الدوامة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001

         الدوامة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001

الدوامة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001


حين يصر إنسان على أن يلقي بنفسه في الدوامة كل حين فإن من أنقذوه في المرات السابقة يفقدون حماسهم للتدخل من أجله‏,‏ ولا يرون أنفسهم مطالبين بتعريض أنفسهم للتهلكة من أجل من لا يبذل هو نفسه أي جهد من جانبه للابتعاد عن الخطر‏..‏ وإنما يدمن القفز إلى قلب الدوامة بقدميه ثم الصياح بعد ذلك طالبا الغوث والنجدة‏!‏
عبد الوهاب مطاوع

أنا سيدة في الثانية والأربعين من عمري‏,‏ متزوجة ولي ولد في الصف الثالث الإعدادي وابنة في الخامسة‏,‏ وأعمل بوظيفة حكومية وموفقة في عملي وحصلت على العديد من الميداليات وشهادات التقدير‏,‏ وزوجي متدين ويحبني ويخلص لي وأنا أحبه وأخلص له‏,‏ وليس لدي أية مشكلة من هذه الناحية‏,‏ لكن مشكلتي هي أنني كثيرة السلف من هذه وتلك وكتابة الكمبيالات بما اقترضه ولا أقوم بسدادها‏,‏ وأشتري أدوات كهربائية بالتقسيط وأدفع مقدم الثمن ثم أبيعها بأرخص الأسعار لكي أحصل على نقود سائلة وأسدد بعض ديوني‏,‏ فكانت النتيجة أن تراكمت علي الأقساط والديون حتى وجدت نفسي ذات يوم مهددة بالسجن واضطر زوجي لأن يسدد عني مبلغ عشرين ألف جنيه جمعها من كل مكان لكي ينقذني‏,‏ وبعدها أقسمت ألا أقترض من أحد مهما تكن الأسباب وان أنظم حياتي في حدود إمكاناتي والتزمت بذلك بالفعل لفترة ثم وجدتني شيئا فشيئا أقترض من جديد‏..‏ وأنفق بلا نظام‏,‏ فأنفق في يوم واحد مثلا مائة جنيه‏..‏ ثم لا أجد في اليوم التالي سوى جنيهين أو ثلاثة‏..‏ ورجعت مرة أخرى لشراء الأدوات الكهربائية وبيعها بثمن رخيص حتى تجمع علي من جديد مبلغ سبعة آلاف جنيه‏..‏ ولا أحد يريد أن يقف إلى جانبي هذه المرة وزوجي لا يملك شيئا وليس لدي أي شيء أبيعه ولا مورد لي غير وظيفتي‏,‏ وقد تخلى عني الجميع وابتعدوا وبعضهم يقول عني أنني مجنونة‏..‏ والبعض الآخر يقول إنني أعرف شخصا آخر أنفق عليه هذه النقود التي اقترضها‏,‏ وأنا ليس في حياتي سوى زوجي وبيتي وأولادي‏,‏ وليس لي أصدقاء أزورهم ويزورونني أو أقارب أتودد إليهم‏,‏  بل إنه حتى أخوتي قد أصبحت علاقتي بهم سطحية بسبب المشاكل التي أجرها عليهم بسبب السلف‏!‏
وأنا أتمنى أن أعيش حياة هادئة بلا مشاكل وأريد أن تعرض مشكلتي هذه على طبيب نفسي‏,‏ لأنها بدأت عندي منذ عشرين عاما قبل أن أتزوج وكان أبي يقوم بحل مشاكلي‏..‏ أما الآن فإني وحدي وسط هذه الدوامة‏,‏ ولا أحد يمد يده لانتشالي منها‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏ 

حين يصر إنسان على أن يلقي بنفسه في الدوامة كل حين فإن من أنقذوه في المرات السابقة يفقدون حماسهم للتدخل من أجله‏,‏ ولا يرون أنفسهم مطالبين بتعريض أنفسهم للتهلكة من أجل من لا يبذل هو نفسه أي جهد من جانبه للابتعاد عن الخطر‏..‏ وإنما يدمن القفز إلى قلب الدوامة بقدميه ثم الصياح بعد ذلك طالبا الغوث والنجدة‏!‏
وهذا هو حال من يستسلم لمثل هذا الإسراف المرضي دون أية مقاومة من جانبه له‏..‏ ولا محاولة للإصلاح أو طلب العلاج أو كف النفس عن الاستسلام له‏.‏
فكما أن البخل الشديد نوع من الانحراف النفسي فإن الإنفاق بغير وعي‏..‏ وبما لا يتناسب مع إمكانات الفرد هو نوع آخر من الانحراف النفسي يسميه المختصون بالإسراف المرضي أو شبه القهري‏..‏ وفيه يستسلم الإنسان للرغبة في الإنفاق‏..‏ ويتسرب المال من يده وهو يشعر بما يشبه العجز عن قبضها تماما كمن يسير في طريق يعرف جيدا أنه يؤدي به إلى الهاوية‏,‏ ومع ذلك فهو يمضي فيه إلى نهايته المحتومة‏..‏ وبعض علماء النفس يدرجون من يعاني هذا الاضطراب في إطار الشخصية السيكوباتية التي تطلب المصلحة الذاتية أو اللذة أو المتعة من أي طريق يحقق لها ذلك بغض النظر عن تعارضه مع الحق والعدل والواجب‏..‏ وبغض النظر أيضا عن العواقب الوخيمة لذلك‏.‏
ولاشك في أنك في حاجة إلى إعادة النظر في حياتك كلها‏..‏ والعيش في حدود دخلك مهما يكن حجمه‏..‏ والاستعانة على ذلك بالإرادة وتدبر عواقب الإسراف الوخيمة‏..‏ والتعفف عن مد اليد للآخرين مهما تكن الأسباب‏..‏ والعلاج النفسي إذا تطلب الأمر ذلك‏.
نشرت عام 2001 في باب بريد الجمعة 
نقلها من أرشيف جريدة الأهرم وراجعها / نيفين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات