ظروف خاصة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984
صدق من قال إننا نحتاج أحيانا إلى أن نعيش حياتنا أكثر من مرة، لكي نستوعب أخطاءنا ونتعلم من تجاربنا .. وكثيراً ما نقول لأنفسنا لو عادت بنا الأيام إلى الوراء لما فعلنا كذا ولما أقدمنا على كذا .. مع أننا حين فعلنا ذلك كنا نرى أنفسنا على حق لا يأتيه الباطل من يمينه أو يساره, وهذا هو معنى التجربة ودرس الحياة.
عبد الوهاب مطاوع
أبدأ رسالتي بأن أعرفك بنفسي: إنني یا سیدی مستشار في إحدى
محاكم الاستئناف بالوجه القبلي، وأقيم في شقة فاخرة بها جميع الكماليات في إحدى
مدن الوجه البحري وعمرى 43 سنة، وأنا متوسط القامة مثقف ومرح إلى حد ما
ولدي سيارة حديثة صغيرة تيسر لي أموري وقد رزقني الله طفلين أكبرهما في الثانية
عشرة من عمره والأصغر في الحادية عشرة.
وبغير الدخول في التفاصيل فلقد اضطررت إلى طلاق زوجتي للمرة
الثالثة أخيرا وبعد محاولات مستميتة من جانبی لإثنائها عن طلب الطلاق حفاظا على
ولدينا وبيتنا وسنوات العشرة والكفاح والحب التي ربطت بيننا، لكن محاولاتي كلها
ذهبت أدراج الرياح، کما فشلت أيضا محاولات أهلها لردها إلى الصواب فكان الطلاق.
والحق أني لا أعفي نفسی من المسئولية عن هذا الطلاق فلا شك
أنها سامحها الله وسامحنا أيضا قد تحملت الكثير من أخطائي ومتاعبي لكني كنت آمل أن
يتغلب نداء العقل على الانفعال فلم يحدث ذلك للأسف.
والمشكلة الآن یا سیدي تتلخص في أن طبيعة عملي تستوجب وجودي
في مدينة بالوجه القبلي لمدة 10 أيام كل شهر هي فترة انعقاد جلسات المحكمة، أكون
خلالها بعيدا عن ولدي اللذين يدرسان في مدارس مدينتي بالوجه البحري، وليس لي من
الأقارب والأهل من يمكن أن يقوم على رغباتهما في غيبتي فضلا عن أنه حتى في
فترات وجودي معهما فإني قد أحتاج إلى من يرعاني أكثر منهما، فأنا لا أعرف الطهي
ولا أعرف شيئا عن الشئون المنزلية ولا دراية لي بها، وأمي سيدة مسنة وتقيم في
مدينة بعيدة وظروفها تمنعها من الانتقال للإقامة معي .. وإخوتي هاجروا جميعا
للخارج منذ سنوات وأنا وحید مع طفلين في حاجة للرعاية والحنان وكان الحل الوحيد هو
الزواج وقد نصحني بذلك أيضا أهل زوجتي أنفسهم بعد أن أعيتهم الحيل في عدول ابنتهم
عن الطلاق.
فتقدمت لإحدى قريباتي التي لمست منها ميلا إلي فإذا بها
ترفضني لأن لدي طفلين فقل لي بالله عليك.. ماذا يفعل من كان في مثل ظروفي .. هل
أعيش عمري كله أدفع ثمن تجربه زواج فاشلة؟! .. ثم لماذا يعتبر وجود طفلين سببا
مانعا لي من الزواج بمن تلائمني؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
إنني معك تماما في انه ليس من العدل ولا من الرحمة أن
نحكم على إنسان بتجربة فاشلة عاناها ودفع ثمنها غاليا . وإني لا أتفق
معك في أن من يتعرض لتجربة أليمة كهذه التجربة يكون غالبا
أکثر حرصا على حياته الجديدة وأكثر حرصا في حياته الجديدة وأكثر رغبة في تجنب
الفشل للمرة الثانية، لأنه ذاق مرارة الفشل من قبل وخبر قسوته .. وصدق من قال إننا
نحتاج أحيانا إلى أن نعيش حياتنا أكثر من مرة، لکي نستوعب أخطاءنا ونتعلم من
تجاربنا.. وكثيرا ما نقول لأنفسنا لو عادت بنا الأيام إلى الوراء لما فعلنا كذا
ولما أقدمنا على كذا. مع أننا حين فعلنا ذلك كنا نرى أنفسنا على حق لأ يأتيه
الباطل من يمينه أو يساره، وهذا هو معنى التجربة ودرس الحياة.. ورسالتك يا صديقي
تقطر ألما وأسى وندما لتطور الأمور إلى حد الطلاق البائن وضياع البيت وسنوات
العشرة والكفاح. وفي ذلك ما يؤكد أن لديك حنينا دافقا للاستقرار کما أن سطور
رسالتك لم تظلم مطلقتك ولم تحملها وحدها مسئولية الفشل، وفي هذا إنصاف لها من
نفسك، وقليلون هم من ينصفون الآخرين من أنفسهم، إن كل إنسان معرض للفشل ولكنه ليس
نهاية الحياة، والطلاق محنة للرجل كما هو محنة للمرأة.. فلماذا نتصور أن هناك
من يستعذبه ويهواه، لكني أدعوك إلى أن تتجنب الأخطاء التي يقع فيها بعض من يتعرضون
لتجربة الفشل في الزواج وفي ظروف الآلام النفسية التي تصحبها.. فبعض الرجال يقعون
تحت تأثير رغبة متسلطة لديهم للزواج.. من "أفضل" من غرقت معها سفينة
الزواج الأول كأنهم يريدون أن يثبتوا لها أنهم يستحقون من هي أجمل وأصغر وأرقى
منها! وهذا خطأ في التفكير أرجو ألا تقع فيه لأنه يدفع المطلق إلى التقدم لمن لا
تناسبه فيصدم بالرفض.. وتتضاعف محنته.. والعاقل من يعي تماما وهو من يسعی إلى من
تلائمه فيقبلها بظروفها الخاصة كما تقبله هي بظروفه الخاصة وأولها وجود الطفلين..
فلماذا مثلا يرفض المطلق ومعه أولاد.. مطلقة ومعها أولاد أو أرملة ومعها أولاد ولا
يتقدم غالبا إلا إلى بكر صغيرة السن؟ ولماذا يطلب أما لأولاده ويرفض هو أن يكون
أبا لأولادها؟ ولماذا يطالب الآخرين بالتنازل عن بعض الاعتبارات ويرفض هو التنازل
عن اعتبارات مماثلة؟ إنني لا أعني أنك قد فعلت ذلك لكني أرغب فقط في أن تساعدك هذه
الكلمات المتواضعة في إيضاح بعض جوانب الطريق إلى حياة جديدة.
أما رعاية طفليك خلال فترة غيابك في مقر عملك فهي ليست معضلة فأمهما على قيد خطوات منهما والحمد الله، وسوف تسعد بأداء هذه المهمة إلى أن يوفقك الله إلى شريكة حياة، وأظن أنك لا تقبل أن تحرمها من حقها في ذلك.. فأنت رجل عدالة أولا وأخيرا ومثلك من يرعى العدل والرحمة في تعامله معها بعد الانفصال فهما جديران بك وأنت جدير بهما.. ولسوف يوفقك الله إلى حياة جديدة موفقة بقدر ما ترعاها في علاقة طفليك بأمهما.. مع تمنياتي لك بالسعادة والتوفيق.
نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1984
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر