الحصاد المر .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003

 الحصاد المر .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003

الحصاد المر .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003

إن المشكلة هي أن بعض الأبناء يريدون أن يبدأوا حياتهم مما انتهت إليه حياة آبائهم بعد كفاح السنين الطويلة‏.

عبد الوهاب مطاوع

 أنا واحد من الآباء الذين يضحون من أجل أبنائهم يقبضون على جمر النار طوال حياتهم لإسعادهم .

وسأبدأ قصتي من النهاية وأنا أحاول العدل بين ابنين أحدهما يدرس الدكتوراه في أمريكا والثاني يشغل وظيفة متميزة هنا‏,‏ ويقطن معي فقد حاولت تحقيق العدل المادي بينهما فأهانني الابن المقيم معي وقال لي بالحرف الواحد أنت أب فاشل‏..‏ فشلت في حياتك وفشلت مع أولادك ومع زوجتك‏..‏ التي هي أمه‏..‏ وتلت ذلك مناقشة حادة بيننا حول مفهوم العدل لديه فهو يطلب لنفسه قطع الذبيحة الممتازة ويريد أن يترك لأخيه القطع الرخيصة والذبيحة هي أنا رغم أنه لم يحن بعد أوان ذبحها‏!‏ وانتهى النقاش الحاد بيننا بتطاول جارح يعف لساني عن طرحه على القاريء‏..‏ لكنها كلمات أشعلت داخلي رماد الماضي ليتحول إلى نار تحرقني من الداخل وتصيب مشاعر الأبوة لدي في مقتل وأنا أسأل نفسي هل هذه هي نهاية المطاف لرحلة استغرقت معه فيها أكثر من سبعة وعشرين عاما كنت خلالها نعم الأب الذي يحنو على أولاده ولا يألو جهدا في إسعادهم ومساعدتهم حتى أكملوا تعليمهم وحصلوا على مؤهلاتهم العليا ولم يتخاذل أو يتهاون وهو يبذل العطاء بسخاء وهم أطفال وهم كبار ولم يقصر في واجبه نحوهم‏..‏ نعم لقد واجهتني صعوبات ومحن وأزمات لكنني اجتزتها وخرجت منها سالما ولم أتخل أبدا عن واجبي نحوهما‏..‏ فساعدت ابني الذي سافر ليحصل على الدكتوراه في السنوات الأولى حتى استقر وحصل على عمل‏..‏ وعندما طلب مني الابن الثاني العاق أن يخطب‏,‏ اخترنا له فتاة من أسرة كريمة وقدمت له الشبكة واشتريت له شقة تمليك في إحدى المدن الجديدة ورتبت أموري على تجهيزه وفي النهاية فأنا الأب الذي يوصم بالفشل لا لسبب إلا لأنني حاولت تحقيق العدل بينه وبين أخيه الغائب منذ ثلاث سنوات‏.‏

إن قصتي محيرة وهي ليست محصورة فقط في محاولتي تحقيق العدل‏,‏ بل هي أيضا قضية الابن الذي يعيش عالة على أسرته حتى بعد التحاقه بوظيفة فلا يساعد في مصروف البيت‏..‏ وإنما يحصل على مصروف إضافي من أبيه ويبتز أمه فتدفع له قيمة كارت المحمول شهريا ومصاريف دراسة الدبلوم والكتب ولا يفعل أي شيء إلا أنه يأخذ‏..‏ لم يعط في يوم من الأيام وقد أحضر لي في مناسبة عيد ميلادي محفظة ثم أخذها مني بعد ذلك‏..‏ لم يتعلم العطاء وكل ما يهمه استغلال كل من هم حوله‏..‏ رغم هذا فهو غير راض عن المستوى الذي يعيشه ويريد أن يقتني لنفسه سيارة وشقة أكبر من تلك التي اشتريتها له ويعاتبني بقسوة على أني لم أكن لصا أقتني من المال الحرام لأولادي السيارات والفيلات وعندما أحادثه عن الشرف والنزاهة والأمانة والعفة يجيبني هذه شيمة العجزة فأشعر بغضب شديد ليس لأنه تفوه بهذه الألفاظ بل لأنني عجزت عن تقويمه ولا أدري كيف نبتت تلك النباتات الشيطانية في أرضه الطيبة‏,‏ فلقد علمته الحرية المسئولة وعلمته المثل والمباديء وكل هذا ضاع‏..‏ ولم أعد أجد له أثرا‏.

وكيف يكون فاشلا الأب الذي وصل بأسرته لبر الأمان وله ابن يدرس الدكتوراه وآخر يدرس الدبلوم بعد مؤهله العالي‏..‏ وكيف يكون فاشلا من ظل مرتبطا بزوجته أكثر من خمسة وثلاثين عاما‏..‏ إنني فاشل من وجهة نظره لأنني لم أوفر له في شبابه الرفاهية من سيارة وفيلا في الساحل الشمالي وشقة في المهندسين وإيرادا ثابتا‏..‏ لهذا فأنا فاشل في نظره وعندما أواجهه بسؤالي إذا كان هذا دوري فما دورك أنت‏,‏ يعجز عن الإجابة‏..‏ ونتيجة للاحتكاك الدائم والمستمر نشأ جدار من الكراهية بيننا‏..‏ والسبب ليس خافيا على الأذهان فهو يطلب ما لا أستطيعه بعد أن تحول إلى أحد النباتات المتسلقة التي تحصل على غذائها من شجرة في الجوار بل وتلومها لأنها تضن عليها بالغذاء‏!!‏ إنني أعترف بالخطأ الذي ارتكبته وهو أنني دللته فعاش حياة مدللة في طفولته‏..‏ لو طلب مني لبن العصفور لأتيت به إليه وعندما بلغ سن المسئولية لم يقو على مواجهتها لهذا أحذر الآباء من التدليل فهو الخطيئة التي يرتكبها البعض في حق أبنائهم والخطيئة التي تعلم الطفل الأنانية فلا يحب سوى نفسه ويتحول أبواه إلى بقرة حلوب فإذا ما حجبت اللبن عنه هوي عليها بسياط التأنيب والتوبيخ والاهانات‏..‏ هذه الأنانية هي

التي حرمت ابني من التمييز بين ما له من حقوق وما عليه من واجبات واختلطت لديه المفاهيم فأصبح متعذرا عليه الفصل بين المعنيين‏.‏


لقد عانيت كثيرا نتيجة لتدليله‏.‏ ورفضه تحمل المسئولية فهو يريد كل شيء على الجاهز‏..‏ وشب يخطو في بركة من الفوضى‏..‏ حاولت‏..‏ أن أحاصر تلك الظاهرة بكل ما أوتيت من خبرة وثقافة‏.‏ حاولت أن أعلمه الاعتماد على نفسه‏..‏ لكنه ظل شاردا عني كبعير في صحراء جرداء‏..‏ لا يجد سعادته إلا في تحقيق رغباته‏..‏ قد تسألني وهو سؤال مشروع‏..‏ لماذا إذن دللته في طفولته حتى وصل إلي هذه الحال؟‏!‏ إنها يا سيدي عقدة الحرمان لدي التي أصبت بها في طفولتي عندما اختطف القدر أمي وأنا في الثامنة من عمري‏..‏ فلقد قاسيت الحرمان مع ثلاث من شقيقاتي البنات غلاظ القلوب‏..‏ وأب مقتر ثري‏,‏ أرتدي طوال الصيف جلبابا واحدا أغسله ثم أنشره وأنتظره حتى يجف ونتيجة هذا الحرمان تولدت لدي عقدته وقررت أن أتخلص منها عندما أستطيع ذلك‏..‏ وفعلت ذلك مع أولادي فما حرمت منه أعطيتهم إياه‏..‏ لهذا دللتهم‏..‏ وأعطيتهم وكانت هذه هي النتيجة‏,‏ العقوق والتجريح والسباب إنني بعد كل جدل مع ابني أسأل نفسي من منا على حق ومن منا على باطل؟‏!‏ لقد فعلت الكثير من أجلهم‏.‏ ولم أضن عليهم بشيء‏..‏ فهل كنت على باطل وأنا أعوض حرماني بالعطاء لهم‏..‏ هل حقا فشلت‏,‏ ودليل فشلي هذا الابن العاق الذي يوجه إلي اهاناته‏..‏ نعم أنني أستطيع طرده من البيت لكن أخشى عليه من رفاق السوء‏..‏ ثم كيف أفعل ذلك وأنا الذي عانيت في طفولتي‏..‏ لقد تحول ابني إلى عدو شرس لأنني لا أحقق له مملكته الخرافية‏..‏ لقد هددني ذات مرة بالانتحار حين أردت إرجاء التفكير في زواجه بعض الوقت أملا في انتظام أمورنا المالية وانتظامه هو الآخر واستقراره في وظيفته التي لم يكن يتعدى عمرها في ذلك الوقت سوى شهور‏..‏ لم آبه لتهديداته‏..‏ فأنا أعرف أنها تهديدات جوفاء ورغم ذلك فقد ساعدت تلك التهديدات على تباعد الشقة بيني وبينه‏..‏ إنني أحصد المرارة وأنا أعيش مع ابني الذي يريد لي الموت ويتحين الفرصة حتى يراني داخل نعش‏..‏ أهذا هو جزاء الأبوة‏..‏ أن تكون نهايتنا أمنية أقرب الناس إلينا؟‏!‏ هل هذا مصير الآباء أن يدفعوا ثمن تضحياتهم أمنيات للموت من أبنائهم‏..‏ لا أنكرك القول إنني تحت وطأة تلك الضغوط أوافق على أمور أعرف أنه لم يحن وقت إثمارها‏..‏ خوفا من الفضيحة‏..‏ وخوفا من أن ألجأ للوسيلة الوحيدة التي أمامي وهي القانون الذي سينصفني من هذا الظلم الذي تدق مطرقته على شيخوختي‏..‏ لقد فكرت أن أهجر أسرتي فلم أعد أطيق الحياة معهم‏..‏ خاصة بعد أن تشبعت زوجتي بأفكار ابني‏.‏ وآخر تهديداته لي إن لم أنفذ له مطالبه أن يترك خطيبته‏!‏ فماذا أفعل؟


ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏

لا تهجر بيتك‏..‏ ولا تستجب لتهديدات ولدك‏..‏ ولا تتجادل معه في شيء‏..‏ ولا تسمح له بأن يتطاول عليك بكلمة واحدة‏..‏ وإنما تمسك بموقفك في تحقيق العدل بينه وبين شقيقه‏.‏ وحدد إسهامك في مشروع زواجه بما يتفق مع قدراتك ومع العدل وأبلغه به‏..‏ وأكد له أنك لن تزيده درهما واحدا مهما فعل أو هدد فإذا أراد هو إمكانات الحياة اللذيذة من سيارات وفيلا بالساحل الشمالي وتكاليف باهظة للزواج الفاخر فليتفضل هو بتوفير كل ذلك لنفسه ومن كده وعرقه‏..‏


إن المشكلة هي أن بعض الأبناء يريدون أن يبدأوا حياتهم مما انتهت إليه حياة آبائهم بعد كفاح السنين الطويلة‏..‏ ويرفضون أن يبدأوا حياتهم كما بدأها هؤلاء الآباء أنفسهم قبل أربعين عاما لكي يصلوا إلى ما حققوه بعد رحلة الكفاح‏..‏ وهذه هي قمة الأنانية وعمى البصيرة إذ لابد أن يكون هناك فارق في مستوى الحياة بين من يبدأ رحلته الآن ومن بدأها منذ ثلاثين أو أربعين عاما‏..‏ ومن العدل أن يبدأ الصغير صغيرا ثم ينمو ويكبر‏,‏ فيشعر بما حققه في حياته من نجاح مطرد‏..‏ ويعرف قيمة الأشياء ويحترمها ويمر بمراحل الحياة الطبيعية من الكفاح إلى الكفاية‏..‏ إلى الوفرة إلى الرفاهية‏..‏ أما محاولة اختصار هذه المراحل والقفز إلى الرفاهية على حساب الآباء والأمهات فهو ضد المنطق‏..‏ ولا يقدم للحياة رجالا يؤتمنون على أسرهم أو يعرفون جدوى الكفاح والاجتهاد لتوفير مطالب الأسرة‏.‏


لقد اعترفت بخطئك في تدليل هذا الابن العاق حتى نشأ أنانيا لا يرى سوى نفسه‏..‏ ولا ينشغل إلا بمطالبه‏..‏ ولا يتورع عن الإساءة لأبيه لعجزه عن تلبية طموحاته‏..‏ أو لالتزامه بالعدل بينه وبين شقيقه‏..‏ وهو حصاد مر بالفعل‏..‏ لكن أوان الإصلاح لم يفت بعد‏..‏ ولا وسيلة لتحقيقه الآن إلا بالحزم‏..‏ والعدل الذي يضمن للجميع حقوقهم ولا يبخس أحدا حقا‏..‏ فإذا لم يرض ولدك عن ذلك فليفعل بحياته ما يشاء وإذا تجاوز حدوده معك فلا تتسامح معه أبدا‏..‏ ولا تتجاوز عن إساءته‏..‏ أو تتغاض عنها‏!‏

 *نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2003

كتبها من مصدرها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات