عقول الأمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

                      عقول الأمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

عقول الأمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

قال الإمام الشافعي : لا تشاور من ليس في بيته دقيق .. فإنه موله العقل ! وهذا صحيح تماما لأن المهموم بأمر معاشه لا يستطيع مهما صدقت نيته أن ينزع نفسه من مشاكله الأساسية ويخلص بها للتفكير في أمر الآخرين .

عبد الوهاب مطاوع

 

ليس عندي قصة مؤثرة أحكيها لك .. ولا تجربة إنسانية فريدة تثير التأمل ... لكن عندي "حالة" لا تخصني وحدي وإنما تخص كثيرين غيري .

فأنا أستاذ جامعي في كلية نظرية عمري 45 سنة ومتزوج وعندي ثلاثة أبناء, وقد أمضيت 25 عاما حتى الآن مشتغلا بالتعليم, وأعيش براتبي فقط وهو 450 جنيها . وأقيم في شقة ضيقة من غرفتين بحي شعبي أدفع مائة جنيه كل شهر إيجارا لها, وليست لدي أية مدخرات .. ولا أملك سيارة وألتزم بالشرف والأمانة في تربية أبنائي الطلاب بالكلية وتعليمهم لكني أصبحت عاجزا عن دفع مصروفات أبنائي الثلاثة في المدارس, لأن " الجمعيات " التي ندفع أقساطها والتي لجأنا إليها لدفع مصروفات العام الماضي ما زالت تثقل كاهلنا فلا نستطيع أن نشترك في "جمعيات" جديدة , وأنا بالطبع لا أطلب مساعدة وأبحث حاليا عن عمل يساعدني على تحمل نفقات المعيشة , لكني أتأمل حالنا نحن عقول الأمة الذين نفكر في مشاكلها وأرى أن المشاكل اليومية الصغيرة تستغرقنا فأحزن ...إذ متى نجد وقتا للتفكير في مشاكل بلادنا وللانجاز من أجلها أليست هذه مؤامرة لتخريب عقول الأمة بشغلها على العلم والإبداع والانجاز بالبحث عن رغيف العيش وزجاجة الزيت .

إنني أرفض السفر والإعارة لأن ما خرب التعليم عندنا هو عدم وجود خطة تفصيلية في أقسام الكلية المختلفة بسبب سفر من يقومون بتنفيذ هذه الخطط .. وكم من أقسام بأكملها تم تخريبها بسبب الهجرة وسفر الأساتذة , كما أن لدي ظروفا صحية صعبة تمنعني من التفكير في السفر .. وأنا أصرخ فيك أن تسمع صراخنا .. إذ لا يمكن أن تتخيل المهانة والخوف اللذين أحس بهما وأنا أحمل أوراق امتحان  الطلاب معي في الأتوبيس أو التاكسي إلى مسكني الضيق لأصححها فيه , وأنا أعاني من الخوف كل لحظة من أن يتهور طالب فيخطف مني هذه الأوراق في الطريق ويضيع مستقبلي العلمي .. وكم أتمنى أن تجبر الجامعة أساتذتها على تصحيح هذه الأوراق في الكليات حيث تتوفر لها أيام الامتحانات الحراسة ...فنشعر على الأقل بالحد الأدنى من الأمان ونحن نصححها أما في الأيام العادية فليس لي كرسي في الكلية أجلس عليه ولا مكتب وليست هناك مكتبات تساعدنا وقد نشتري الكتاب الأجنبي الواحد بـ150 جنيها واسأل مكتبات الأهرام عن أسعار هذه الكتب الأجنبية ..

إنني أقرأ لجيل الرواد طه حسين والعقاد وزكي نجيب محمود فأترحم على جيلنا الضائع في تفاصيل حياته الصعبة .. إذ لا تدري كيف يمر الشهر الطويل علينا , ومعي للدهشة معيدون بالقسم لم يمض على عملهم سوى سنوات معدودة ومع ذلك فقد اشتروا السيارات والشقق من الدروس الخصوصية ويبدو أن القاعدة الآن هي أن تتساءل عن أسباب فقر هذا .. لكن لا تسل كيف أثرى ذلك ... لكني خرجت على هذه القاعدة فسألت أحد المعيدين عن كيفية تحقيقه "لمعجزته " الاقتصادية في سنوات معدودة , فأجابني بمنطقه بأن مفهوم الشرف قد تغير الآن يا أستاذ !

إنني لست ضد أحد .. لكني في لحظات الضيق والحصار لا أفهم شيئا ويكاد يخيل إلي أن "الرسالة " التي يريد أن يوصلها إلينا المعنيون بأمرنا هي أن على كل واحد منا أن "يدبر أمره" بالطريقة التي تناسبه .. فهل هذا هو المطلوب فعلا .. وهل تستقيم الأوضاع هكذا .  إننا لا بد أن نتوقف مع النفس لنعرف .. هل ما يبقى منا بعدها ينفع الناس ؟ وأي نفع .

إن لي أملا فيك أن تكتب عن هذه الفئة المظلومة من أساتذة الكليات النظرية الذين لم يسافروا للخارج ويؤمنوا بدورهم في بناء بلادهم فهل تفعل ؟

ولكاتب هذه الرسالة أقول :


إنها ليست مشكلة عقول الأمة وحدهم يا سيدي .. لكنها مشكلة جسمها كله في الأغلب الأعم إلا من نجا من المعاناة بسبب أو بآخر وهي أشد قسوة لدى بعض فئاته الأخرى وإنما تتحول إلى "محنة" تثير التأمل حين تضغط على "العقول" فتصرفها عن التفكير في العام إلى التفكير في الخاص وعن الاهتمام بأمر مجتمعهم إلى الاهتمام بأمر أنفسهم ومن الطموح إلى الإبداع والانجاز وتحقيق الانتصارات العلمية ... إلى الكفاح لتحقيق الانتصارات الصغيرة في معركة البقاء والاستمرار وتلبية مطالب الحياة الضرورية .

ولا أحد يستطيع أن يصور خطورة ذلك بأبلغ مما فعل الإمام الشافعي حين قال : لا تشاور من ليس في بيته دقيق ...فإنه موله العقل ! وهذا صحيح تماما لأن المهموم بأمر معاشه لا يستطيع مهما صدقت نيته أن ينزع نفسه من مشاكله الأساسية ويخلص بها للتفكير في أمر الآخرين .

ولقد تنبهت دول العالم الثرية لهذه الحقيقة منذ زمن طويل فكفت علماءها ومفكريها ومعلميها ومسئوليها التنفيذيين وغيرهم مئونة التفكير في أمر معاشهم ليخلصوا بأنفسهم وعقولهم للإبداع والانجاز الذي يؤتي ثماره الطيبة لفئات الشعب كله , فازدادوا ثراء وتقدما وازددنا فقرا وتخلفا ... وما زال هذا هو الحال في معظم دول العالم الثالث ...التي تعاني من نفس ظروفنا .

يا سيدي رسالتك خطيرة وليس عندي ما أضيفه إليها سوى أن أضعها تحت أنظار من يهمهم الأمر بما تعكسه من حقائق وأحاسيس "ونذر" لا عن العقول وحدهم وإنما عن كل الأعضاء .. وأرجو ألا تبدد صرختك هذه في ذرات الأثير ..وشكرا.
نشرت عام 1989 في باب بريد الجمعة 
نقلها من أرشيف جريدة الأهرم وراجعها / نيفين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات