ظل الشجرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994


ظل الشجرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

ظل الشجرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

ما أحوجنا دائما لأن نتذكر دائما الحكيم الإغريقى الذى دعا آلهته أن تعينه على تغير ما ينبغى تغييره والرضا بما لا يستطيع تغييره وأن تهبه الحكمة لأن يفرق بينهما فلا ينطح الصخر فى محاولة تغيير ما لا حيله فى تغييره ولا مفر له من القبول به والتعايش معه.
عبد الوهاب مطاوع


أنا زوجة وأم ، حصلت على مؤهل عال ولم أعمل به وإنما تفرغت لتربية أولادي ورعاية شئون بیتي ومساندة زوجي في حياته وعمله، فلقد تزوجته وهو يعمل بالتجارة فعشت معه ۱۲ عاما کاملة في بداية حياتنا الزوجية رهن إشارته أكرس كل وقتي لخدمته ومساعدته على تحقيق أهدافه والنجاح في عمله حتى أنه حرمني من السكن إليه في غرفة واحدة كبقية الزوجات لكي ينام بعمق وهدوء يساعده على الاستيقاظ مبكرا وأداء عمله في الصباح بالتركيز المطلوب، وقبلت بذلك راضية مع أني كنت اشتاق لأن تجمعني به غرفة واحدة طوال حياتنا أحس بوجوده إلى جواري فیها .. ولقد ساندته نفسيا ومعنويا ووقفت وراءه وهو يحقق نجاحه خطوة بعد أخرى وانقطعت تماما عن الأهل والأصدقاء لأتفرغ له ولأستطيع أن ارعی أولادي الثلاثة، وخاصة أن احدهم معاق ولأقيم الولائم المستمرة لعملاء زوجي ومن يريد مجاملتهم حتى أنه لم تكن تجمعنا معا نزهة.. ولا أجازة طوال العام سوى عشرة أو 15 يوما فقط كل صيف نمضيها على شاطئ الإسكندرية.. وحتى هذه الإجازة القصيرة لم يكن يتفرغ لنا فيها.. وإنما كان يصحبنا إلى الشاطئ ويرجع هو إلى عملائه وصفقاته.. ويأتي لتناول الغداء معنا ثم يرجع إلى عملائه.. وهكذا واستمر هذا النظام العسكري الصارم اثني عشر عاما كاملة فأثمرت ثمارها الطيبة على عمله فأفتتح معرضا كان الأول من نوعه في المحافظة التي نعيش فيها، وبدأنا نجني ثمار الكفاح معا فانتقلنا من شقتنا إلى شقة أوسع وأجمل ورزقنا الله بولد وبنت آخرين عوضا إعاقة ولدنا الأوسط.

وزادت أعبائي مع كثرة الأولاد والتوسع في العمل، فكثرت أيضا الولائم.. وازداد زوجي انشغالا بعمله زادت مسئولياتي تجاهه.

وإذا بي اسمع أنه قد تزوج من فتاة في عمر ابنتنا الكبرى.. وأنه رتب لزواجه منها في الإسكندرية ونحن نقضي أجازة الصيف فيها منذ عامين ونصف وأنه قد تزوجها بعد أن غادرنا المصيف في شقتنا هناك.

ولأن له أعمالا في الإسكندرية تقتضي أن يقضي نصف الأسبوع فيها فقد أستمر يسافر كعادته إليها كل أسبوع ويعود دون أن يساورني الشك فيه إلى أن عرفت فجأة أنه قد تزوج منذ عام وتكتم الأمر عني طواله.. ولمست فيه بعض التغيرات الطارئة فصارحته بظنوني.. فإذا به يؤکدها لي ببساطة ويطالبني بقبول الأمر الواقع حرصا على مصلحة الأبناء. 

لقد فقدت أمي وأنا شابة في الحادية والعشرين ومن بعدها أبي لكني لم أشعر بحرارة اليتم كما شعرت بها في هذه اللحظة، فلقد وجدت نفسي وحيدة وضائعة بلا معين ولا صدر أرتمي عليه وأشكو له ما أحسه من قهر أو أناجيه وأبثه همومي سوی ربي.. وولدي المعاق الذي يخلو البيت علينا دائما حين يذهب إخوته إلى مدارسهم.

 كما وجدت نفسي استعرض شريط حياتي مع زوجي کاملا فتتوالى علي ذكريات النظام العسكري بمساندتي له في كل خطوة من خطوات حياته واسأل والنار تلسعني لماذا فعل بي ذلك وأنا أرعى الله فيه وفي ماله وعرضه وأولاده ولم ينشب بيننا خلاف .. وكيف يكون هذا هو الجزاء وتنساب دموعي ليل نهار.


لقد لاحظت أن نار فراق أبوي تخبو تدريجيا مع الأيام، أما نار زواج زوجي من أخرى فهي لا تضعف مع الأيام وإنما تزداد اشتعالا يوما بعد يوم للأسف .. وقد تزايد لهيبها حين علمت أن زوجي يرتب لانتقال زوجته إلى نفس المدينة التي نعيش فيها لتقيم في شقتنا القديمة التي كنا نحتفظ بها لأحد أبنائنا حين يكبر، فناشدته الله بل توسلت إليه أن يدعها حيث تعيش حتى أستطيع أن أخدع نفسي واعتبر الأيام التي يقضيها لديها أيام عمل كما كان يفعل طوال السنين الماضية لكنه رفض.. وأصر على أن ينقلها إلى مدينتنا لتكون تحت أنظاره كل الوقت، لأنها شابة صغيرة.. وجاء بها بالفعل ووقعت أنا في بحر الحيرة والألم فلقد أصبح يمضي ليلة لي بيتنا وليلة هناك، ويسافر إلى الإسكندرية ثلاثة أيام كل أسبوع فيصحبها معه دوني خاصة وقد أنجبت له في عامين متتاليين ولدا وبنتا.. وظل بيتي كما هو لاستقبال ضيوفه وعملائه وطهي طعامه وغسل ثيابه التي يعود بها من سفره مع الأخرى حتى أغطية الستائر وملابسه التي يستخدمها وهو يقيم معها .. يعود بها إلي لأغسلها .

فهل يرضي الله هذا يا سيدي؟

إنه لم يعدل بيننا.. ولا يرعی أولادي إلا من جهة الإنفاق عليهم وابنتي الكبرى تأثرت نفسيا بالحالة التي بدت بيني وبين أبيها والولد الأكبر عنده حالة من اللامبالاة والصغيران عجزت من رعايتهما دراسيا فانخفض مستواهما الدراسي، وأصبت بضغط الدم العصبي وأزمات في التنفس بسبب انفعالي الدائم والمستمر ويمنعني حيائي من أن أطيل في شرح ما أعانيه بسبب عدم العدل الذي حذر الله منه وشدد عليه، ولقد قلت له أنني لا أطلب منه سوى حقوقي كإنسانة ترعى شئون البيت والأبناء وترعى الله في كل ما تفعل ولست أطمع سوى في الكلمة الطيبة أو اللمسة الحانية، وحاولت حين سافرنا لأداء العمرة أن أصلع ما بيني وبينه حتى إنني اشتريت هدايا وملابس لابنيه من زوجته الأخرى كما اشتريت لأبنائي تماما ومع ذلك فحين عدنا إلى بلدنا ظل على جفائه معي كما هو.

ولقد فكرت طويلا في الانفصال عنه.. فهل تنصحني بأن أبقى على حياتي معه لكي أحافظ على كيان الأسرة رغم تدهور حالتي من يوم إلى يوم کما تنصح كثيرا في ردودك.. أم تنصحني بالتخلص من هذه الحياة لكي أبتعد عن ردود الأفعال الضارة بي وبأبنائی وأكرس حياتي لهم بغير أن أعيش جحيم النار الذي يلسعني بألسنته ويتزايد يوما بعد يوم .

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

 بعض الرجال يذكرونني بنوع من الأشجار الغريبة التي لا تورق فروعها من الجذع في حين تتكثف أوراقها وتكثر في الأطراف البعيدة فتهب الظل للبعيد وتحرم منه الجذع الأصيل الذي ارتوت منه الفروع عاما بعد عام حتى كبرت ونمت وارتفعت في السماء.

ومن المؤسف حقا أن تكون جائزة التفاني والإخلاص والدعم النفسي طوال رحلة السنين هي حرمان شريك الكفاح من حقه العادل بأن ينعم بظل شريك حياته وثمار شجرته الوارفة.. وأن يجد نفسه في مرحلة جني الثمار يستجدي الكلمة الطيبة واللمسة الحانية من شريكه فلا يجدهما .

إنها نفس القصة القديمة الجديدة التي تتكرر أحيانا فتثير تأملاتنا حول بعض الطبائع البشرية.. وتكاد تشككنا في بعض الأحيان في جدوى الوفاء والعطاء المخلص طوال السنين لولا أننا نستعيد أنفسنا سريعا ونسلم بأنها الاستثناء الممجوج الذي لا يغير من القاعدة شيئا مهما كثرت نماذجه أو تعددت.

لقد أخطا زوجك خطأ كبيرا في حقك حين تزوج بغیر أن يستأذنك ويخيرك بين البقاء والاستمرار وبين الانفصال كما كان ينبغي له أن يفعل وفاء لعشرة السنين واخطأ في حقك أيضا وفي حق نفسه بزواجه ممن هي في سن ابنته الكبرى لأنه وإن كان خطأ شخصيا يتحمل هو أولا عواقبه إلا أن أضراره قد لحقت بك للأسف .. في انصرافه عنك إليها وميله الاضطراري إليها وعجزه عن العدل بينكما.

والحق انك يا سيدتي تواجهين موقفا لا سبیل للتعامل معه إلا بطريقتين لا ثالث لهما، إما بالتسليم بالأمر الواقع الذي تحول للأسف بالإنجاب إلى جبل راسخ يستحيل زحزحته عن موقعة أو تغييره، وإما رفضه حتى النهاية واختيار الانفصال عن زوجك وتحمل تبعات هذا الانفصال وخسائره النفسية والاجتماعية العديدة.

أما استمرار الرفض مع استمرار المعاناة فلا عائد له سوی تدهور الصحة النفسية والجسدية.. والموت المعنوي البطئ بلا طائل.. ولا ضرورة.

وأنت وحدك يا سيدتي التي تستطيعين اختيار الطريق الملائم لك في التعامل مع هذا الواقع الجديد.

فإذا اخترت الإبقاء على كيان الأسرة وتفضيل مصلحة الأبناء في النهاية والإبقاء على الخيط الرفيع بينك وبين زوجك أملا في الإصلاح وتحقيق العدل ولو بعد حين فلابد أن تعيني نفسك على التكيف مع ما فرضته الظروف على حياتك من متغيرات جديدة وأن تتواءمي معها بقدر الجهد والطاقة، تحجيما للخسائر الصحية والنفسية وإعفاء لنفسك من معاناة أبدية لا طائل تحتها.

وما أحوجك مع هذا الاختيار لأن تتذكري دائما دعاء الحكيم الأمريكي الذي دعا آلهته أن تعينه على تغییر ما ينبغي له تغييره والرضا بما لا يستطيع تغييره وأن تهبه الحكمة لأن يفرق بينهما فلا ينطح الصخر في محاولة تغيير ما لا حيلة في تغييره ولا مفر له من القبول به والتعايش معه.

أما إذا اخترت الانفصال لحل مشكلتك فلك ما اخترت ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها في النهاية لكننا ينبغي لنا أن نعين أنفسنا على حسن الاختيار أحيانا بأن نسأل: من الذي سوف يستفيد من اختيارنا هذا ومن الذي سوف يخسر ثم نحدد طريقنا على ضوء الإجابة الأمينة فإذا سالت نفسك هذا السؤال فإني قد أستطيع أن أجيب نيابة عنك بأنه من سوف يسعد بانسحابك النهائي من حياة زوجك.. لن يكون أنت بكل تأكيد.. ولن يكون أبناؤك أيضا وإنما سيكون طرفا وحيدا هو الزوجة الشابة الجديدة التي تستمتع بظل الشجرة بغير أن  تعاني في رعايتها طوال السنين والتي سيخلو لها وجه زوجك تماما بعد أن تقطعي آخر روابطه بك.


 فهل هذا هو ما تريدين يا سيدتي؟ لست أظن ذلك.. وليس من العدل أيضا أن تخسري كل شي بعد أن خسرت الكثير من سلامك النفسي ومن راحة القلب، وليس الحل الأمثل لك في مثل ظروفك هو الانسحاب والانفصال الذي لن يقدم لك أي عون على مواجهة ظروفك بل سيضاعف من إحساسك بالقهر والمرارة وفقدان الرفيق، والحل الوحيد المتاح الآن وبعد أن حدث ما حدث هو أن يعدل زوجك بينك وبين الأخرى.. وأن يستعيد في خاطره مرارا وتكرارا نفس الشريط الذي استعدته أنت كثيرا حين علمت بنبأ زواجه، عن رحلة العمر معه وأن يتذكر لك عطاءك المخلص له وينجو بنفسه من أن يكون ظالما أو جحودا أو مائلا بشقه ناحية إحدى زوجتيه.. كما حذر الرسول الكريم من يفعلون ذلك، هذا هو الحل المتاح الآن وما أيسره على زوجك لو رغب في ألا يكون من الظالمين، ولو بذل بعض الجهد وراغم نفسه على أن يكون منصفا أمينا معك ليس فقط رعاية لحق أبنائه منك عليك.. وإنما رعاية لحق الوفاء.. والعرفان.. وعشرة السنين.

نشرت عام 1994 بجريدة الأهرام باب بريد الجمعة

نقلها وراجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات