الحلم الغريب .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

                             الحلم الغريب .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

الحلم الغريب .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002

 قديما قال بن عطاء الله السكندري‏:‏ قال أهل المعرفة‏:‏ من لم يدبر دبر له‏!‏.. وقال أيضا في دعائه‏:‏ اللهم أشهدنا من حسن اختيارك لنا ما يجعل ما تقضيه فينا وتختاره لنا أحب إلينا من مختارنا لأنفسنا‏.

عبد الوهاب مطاوع

 

 أنا سيدة متزوجة منذ خمسة عشر عاما ولم ينعم علي الله بالإنجاب‏,‏ ولقد عشت مع زوجي حياة هادئة وصبرنا معا على أقدارنا التي حرمتنا من نعمة الأطفال‏..‏ إلى أن تزوج أخي منذ عام واحد فتاة عطوفا متدينة ونحيلة الجسم‏..‏ فأحبها أخي وسعد بها‏,‏ وأحببتها كذلك لطيبتها وحنانها‏,‏ وأحبها والدي أيضا ووجد فيها نعم الزوجة لابنه‏,‏ وبعد فترة قصيرة من الزواج حملت زوجة أخي‏..‏ وسعد الجميع بهذا النبأ‏,‏ وترقبت أنا بلهفة موعد ولادتها‏..‏ وأنا أتخيل شكل المولود القادم‏..‏ وكم سأحبه‏..‏ وكم سأدلله‏..‏ وكيف سأصبح‏‏ أما ثانية له بعد أمه الطبيعية‏..‏ وأحدث زوجة أخي بذلك فتقول لي صادقة إن الله سبحانه وتعالى قد أنعم عليها بصحبتنا لها‏,‏ لأننا نعاملها بأفضل مما يعاملها به الأهل‏..‏ وفي الأسابيع الأخيرة من حملها روت لي أنها قد رأتني في الحلم أساعدها على ارتداء الفستان الأبيض وطرحة الزفاف‏,‏ وأن هذا الحلم قد تكرر أكثر من مرة مع اقتراب موعد الولادة‏,‏ فضحكت لهذا الحلم الغريب‏،‏ وقلت لها أنه حلم مستحيل لأنها قد تزوجت أخي بالفعل وارتدت الثوب الأبيض وطرحة الزفاف‏,‏ لكنها كررت علي روايتها لهذا الحلم بعد ذلك عدة مرات وأكثرت من الحديث عنه بلا داع إلى أن شغلنا باقتراب موعد الولادة والاستعداد لاستقبال المولود السعيد‏,‏ إلى أن شعرت زوجة أخي بمقدمات الولادة وأسرعنا بها إلى المستشفى ‏..‏ ودخلت غرفة الجراحة‏..‏ ووضعت مولودة جميلة تشبه أمها في كل ملامحها‏..‏ لكنها صغيرة الحجم عن المعتاد وفسرنا نحن ذلك بنحافة الأم الشديدة‏,‏ وقيل لنا إنها ستوضع في الحضانة لبضعة أيام قبل أن نستطيع اصطحابها معنا إلى البيت‏..‏ وخلال ذلك خرج إلينا الطبيب الذي أشرف على ولادة زوجة أخي منفعلا‏,‏ وقال لنا إنها أشرفت على الهلاك أكثر من مرة خلال العملية‏,‏ لأن قلبها ضعيف ورئتها ليست سليمة‏..‏ وأن هذه الزوجة لم تكن تحتمل الحمل والإنجاب من الأصل‏,‏ ونزل علينا كلامه كالصاعقة‏..‏ وشعرنا بالأسف لهذه الشابة الرقيقة‏..‏ ورجعنا بها إلى البيت بعد يومين وتركنا الطفلة في الحضانة لتستوفي فترتها‏..‏ ودعونا لها من قلوبنا بأن تستعيد عافيتها سريعا لتستطيع رعاية مولودتها‏..‏ لكن حالتها تدهورت فجأة بعد أربعة أيام أخرى ‏..‏ واستدعى أخي سيارة الإسعاف لنقلها إلى المستشفي‏..‏ وصاحبناها فيها وأخي يحنو عليها‏..‏ وأبي يدعو لها بالشفاء‏..‏ وأنا أغالب دموعي‏..‏ وأقرأ لها آيات الذكر الحكيم في سري‏..‏ فلم تكد السيارة تقترب من المستشفى حتى كانت قد غادرت الحياة‏..‏ يرحمها الله‏..‏ وانفطر قلبي من الحزن عليها وبكيت طويلا‏..‏ وتذكرت حلمها الغريب الذي طاردها خلال الأسابيع السابقة للولادة‏..‏ وفهمت مغزاه الحزين‏..‏ وودعنا الشابة الطيبة العطوف إلى مستقرها الأخير‏..‏ وذهبت في اليوم التالي إلى المستشفي وأخذت المولودة الصغيرة‏..‏ وغمرتها بدموعي وقبلاتي وحبي‏.‏

ومضت الأيام حزينة وثقيلة‏..‏ فلم يخفف عنا شيء من قتامتها إلا وجه هذه المولودة البرئ‏.‏

فلقد أصبحت نورا من السماء دخل حياتي فأضاء كل جوانبها ومضت بي الأيام وأنا أتردد بين حزني على فراق أمها‏..‏ وفرحي بوجودها في حياتي‏..‏ وأسفي على أخي الذي وئدت سعادته سريعا وقد عوض الله صبري وحرماني من الأطفال‏15‏ عاما‏..‏ بهذه الهدية الثمينة‏,‏ ووقع حبها في قلبي‏..‏ وفي قلب زوجي منذ اللحظة الأولى لدخولها حياتنا‏..‏ وإني لأرجو الله سبحانه وتعالى أن أحقق فيها حلم أمها القديم وأن يمد الله في عمري حتى يجئ اليوم الذي أضع فيه بيدي طرحة الزفاف على رأسها وأساعدها على ارتداء فستانها الأبيض الجميل بإذن الله‏..‏ فادع الله معي أن يمكنني من ذلك وأن يعينني على إسعاد ابنتي وابنة أخي الوليدة هذه‏.‏

والسلام عليكم ورحمة الله‏.‏

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏ 

بعض البشر يستشعرون قرب الرحيل بطريقة غامضة ويتسمعون أجراسه في أعماقهم‏..‏ ويبدو أن زوجة شقيقك الراحلة كانت من هذا النوع من البشر المحكومين بأقدارهم‏,‏ والذين لا تطول غالبا رحلتهم مع الحياة ويخلفون وراءهم دائما أطيب الأثر‏,‏ وما كان حديثها المتكرر عن ذلك الحلم الغريب لك إلا تعبيرا عن مخاوفها الغامضة من دلالاته‏..‏ وإشاراته‏,‏ ولقد أكثرت من الحديث معك عنه كأنما كانت تشعر في أعماقها أنك من سوف تحدب على وليدتها من بعدها‏.‏ وتكونين لها أما حقيقية بعد أمها الراحلة يرحمها الله‏.‏

وقديما قال بن عطاء الله السكندري‏:‏ قال أهل المعرفة‏:‏ من لم يدبر دبر له‏!‏

 

وقال أيضا في دعائه‏:‏ اللهم أشهدنا من حسن اختيارك لنا ما يجعل ما تقضيه فينا وتختاره لنا أحب إلينا من مختارنا لأنفسنا‏..‏

وهذه المولودة البريئة هي اختيار الله سبحانه وتعالى لك‏..‏ لكي يعوضك عن حرمانك من الإنجاب وصبرك على أقدارك وتسليمك بمشيئته‏..‏ طوال خمسة عشر عاما وأنت في نفس الوقت اختياره لهذه الوليدة الذي يعوضها به عمن وهبتها الحياة‏..‏ ورحلت عنها قبل أن تحنو عليها‏.‏

 

ولسوف يحقق الله عز وجل لك كل ما ترجينه لها‏..‏ ولسوف تملأ حياتك وحياة زوجك بالبهجة والسرور‏..‏ والشواغل الحبيبة إلى أن يتحقق الجانب السعيد من حلم أمها القديم بإذن الله‏.. 

نشرت عام 2002 في باب بريد الجمعة بجريدة الأهرام 

نقلها من أرشيف جريدة الأهرم وراجعها / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات