعمل في بيتي .. وخطر لي أن أسأل عن الزميلين القديمين اللذين كنت
أصادقهما في بداية عملي فعرفت أن الزميل الأول الذي لم يتجدد عقده قد ساءت أحواله
بعد الاستغناء عنه .. فظل عاطلاً لفترة طويلة ، واضطرت زوجته للعمل في فندق صغير
عاملة نظافة ، واضطر هو للعمل في محل تجاري عاملاً ، ثم عمل سائقًا لسيارة نصف نقل
عدة سنوات ثم اشترى سيارة أصبح يعمل عليها بالطلب ، وأنه قد تديّن وأصبح من
المحافظين على التردد على مسجد المدينة الذي لم أزره سوى مرة واحدة في بداية عملي
فيها ، أما الزميل الآخر الذي فُصل فقد هاجر إلى دولة أخرى ومازال على صلة حميمة
بصديقه القديم .
فركزت كل مشاعري على أولادي ، وحاولت أن أستعيض بهم عن الصداقة
والأصدقاء وكانت ابنتاي تشبعان حاجتي العاطفية للإئتناس بالآخرين أما ابني الوحيد
فقد كان دائمًا فاتر المشاعر تجاهي رغم شدة إقبالي عليه ورغم محاولاتي الدائمة
لاستمالته وإبهاره وإبهاجه فقد كان دائمًا مكتئبًا بلا سبب مفهوم ، ويحن حنينًا
غريبًا إلى أقاربه في مصر ولا يسافر معنا بعد انتهاء الإجازة إلا بمعركة ، فإذا عدنا
أمضى الأيام الأولى بعد العودة حزينًا لا يكلم أحدًا ويخصني أنا بالذات بخصامه
وابتعاده عني ، وفسرت ذلك بعدم تأقلمه مع زملاء المدرسة ، لكن الأمر زاد حتى بدأت
ألاحظ عليه قلة نشاطه ، ثم بدأت درجاته المدرسية تتدهور واستدعتني المدرسة لتبلغني
بانخفاض مستواه الدراسي ، وتنصحني بعرضه على الطبيب ، فعرضته على أحد الأطباء فقام
بفحصه ثم طلب إدخاله المستشفى لإجراء بعض الفحوص له وانزعجت زوجتي لكني طمأنتها
بأن هذا إجراء عادي في هذه البلاد ، وأدخلناه المستشفى وأقامت معه أمه عدة أيام ،
فكأني به قد أدخلناه بيت التيه الذي لا مخرج منه ، والأطباء هنا لا يراعون المشاعر
العاطفية ويصدمونك بالحقيقة مهما كانت قاسية ، وقد قال لي كبيرهم في هدوء أن هناك
شكًا في كذا ، وأنه سوف يخضع للفحوص والعلاج ثم لإجراء عدة عمليات جراحية متتالية
، وإن الأمل قائم لكنه ليس مؤكدًا .. و .. ولم أسمع بقية حديثه لأني رحت في إغماءة
انشغل هو ومساعدوه في إفاقتي منها ، وعدت لبيتي وقد تضاعف عمري في لحظة واحدة ،
وحاولت كل جهدي أن أخفف عن زوجتي وطفلتيَّ الأمر ، ولكن قلب الأم لم يدع لي فرصة
لخداعها فانهارت باكية ، ووجدت نفسي أبكي معها لأول مرة منذ صباي .
وتغيّرت حياتي تمامًا منذ ذلك اليوم .. وكرهت العمل الذي حاربت
كثيرين لكي أتفوق عليهم فيه ، وساءلت نفسي : ما قيمة المركز والنقود والسيارة
الفارهة إذا كان قلب الإنسان ينزف دمًا ؟ وتذكرت مسجد المدينة الذي لم أزره منذ
عشر سنوات فسعيت إليه وصليت فيه ورطبت دموعي – التي كنت أعدها قبل ذلك ضعفًا لا
يليق بالرجال – سجاد أرضه ، ورأيت زميلي القديم في صلاة الجمعة ذات مرة فلاحظت
ملابسه البسيطة ولحيته الجديدة وتقدمت منه وصافحته باسمًا فصافحني ثم استدار
وانصرف قبل أن أتمكن من محادثته ، وراقبته وهو يركب سيارته نصف النقل ويبدو هادئ البال
راضيًا ، وجاء موعد الجراحة الأولى لابني ونزف قلبي دمًا وأنا أودعه ليبيت في
المستشفى ليلتها وحيدًا وقد بدا وعمره 14 عامًا في حجم طفل صغير ، وجاء الصباح
وأنا لم أنم لحظة واحدة فذهبنا إلى المستشفى وجلسنا في غرفة الانتظار أنا وزوجتي
وأنا لا يستقر لي مقام ، واللحظات تمضي كأنها دهور حتى فوجئت بمن يتقدم مني على
استحياء ويقول لي بالعربية "وإذا مرضت فهو يشفين" ، إن شاء الله بالشفاء
فلا تخف ثم يجلس على أحد المقاعد بجوار زوجتي ويخرج مصحفه ويتمتم بآياته طويلاً
وأنا أرقبه من بين دموعي ، إنه الزميل القديم علم بجراحة ابني فتناسى كل ما سببته
له من آلام وجاء يشد من أزري ولم يفارقنا إلا بعد عودة ابني لحجرته عارضًا علينا
خدماته ومعطلاً عمله ومصالحه ليؤدي لنا أي خدمة ، وحين ودّعني على باب الغرفة وجدت
لساني ينطق ويطلب منه أن يصفح عني ، فإذا به يقول لي أنه سامحني منذ زمن طويل وكتب
لصديقه المهاجر إلى دولة مجاورة ليصفح عني هو الآخر بعد أن علم بالقصة وأنه يدعو
لابني في صلاته فشكرته من أعماقي
.
ومضت الأيام بعدها ثقيلة وخرج ابني إلى البيت وبدأنا نتردد على
الطبيب كل أسبوع .. وعاد للمدرسة مع التوصية الطبية بعدم مشاركته في أي نشاط رياضي
أو بدني ، وبدأت أقرأ صفحتك باهتمام وبإحساس جديد بالتعاطف مع هؤلاء المهمومين
الذين ضاقت صدورهم بهمومهم فكتبوا إليك بها .. بل ووجدت نفسي أذرف الدموع أسفًا
للأب الذي تعاني طفلته من كليتها والذي نشرت رسالته منذ أكثر من عام بعنوان الشعر
الذهبي وتعاطفًا مع الأم التي أصرت على أن تذهب طفلتها للمدرسة وتواجه الحياة
معتمدة على نفسها رغم مرضها المؤلم وأصبحت عيناي تدمعان مع كل هم إنساني يعرضه
صاحبه ، وأعرف معه أشياء جديدة لم أكن أعرفها عن الحياة التي كنت أتصور أن أتصور
أن الفوز فيها للقوي الذي لا يضعف وحده
.
ثم صحوت ذات صباح من نومي وغادرت سريري فإذا بي أفقد توازني وأعود
للاستلقاء على السرير ، وتكررت محاولتي وتكرر فشلي رغم أني لا أحس بأي ألم ،
ولاحظت زوجتي ذلك فسألتني عما بي فطلبت منها بصوت هامس أن تدعو الطبيب ، وجاء
الطبيب وظللت طريح الفراش ممنوعًا من الحركة لمدة 40 يومًا ثم نقلت للمستشفى وخضعت
لإشراف طبي دقيق ثم غادرته على أن ألتزم بنظام علاجي صارم ، وأعود إليه كل 3 شهور
، وخلال ذلك فلا عمل شاق ولا تدخين ولا سهر ولا رحلات ولا طعام شهي .. إلخ .
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
آه لو تعفف الإنسان عن إيذاء الآخرين وحاول دائمًا أن يحقق أهدافه في
الحياة بغير أن يمشي إليها فوق جثث الآخرين وصراخهم وعويلهم ، إذًا لاختفت معظم
أسباب الشقاء الإنساني ولتخففت الحياة كثيرًا من آلامها .
لقد استعرض الفيلسوف الألماني "كانت" شريط حياته وهو
مستلقٍ في فراشه من الطفولة إلى لحظته الراهنة .. ثم هز رأسه وقال : هذا حسن ،
وأسلم روحه لبارئها مطمئنًا إلى أنه لم يؤذِ أحدًا في حياته . وأحد الصالحين تولته
رجفة وهو في نزعه الأخير فعاتبه صديق صالح قائلاً له : أتخشى لقاء ربك وأنت من عشت
حياتك في طاعته ؟ ، فأجابه باكيًا : أخشى أن أكون قد آذيت نفسًا بغير أن أدري .
فكم منا يا صديقي يستطيع أن يردد نفس العبارة وبعضنا لا يهتز له رمش
وهو يطأ الآخرين في طريقه إلى تحقيق مأربه وبعضنا الآخر لا يجد وسيلة لتحقيق بعض
أهدافه الرخيصة في الترقي إلا في أيذاء بني وطنه وأبناء جلدته ، فيكون كمن قيل عنه
أنه قد ظلم ليشتهر بالعدل مع أن أبواب الحياة متسعة للجميع ... ويستطيع كل إنسان
لو أراد أن يحقق سعادته بغير إشقاء الآخرين .. ويستطيع أن يرضى بما حقق ولا يتعجل
قطف الثمار إلى أن تأتيه راغبة وحين يأذن الله له بها . وما أحقر ما نتصوره
أهدافًا جليلة في الحياة إذا قارناها بما يستحق أن نشقى للوصول إليه كالسعادة ..
وراحة القلب .. ودفء المشاعر .. والسلامة من غوائل الدهر .. والإحساس بالأمان .
وبأننا في أمن من عقاب الله وعقاب الحياة .
لقد كانت هذه هي الحكمة الثمينة التي أدركتها أنت بعد أن لهثت طويلاً
في الاتجاه الخاطئ . فاكتشفت أخيرًا بالتجربة الأليمة أن ضعف الإنسان أمام آلامه
حق ، وأنه في حاجة إلى من يشد أزره فيما يصادفه من محن واختبارات وأنه بغير حب
الآخرين وإحساسه بالرضا الداخلي عن نفسه لا يساوي الكثير مهما تبدى له غير ذلك .
لقد عادت إليك الآن يا صديقي شجاعتك الحقيقية حين اعترفت بخطاياك
ورغبت في التكفير عنها ، ولقد كان الكاتب الروسي العظيم تولستوي يقول "إن
الإنسان لا يقترب من الله إلا إذا كان وحيدًا" والأصح في رأيي هو أن الإنسان
في حاجة ماسة ودائمة لأن يقترب من ربه لكيلا يكون وحيدًا أبدًا .. ولكي يحس بأن له
دائمًا سندًا ونصيرًا فاقترب من سندك الأكبر في الحياة يا سيدي وأُدعه خوفًا
وطمعًا خوفًا من عقابه وطمعًا في رحمته وعفوه .
واستعرض شريط حياتك واكتب إلى كل من تحس أنك قد آذيته في رحلة حياتك
منذ صباك وحتى الآن وابدأ بعمك وابنته التي نكثت بعهدك معها ثم بكل زملاء العمل في
مصر والمدينة الأفريقية ثم العاصمة الأوروبية واطلب منهم صفحهم جميعًا واعرض عليهم
خدماتك فيما تستطيع أن تقدمه إليهم وكن بلسمًا لجراح الآخرين يخفف الله عنك آلام
جراحك .. وينزل السكينة على قلبك ويقرب ابنك الغالي من الشفاء الناجح بإذن الله .
أما عن تساؤلك المؤلم عن ذنب ابنك فيما فعلت بحياتك فلا ذنب له في
شيء وليس عندي من رد على تساؤلك سوى أنه ابتلاء من الله سبحانه وتعالى علينا أن
نتقبله بالرضا والتسليم وليس لنا أن نسأل لماذا ؟ فحكمته تجلُّ عن الأفهام ، وما
من شوكة تصيب الإنسان إلا ويجزيه الله بها خيرًا في الدنيا والآخرة فلا تشغل نفسك
بهذه الخواطر المؤلمة وتشاغل عنها بتنفيذ برنامج العلاج الدقيق لابنك الغالي ولك ،
وبالتقرب إلى الله بالعمل الصالح وبالعطاء للآخرين وبخدمة الحياة عسى أن يتقبله
منك ويمسح على جراحك وابدأ بحساب زكاتك المتأخرة وأخرجها إلى من يستحقونها وليكن
ذوو قرباك من الضعفاء في مقدمة من توجهها إليهم ثم إلى الفقراء من بني بلدتك وما
أكثرهم في بلادنا .
أما عن جزعك على ابنك فلا لوم عليك فيه ولا تثريب فهو إحساس إنساني
صادق ، وقديمًا قال الشاعر العربي متوجعًا على ابنه :
أُلام على ما أبدي عليك من الأسى
وإني لأخفي منه أضعاف ما أبدي
ولا عجب في ذلك فلكل إنسان يا صديقي قدرته على الاحتمال والتصبر ..
والتحمل "ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" وأقرب إلى مرضاة ربك .. وأنسب
إلى حالتك الصحية التي تتطلب منك أن تعين نفسك عليها وعلى آلامك الأخرى .. بالصبر
والاحتمال .. أعانك الله على آلامك ومنَّ على ابنك العزيز بالشفاء العاجل الكامل
إن شاء الله .... إنه على كل شيء قدير .
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر