اخرج في الجو العاصف ! .. كتاب أعط الصباح فرصة

 


                   اخرج في الجو العاصف ! .. بقلم / عبد الوهاب مطاوع - كتاب أعط الصباح فرصة

اخرج في الجو العاصف ! .. كتاب أعط الصباح فرصة


كنتُ أعيش وحيداً في مسكني في ذلك الوقت .. وقد طالت وحدتي منذ غادرت بيت الأسرة في مدينة صغيرة تبعد عن القاهرة نحو 200 كيلو متر , وأنا في الـ 17 من عمري , وجئت إلى القاهرة لألتحق بجامعتها إلى أن تخرجت وعملت وتجاوزت الـ 30 من عمري , وأنا أعيش وحيداً في مسكني الخالي , وقد أصبحت وحيداً مزمناً واكتسبت عادات الوحدة وكرهتها من أعماقي ... ثم جاء شتاء قارس لم تشهد بلادنا مثله منذ سنوات وأمطرت السماء لمدة 3 أيام متصلة , فغرقت الشوارع ..واحتجب الناس في البيوت يحتمون بدفئها ويستعينون على الوقت بالسمر العائلي والتلفزيون ومشروبات الشتاء الساخنة ..لكن كيف يستعين عليه شاب وحيد مثلي في مسكن خال من البشر, والقراءة وحدها لا تغنيني عن حاجتي للإيناس والصحبة .
لقد جربت أن أعتصم بالبيت بعد عودتي من العمل في أول أيام الموجة الباردة , فأمضيت المساء ضيق اصدر مكتئباً ..أقرأ قليلاً وأشرد كثيراً , وأحاول اصطياد النوم فأفشل , إلى أن بزغ الفجر وأنا مازلت مستيقظاً ..

وفي اليوم التالي عدت لبيتي بعد موعد العمل وكررت المحاولة فما إن بلغت الساعة الـ 10 مساء حتى كان الضيق قد تولاني فقررت أن أخرج مهما كان الجو بارداً وممطراً وأن أذهب إلى مقهى وسط المدينة الذي كنت أمضي فيه سهراتي كل ليلة حتى ولو لم أجد فيه رفيقاً لسهرتي سوى جارسون المقهى , ونهضت بحماسة لارتداء ملابسي وارتديت معطفاً ثقيلاً وكوفية صوفية وغادرت شقتي ..وعند باب العمارة رأيت البواب يرقب المطر من خلف زجاج الباب الخارجي وهو يرتدي البالطو والكوفية , فما أن رآني نازلاً حتى التفت إليَّ مندهشاً , ثم قال لي لائماً : إلى أين تذهب في هذا البرد والمطر ؟
ولا أذكر بماذا أجبته وقتها ..لكني أذكر أني خرجت إلى الشارع محتمياً بمظلة , ثم ركبت سيارتي الصغيرة القديمة التي كنت أملكها وقتها واستغرقت وقتاً طويلاً حتى نجحت في إدارة محركها الذي أثرت فيه الأمطار والبرد , ثم قدتها إلى مقهى وسط المدينة ودخلته فلم أجد فيه من أصدقاء السهرة اليومية أحداً , بل لم أجد فيه من رواده المعتادين سوى شيخ في الـ 70 من عمره , كنت أراه في المقهى معظم الليالي ولا أعرفه ولم أتحدث إليه من قبل ..لكن الوحدة في ليلة شتائية باردة هي خير بطاقة تعارف بين البشر ..فما إن دخلت المقهى الخالي حتى تهلل لرؤيتي ونهض مرحباً بي كأني صديق حميم له ..وكنت أتلهف إلى من أتحدث إليه , فأقبلت عليه محيياً مع أنها كانت المرة الأولى التي نتحادث فيها وجلست إلى جواره ..
وبدأ الحديث بالتعليق على الجو البارد العاصف ..ثم سألني عن عملي وحياتي وسألته عن ظروفه وحياته ؟ وعرفت منه أنه موظف بالمعاش وأن زوجته قد رحلت عن الدنيا منذ 6 سنوات وتزوج الأبناء واستقلوا بحياتهم , وخلا عليه مسكنه فعاش فيه وحيداً يزوره الأبناء من حين لآخر أو يزورهم ..لكن الشتاء يحجب الجميع ويسجنهم في بيوتهم فيضيق بوحدته في الليل ويأتي إلى هذا المقهى القريب من بيته , حيث يجلس وحيداً بعض الوقت ويتسلى برؤية رواده ..والاستماع إلى ثرثرتهم ويعود لبيته آخر الليل , ثم حجبت موجة البرد الأخيرة الرواد ليلة أمس ..والليلة حتى كاد الجارسون يغلق المقهى وينصرف إلى بيته لولا أن توسل إليه هو أن يُبقيه مفتوحاً عسى أن يأتي أحد .
وقد صدق ظنه وجئت أنا هذه الليلة , والتفتُّ إلى الجارسون وكنت أعرفه منذ فترة طويلة .."وأنَّبتُه " طويلاً على تفكيره " الانهزامي " في إغلاق المقهى ..وحذرته من الاستسلام له مرة أخرى , قائلاً له إن هناك في الحياة من تشتد عليهم معاناة الوحدة أكثر من معاناتهم للبرد , وأن مقهاه هو " مصحتهم النفسية " التي تحميهم من أضرار الوحدة في مثل هذه الليالي الموحشة , وكنت أمزح معه بالطبع ..لكني اكتشفت بعد سنين طويلة أنني كنت أمزح فعلاً , لكني لا أقول إلاّ جدّا من حيث لا أدري , بل إنني حين غادرت مسكني الخالي وذهبت إلى المقهى في تلك الليلة الممطرة كنت أنفذ بغير وعي أحدث روشتة يقدمها أطباء النفس الآن في أوروبا وأمريكا والبلاد الباردة لكبار السن ومن يعانون الوحدة في حياتهم كباراً وصغاراً .
فالشتاء في هذه الدول قاس والغيوم تحجب الشمس لأيام طويلة وأحياناً لأسابيع ..فيُظل الكون لون رمادي كئيب , وفي مثل هذا الجو يزهد كثيرون في الخروج إلى الشوارع لأيام متتالية فيتسلل الاكتئاب تدريجياً إلى نفوسهم , ثم تتراكم سحبه داخلهم ..فتؤدي بهم إلى اكتئاب من نوع خاص يسمونه " ظاهرة الكوخ " أو اكتئاب الكوخ وهي حالة خاصة من الاكتئاب يحسها الإنسان إذا طال سجنه داخل مسكنه أو " كوخه" بسبب رداءة الجو في الخارج وتجهم السماء وانهمار المطر .

ولهذا فإن الأطباء النفسيين ينصحون كبار السن ومن يعيشون وحدهم في مساكنهم ألاَّ يسجنوا أنفسهم في بيوتهم خلال شهور الشتاء الكابية ويحثونهم على أن يخرجوا إلى الحياة مرة واحدة على الأقل كل يوم مهما كان الجو بارداً وعاصفاً ..وبأن يذهبوا إلى المقهى ولو لنصف ساعة في الصباح أو الظهر أو المساء , حتى لو جلسوا فيه صامتين يرقبون المطر والمارة والسيارات العابرة ..وحتى لو لم يتحدثوا إلى احد سوى جارسون المقهى حين يقولون له : واحد قهوة من فضلك .
فالخروج من سجن الكوخ ولو للحظات يجدد نشاطهم وحيويتهم ويجدد ارتباطهم بالحياة ..والمشي إلى المقهى أو إلى مكان لبعض الوقت يحرك أعضاءهم ..ويحرِّك – وهو الأهم – روحهم فلا تستسلم للخمول ثم الاكتئاب , الذي قد يؤدي إلى الموت , فالسكون موت ...والحركة حياة , كما قال أحد الشعراء .
والإنسان الذي قد يشكو كثيراً من الناس ومن تدهور أخلاقهم ومضايقاتهم لا يتحمل الحياة وحده طويلاً ...ولا يعرف أن هذه المضايقات نفسها هي أحد أسباب تَحَرُّكِ روحه بالانفعال أو الاستياء أو الرفض , وأن هذه الانفعالات حتى ولو كانت سلبية , إلا أنها أرحم كثيراً من جمود الروح بلا أي انفعال , فأسوء حالات الإنسان النفسية هي ألَّا يفرح لشيء ولا يحزن لشيء ولا يعجب لشيء ولا يستاء من شيء , وتأثير الجو الكآبي الغائم على الحالة النفسية للإنسان معروف منذ القدم , لكن العلم لم يتوصل إلى تفسيره إلا منذ فترة قصيرة على أيدي أطباء النفس وعلمائه ..

فالشتاء هو فصل الأحزان والشجون وميل النفس للاكتئاب وشهوره هي موسم العمل وزحام العيادات النفسية في أوروبا وأمريكا , حيث تطول قوائم الانتظار فيها ..والتشخيص في معظم الأحيان : اكتئاب الكوخ أو اكتئاب الشتاء .
وقد لاحظت منذ سنوات حين بدأت أتردد على باريس مرتين كل سنة , الأولى في بداية الصيف والأخرى في بداية الشتاء ..أنني أجد الفرنسيين في زيارة الصيف يتألقون بالمرح والصخب وحب الحياة وأجدهم في زيارة الشتاء متجهمين وأقل مرحاً وصخباً .
وقد اعتدت أن أمضي فترة الصباح في مقهى صغير مجاور للشقة التي أمضي فيها إجازاتي وهو مقهى تملكه سيدتان عجوزتان , وتديرانه بنشاط ومرح فلاحظت أنهما تتفجران بالحيوية والمرح وتستقبلانني بابتسامة عريضة كل يوم والسؤال عن الصحة في زيارة الصيف , ولاحظت أنهما تستقبلانني في زيارة الشتاء بتحفظ وأنهما لا تداعبان الروَّاد ولا تتبادلان معهم النكات والضحك كما يحدث في الصيف , ورويت ذلك لصديق مقيم في باريس منذ سنوات طويلة ففسره لي بأنه هكذا الحال غالباً في الشتاء !
وأكد لي طبيب مصري مقيم في فنلندا – وهي إحدى دول شمال أوروبا الباردة – أن معظم حالات الانتحار هناك تقع في فصل الشتاء الطويل الذي يستمر نحو 6 شهور وكذلك معظم حالات الطلاق ! فتعجبت للمفارقة وليس لهذه المعلومة الصحيحة ..فلقد تذكرت أنني في شبابي حين كنت أقيم وحيداً في مسكني ..كنت أشعر بحاجتي للزواج كل سنة في فصل الشتاء , حين ينشغل عني الأصدقاء المتزوجون ببيوتهم وأُسرهم وأولادهم ويجدون في دفئها ما يغنيهم عن الخروج إلى المقهى في الأمسيات الباردة , واحسم أمري وأقرر الزواج فما إن أتوصل إلى القرار حتى يكون الشتاء قد مضى وأتت شهور الربيع والصيف ..وازدحم المقهى برفاق السهر حتى الفجر , وتنوعت السهرات وتعددت .." فأسهو " عن تنفيذ القرار إلى أن يفاجئني الشتاء التالي , فأبدأ في التفكير في الزواج من جديد حتى تخطيت الـ 30 بعدة سنوات قبل أن أتزوج !

ولقد كان الشائع من قبل أن حرارة الجو في الصيف تتلف الأعصاب وتؤدي إلى كثرة المشاجرات والخلافات الزوجية ..وهذا صحيح في أحد وجوهه ..ولكن الطب النفسي يقول لنا الآن إن حرارة الجو ولهيب الشمس ..والجو الصحو المنطلق , أكثر ملائمة للصحة النفسية وأفضل كثيراً لحالة الإنسان المعنوية , وأن خلافاته انفجارات مؤقتة لا تترك آثاراً غائرة في نفسية الإنسان ..ولا تسمح له بالتعرض للاكتئاب , و في كل الأحوال فإن سجن البيت والاكتئاب أكبر خطراً على النفس من آثار التعرض لشمس الصيف ..أو أمطار الشتاء .

ولقد أدرك ذلك كثيرون قبل اكتشاف هذه الحقيقة , فكان الفيلسوف الألماني " كانت " يخرج كل يوم في الثالثة والنصف من بيته بمدينة كينجزبرج في نزهة يومية ومن خلفه خادمه العجوز " لامب " يحمل في يده مظلة يحمي بها سيده من مطر الشتاء , وكان " كانت " يحافظ على هذا الموعد اليومي المقدَّس مهما كانت رداءة الجو أو برودته , حتى كان ظرفاء المدينة إذا رأوه يغادر بيته في موعده اليومي ضبطوا ساعاتهم على الثالثة والنصف !
وحافظ الفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي عاش حياته وحيداً على 3 مواعيد مقدسة في حياته لا يتنازل عنها أبداً مهما كانت حالة الجو أو حالته هو الصحية ..موعد الخروج من بيته للغداء في فندق انجلترا , ثم موعد الـ 5 مساء للنزهة لمدة نصف ساعة بخطوات سريعة مع كلبه ..ثم موعد العشاء بعد إعادة الكلب للبيت في نفس الفندق , وظل ملتزماً بهذه المواعيد الـ 3 حتى مات بعد أن تخطى الـ 70 رغم برودة الجو في بلدته ..
والأديب الفرنسي العظيم أناتول فرانس كان له أيضاً موعد مقدس يحرص عليه كل يوم صيفاً وشتاءً , هو الخروج في الأصيل والذهاب إلى حديقة اللوكسمبورج لمشاهدة الناس والفتيات الجميلات ..فإذا كان الجو ممطراً والحديقة خالية تمشَّى في ممراتها بعض الوقت محتمياً بمظلته , ثم يعود إلى بيته .
وأديبنا العظيم نجيب محفوظ كان – رحمه الله – يحرص على مغادرة بيته كل يوم في الصباح الباكر , مهما كانت حالة الجو ليذهب إلى المقهى , ويشاهد الناس والحياة من وراء زجاجه أو إلى مكتبه بالأهرام للالتقاء بالأصدقاء والزوار , وقد كان يقوم بهذا المشوار كل يوم مشياَ على قدميه وحين تخطى الـ 80 أصبح يكتفي بالخروج راكباً لمدة ساعتين كل صباح يتواصل خلالهما مع الحياة .
وهؤلاء جميعاً وغيرهم من الأعلام .. والبسطاء نفذوا وينفذون نفس هذه الروشتة الحديثة التي يقدمها لنا علم النفس الحديث , فإذا كان الأمر كذلك يا صديقي فاخرج أنت أيضاً في الجو العاصف ولا تستسلم لتجهم الجو حولك ..ولا تسجن نفسك داخل جدران بيتك أياماً طويلة خوفاً من البرد والمطر , فلأن تشكو من لفحة برد أرحم كثيراً من أن يتسلل اكتئاب الشتاء فيملأ روحك بالحزن الغامض ..والشجن ! 

وإذا كان هناك من يستحقون الإشفاق حقاً ..فهم هؤلاء الذين يعجزهم المرض عن مغادرة بيوتهم ..فيزيد سجن الشتاء من إحساسهم بسجن المرض ووطأته ..عافاك الله من كليهما ..وحمى الإنسان في كل زمان ومكان من الوحدة .. والمرض وأحزان الشتاء .
نشرت في كتاب أعط الصباح فرصة "عبد الوهاب مطاوع"

راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات