قتل الفرحة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999
إن افتقاد التقدير هو الصخرة التي تتحطم عليها معظم العلاقات الزوجية، والعلاقات الإنسانية بوجه عام ، والميل للانتقاص من أقدار الآخرين ومن قيمة عطائهم وجهدهم ، وعدم التحاور معهم في مشاعرهم واعتزازهم بما حققوا لأنفسهم وأسرهم من إنجازات ، هو الترجمة الأمينة لشكوى الكثيرين من افتقادهم التقدير الذي يرون أنفسهم جديرين به من جانب شركاء الحياة.
عبد الوهاب مطاوع
أنا شاب نشأت في أسرة مكافحة بين إخوة كثيرين .. وبفضل من الله وبجهد أبي المكافح - أطال الله عمره - وجهدنا أنهينا كلنا تعليمنا الجامعي وخرجنا إلى الحياة نواصل رحلة الكفاح الشاقة فيها ، وعقب تخرجی فی کلیتي ارتبطت بخطبة ابنة أحد أقاربي الميسورين نسبيا بالمقارنة بحالنا واتفقنا على الشبكة ، وجاهدت أنا في الحياة لتوفير قيمتها وتوفير المسكن الملائم في حدود إمكاناتي البسيطة ، وبعد عمل متصل ليل نهار لعدة سنوات في أكثر من مكان وفي كل ما يخطر لك على بال ، استطعت الحصول على شقة صغيرة من حجرتين وصالة في حي شعبي في أطراف المدينة ، كما استطعت أيضا شراء الشبكة وتقديمها لخطيبتي ، وشراء الأثاث المناسب في حدود قدرتي ، وكنت كلما وفقني الله - سبحانه وتعالى - إلى تحقيق شيء من ذلك ، وهو بالنسبة لي من المعجزات ، كنت أتوجه إلى بيت خطیبتي سعيدا مبتهجا لأزف إليها وإلى والدها الخبر لكي يشاركاني الفرحة بما وفقني الله إليه بالرغم من تعثر ظروفي ، فكنت أفاجأ في كل مرة بما يقتل الفرحة في داخلي ويشعرني بالعجز والإحباط ، فالشبكة بالرغم من الاتفاق على قيمتها يقال لي عنها أهذه هي الشبكة التي تتيه فخرا بها ؟ والشقة التي كافحت كفاح الأبطال للحصول عليها : يقال لي عند رؤيتها : أهذه هي الشقة التي ملأت الدنيا حديثا عنها ! إنها ضيقة وفي حي شعبي غير لائق .
وهكذا في كل شيء فعلته .. أو قدمته .. وبدلا من أن تشارکني خطيبتي ووالدها فرحتي بنجاحي في أن أتلقى التهنئة والتشجيع مضطرا للاعتذار عنه وعن ضيق الإمكانات وأشعر بالبؤس والاختناق .
ثم اقترب موعد الزفاف المتفق عليه ، فإذ بوالد خطيبتي يفاجئنی بقراره بتأجيل الزفاف 4 سنوات كاملة حتى تنتهي خطيبتي من دراستها ومع أن دراستها نظرية ولا تتطلب التفرغ التام ، وحتى - وهو الأهم - أستطيع التخلص من الشقة التي قمت بتأثيثها وتوفير شقة أخرى أوسع وفي حي أفضل، وتغيير الأثاث الذي اشتريته بالعرق والكفاح والحرمان وشراء أثاث آخر أرقی ، وأسقط في يدي وشعرت بأن الفرحة قد ماتت نهائيا في قلبي ، وأنني مهما فعلت فلن أستطيع أبدا أن أنال الرضا والقبول من خطیبی ووالدها، وعقد الحزن لساني ورجعت إلى بیتي مهموما ، ورويت لأبي ما حدث ، فارتسم الحزن العميق على وجهه وتندت عيناه بالدمع المؤلم وقال لي إنه آسف أشد الأسف لأنه لم يستطع مساعدتي في الزواج ، وأنه لو كان يملك أن يبيع إحدى كليتيه أو كلتيهما ، لكي يساعدني بقيمتيهما ويخفف عني هذا الإحساس المؤلم بالعجز والفقر لما تردد في ذلك لحظة واحدة فانهمرت دموعي، ليس حزنا على خطيبتي وإنما عطفا على أبي الطيب المكافح الذي حرم نفسه من كل شيء ليوفر لي ولإخوتي الطعام والمأوى والتعليم ، وأدى رسالته معنا على خير وجه ، ونهضت إليه فقبلت رأسه ويديه وانحنيت على قدمه لأقبلها فمنعني بالقوة ، وقلت له إنه أعظم أب في الوجود وإنني فخور بأنني ابنه وبأنه أبي، وأن المشكلة ليست فيه ولا في ظروفنا لأننا أفضل حالا من كثيرين غيرنا ، لكن المشكلة في الطرف الآخر الذي لم يقدر لي كفاحی و استقامتی وحرصی على ألا أقترب من الحرام .
وفي هذه اللحظة عزمت على فسخ خطبتي وتركت خطیبتي لمن يملك أن يحقق لها ولوالدها ما يطمحان إليه ، واحتسبت عند ربي قيمة الشبكة والهدايا التي قدمتها لخطيبتي ورفض والدها إعادتها لي بحجة أنني التارك وليست ابنته ، مع أنه هو الذي اضطرني اضطرارا إلى تركها لعجزي عن تحقيق مطالبها ومطالبه ، وواصلت طريقي في الحياة وواصلت العمل ليل نهار ، وبدأت أكون من جديد بعض المدخرات الصغيرة وبعد فترة من الزمن تعرفت على رجل فاضل ليس من أقاربي لكننا تقاربنا سريعا ، ولاحظت أن ظروفه العائلية والمادية أفضل كثيرا من ظروفنا ومن ظروف قريبي الذي أشعرني بالإحباط القاتل .. وعرفت أن له ابنة في سن الزواج ففكرت في التقدم إليها لكني تردد في ذلك خوفا من مواجهة الرفض والاعتذار لضعف قدراتي، ثم تشجعت ذات يوم وصارحته برغبتي وأسباب ترددي ، فإذا بالبشر يعلو ملامح الرجل وإذا به يرحب بي بحرارة ويقول لي إنه قد بدأ حياته الزوجية بالاقتراض والسلف وعانی الحرمان سنوات طويلة حتى أفاء الله عليه بالرزق الحلال ، وأنه يرحب بأن يعطي ابنته لشاب مستقیم ومتدين وقادر على الكفاح لكي يعرف لابنته قدرها ويقدر لها كفاحها معه وصبرها على ظروفه في البداية ، وهي ظروف مألوفة لدى كل شاب في بداية حياته ، وانتهى اللقاء بالقبول ورأيت ابنته فإذا بها أجمل من فتاتي السابقة وأكثر تعليما ونسخة أخرى من أبيها في السماحة والرضا والقناعة ، وتمت الخطبة فشهدت قبلها وبعدها صورة مختلفة تماما لكل ما آلمني في تجربتي السابقة ، فالشبكة التي أحضرتها وكانت أقل في قيمتها من شبكة خطيبتي السابقة بدت في نظر خطيبتي الجديدة ووالدها ووالدتها وكأنها من الجواهر الثمينة ، وراحوا يتناقلونها في أيديهم ويبدون إعجابهم بها ويشكرونني عليها حتى طفر الدمع من عيني ، وكل هدية أقدمها لخطيبتي أرى لها في وجهها شهقة کشهقة الفرحة الطاغية ، وكذلك من والدتها ووالدها وكأنني قد صنعت المعجزات ، أما الشقة التي لامني عليها قریبی وابنته ، والأثاث الذي وضعته فيها فقد كان موضع ثناء خطيبتي ووالدها بالرغم من شعوری بالحرج لعدم تناسبها مع بیت خطيبتي ، وبالرغم من ذلك فقد أقسمت لخطيبتي ووالدها بأنني سوف أشق الصخر لكي أستطيع استبدال هذه الشقة والحصول على شقة أوسع وفي مكان أفضل في أقرب فرصة ، ولم يعلق والد خطيبتي على هذا الوعد سوى بتردیده للآية الكريمة : "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" وقبل موعد الزفاف فوجئت بوالد خطيبتي وبغير أية إشارة منه إلى نيته يهديني صالونا فاخرا توارى إلى جانبه الصالون الذي اشتريته ، وتم الزفاف وسط فرحة الجميع .. وكشفت لي الأيام التالية عن معدن زوجتي وأصلها ، فإذا بی أجد إلى جواري إنسانة طيبة راضية النفس تقدر لي كل شيء أفعله وتشعرني بأن قامتی تطاول السماء ، وأنها فخورة بي وبكفاحي في الحياة .
وكاتب هذه الرسالة أقول :
الرضا لمن يرضى يا صديقي والسخط لمن يسخط ، هذا هو ما تقوله لنا رسالتك وما ينبغي لنا أن نستخلصه منها ، فالإنسان إنما يستمد الجزء الأعظم من سعادته مما يسميه الكاتب الأمریکی ولیم شیرر حياته الداخلية، وليس من حياته الخارجية أو من مؤثرات الواقع الخارجي . ومن المؤكد أن المرء لا يسعد بالجماد المحيط به وإنما بالإنسان الذي يتبادل معه العطف والحب والاهتمام والحنان ، ولهذا فكم شقی بشر تهیأت لهم كل مقومات الحياة الخارجية الملائمة، ولم تتوافر لهم في الوقت نفسه أسباب السعادة الداخلية، وهي في كلمة مختصرة الرضا والاستعداد النفسي للابتهاج بالحياة ، والميل لإنصاف الآخرين وتقدير عطائهم والاعتراف لهم بالجدارة والاستحقاق ، ومنذ قديم الزمان قال الإمام الفقيه ابن القيم الجوزيه : إن الرضا هو سكون القلب تحت مجارى الأحكام.
ولقد شاءت لك أقدارك أن تتعامل مع نموذجين مختلفين من البشر احدهما يفتقد الرضا ويبخل على الشريك بالتقدير الذي يستحقه والتشجيع النفسي الذي يحفز الهمم ويدفع إلى تقديم المزيد من العطاء ، وثانيهما يتمتع بالقدرة على الرضا والابتهاج بالأشياء مهما كانت متواضعة ، ويشعر الشريك بقيمة ما يقدمه إليه واعتزازه بكفاحه في الحياة وعطائه له ، ويسخو عليه بالعطف الإنساني الذي يعوضه عن مرارة الكفاح ويجدد لديه الرغبة في مواصلته لتحقيق الأهداف ، ولهذا
فلقد كان منطقيا أن تفشل تجربتك مع النموذج الأول ، وأن تنجح التجربة وتؤتي ثمارها مع المثال الآخر ولقد سئل خبير أمریکي في الاستشارات الأسرية عن أهم أسباب انهيار الحياة الزوجية في الوقت الحالي فأجاب بعبارة مختصرة : إن هذه الأسباب كثيرة ومتعددة لكن أكثرها تدميرا للعلاقة الزوجية هو افتقاد أحد الطرفين للتقدير الذي يستحقه من جانب شريك الحياة ! ولم يكن الخبير مبالغا فيما قال ، فافتقاد التقدير هو الصخرة التي تتحطم عليها معظم العلاقات الزوجية، والعلاقات الإنسانية بوجه عام ، والميل للانتقاص من أقدار الآخرين ومن قيمة عطائهم وجهدهم ، وعدم التجاور معهم في مشاعرهم واعتزازهم بما حققوا لأنفسهم وأسرهم من إنجازات ، هو الترجمة الأمينة لشكوى الكثيرين من افتقادهم التقدير الذي يرون أنفسهم جديرين به من جانب شركاء الحياة ، وخطورة هذه الآفة هي أنها قد تمهد الأرض لدى أحد طرفي العلاقة الزوجية للترحيب بما يفتقده في حياته الشخصية من التقدير ، إذا تلقاه من طرف خارجی ويعمق لديه ذلك الإحساس بالغبن وبالمفارقة المؤلمة بين ما يشكو منه من میل شريك حياته للانتقاص من جهده وعطائه وقتل الفرحة داخله بكل ما يحققه من أهداف وإنجازات ، وبين ما يجده من إنصاف الآخرين لعطائه وجهده فتكون النتيجة في بعض الأحيان هي أن يتعمق لديه الإحساس بالغبن في علاقته بشریکه ، وأن يزداد استعداده للضعف والتجاوب مع من يشعره بجدارته واستحقاقه و مميزاته ..فالحمد لله الذي أنقذك من مكابدة هذا الإحساس المرير بالعجز عن إرضاء شريكة الحياة مهما فعلت أو حققت من أهداف طوال رحلة العمر ، وشكرا للأقدار الرحيمة التي شاءت لك أن تجمع بينك وبين من ينصفونك ويشعرونك بالجدارة والاستحقاق ، وبأنك تحقق لهم المعجزات بجهادك وكفاحك الشريف في الحياة ، وأرجو أن يستوعب الآباء والفتيات والشباب مغزى رسالتك هذه وأن يستفيدوا بها في حياتهم وتجاربهم الشخصية مع الآخرين ومع أنفسهم .. والسلام.
*نشرت في
جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1999
كتبها من
مصدرها وأعدها للنشر / نيفين
علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر