حبل الحياة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1991
في الأساطير اليونانية القديمة أسطورة تقول إن ربات الأقدار
يفتلن حبل الحياة من خيوط بيضاء وخيوط سوداء وأن هذا الحبل لا يخلو أبدًا من
الخيوط السوداء لكن أقدار الناس معه تتفاوت في عددها فيكون اللون الأبيض أحيانًا
هو الظاهر على السطح أو الآخر هو الواضح فيه للعيان لكن المحصلة هو أن هناك دائمًا
خيوطًا من اللونين ينسجان معًا ذلك الحبل ، وعلى الجميع أن يرضوا بما وُزِّع على
حبالهم من اللونين.
عبد الوهاب مطاوع
أنا سيدة في الثالثة والأربعين من عمري ومن أسرة صعيدية توقفت ، مضطرة ، عن الدراسة بعد السنة الأولى بكلية التجارة لأتزوج من شاب صعيدي مثلي كان يكبرني بسبعة عشر عاماً وقد أحببته بكل عواطفي المختزنة وقررت أن أكون سعيدة في حياتي فسعدت معه رغم عصبيته المرضية وتقلبه وثوراته . وكان طموحه ضاريًا ونشاطه هيستيريًا ووقته وأعصابه مكرسين نهائيًا لعمله فأصيب في أولى سنوات الزواج بارتفاع الضغط ثم بذبحة صدرية ثم بجلطة في المخ أدت إلى إصابته بنوبات الصرع ، ورغم ذلك فلقد كانت حياتنا رغم المخاوف والآلام سعيدة .. وقد أحسست بأن عمل زوجي يستغرق كل وقته واهتمامه فأقنعته بجهد كبير أن يسمح لي باستكمال دراستي بكلية التجارة عن طريق الانتساب وحصلت على البكالوريوس وترقى هو إلى درجة وكيل الوزارة خلال 7 سنوات فقط من الزواج وكان في الدرجة الخامسة حين تزوجته وأصبحت أستمتع حين يقرأ عليَّ مذكرة أو يسألني عن رأيي في تأشيرة وأكسبتني مشاركتي له في اهتماماته خبرة ومتعة .
وكانت نوبات الصرع القاسية تهاجمه كثيرًا فكرست حياتي للاهتمام بصحته
وتعلمت كل ما استطعته من شئون التمريض وقياس الضغط والحقن والعلاج النفسي بالإيحاء
وخاصة بعد أن ازدادت معاناته من تصلب الشرايين ، وكان همي دائمًا أن أكون الأم
الحنون الصبورة التي تجعل من حضنها ملاذًا لذلك الزوج الممتحن بالبلاء والشدة .
ثم ذات يوم اتصل بي مدير مكتبه وأبلغني أن زوجي مصاب بالنوبة في
مكتبه فاصطحبت ابنتي معي وذهبت إلى مقر عمله .. فوجدت الله قد استرد وديعته من قبل
أن يتصل بي مدير مكتبه . وكان عند رحيله في الخمسين من عمره وتجرعت أحزاني صابرة
وفوجئت بعد وفاة زوجي بديون رهيبة لابد من سدادها .. ولم أكن أعلم قبل رحيله شيئًا
عن أحواله المالية أو ممتلكاته كعادة بعض الرجال الشرقيين وكنت خلال سنوات مرضه
الأخيرة قد درست الأدب الفرنسي لأهرب من توتري العصبي الذي أدى إلى اصابتي بكثير
من الأعراض النفسية الجسمية كالقئ العصبي والمغص الكلوي بسبب تقلص عضلات الكلى
اللا إرادي .. إلخ ، وحصلت على دبلوم في الأدب الفرنسي فقررت النزول إلى العمل
لسداد الديون التي تحاصرني وحاربت بشراسة حتى حافظت لابني وابنتي على أرضهما
الزراعية ضد محاولات شرائها بأبخس الأثمان وتمكنت خلال عام واحد من العمل المضني
المتواصل من سداد كافة الديون ، وواصل الأبناء دراستهم في أرقى المدارس ، وكان
ابني الوحيد متخلفًا في الدراسة رغم ذكائه لأنه كان عند رحيل أبيه في أشد الحاجة
إلى السند الذي يستند إليه مراهق مثله في الثالثة عشرة من عمره ، فتعثر في الدراسة
وأعاد امتحان الثانوية العامة 3 مرات ، وواجهت مشاكل الدروس الخصوصية ومشاكل
المراهقة السخيفة من دروشة وذقن طويلة وجلابية فوق البنطلون إلى الديسكو وركوب
الموتوسيكل والجماعات الدينية ! وواجهت الواقع بلا مكابرة وأقنعته بأن الفشل
الدراسي لا يعني بالضرورة الفشل الاجتماعي ، وسعيت عن طريق معارفي لإلحاقه بعمل في
أحد الفنادق ووفقني الله في ذلك ونجح تمامًا في هذا المجال لأنه اجتماعي وذكي
وخدوم وشهم "وبكَّاش شوية" وكلها مواصفات ملائمة للنجاح في مجال السياحة
والفنادق .
أما ابنتي فكانت متفوقة في الدراسة وتخرجت في كلية الهندسة قسم مدني
لكنها لم تجد عملاً فاستطعت أن أعثر لها على عمل كمدرسة رياضة حديثة بمدرسة أجنبية
ولم أتردد في ذلك وفقًا للقاعدة التي أؤمن بها في حياتي وهي إن لم يكن ما تريد
فأرد ما يكون ، وهي الحمد لله سعيدة جدًا بعملها لأن قدرتها على العطاء كبيرة .
وواجه ابني أزمة احتراق الفندق الذي كان يعمل به وعُرض عليه العمل بفندق كبير
بإحدى الدول العربية وقرر السفر إليها فلم أعترض على سفره رغم ألمي كأم وأرملة ترى
دائمًا في ابنها البديل الطبيعي لرجل الأسرة الذي طواه الموت . لكني تعودت معهما
دائمًا على الديمقراطية وحرية الاختيار مع تحمل المسئولية التي تترتب على ذلك .
وتسألني بعد ذلك ما المشكلة وأنا فيما يبدو راضية بأقداري وأتعامل مع
مشاكلي بواقعية ، فأقول لك إني درست الكمبيوتر لمدة سنة ودرست إدارة الأعمال
باللغة الإنجليزية في الجامعة الأمريكية وأكملتها بالمراسلة .. وعملت في القطاع
الخاص في شتى المجالات . فكانت مشكلتي دائمًا هي أني لا أستقر طويلاً في أي عمل
لسبب بسيط هو أنني جادة وأعتز بجذوري الصعيدية وأفخر بسمعة زوجي وبثقته فيَّ
وأتذكر له دائمًا عبارته التي كان يقولها لي بلهجته الصعيدية الطيبة سعيدًا : "أنت
لو زرعوكِ في فدان رجالة لا أخاف عليك منهم" ورغم أنه قد غاب عن عالمنا منذ
10 سنوات فما زالت عبارته ترن في أذني لهذا فإني أجد العمل والترحيب بقدراتي
وإمكانياتي سريعًا لكن المشكلة هي أني بعد فترة من التحاقي أشعر بأن مديري لا
يكتفي بجهودي المستميتة في العمل كسكرتيرة تنفيذية وإنما يطمح إلى بعض الترفيه
الذي قد يجده فيمن هن أقل علمًا مني وأكثر مرونة فإما أن يجبرني على الاستقالة أو
يصارحني بذلك إذا كان وقحًا ، والنتيجة واحدة ، وهي تركي العمل بعد قليل . لقد
أصبحت أشعر بأن تضاريس أنوثتي ووضعي كأرملة مقبولة الشكل مع طبيعة عملي كسكرتيرة
تنفيذية يخلط البعض خطأ بينها وبين المحظية ، تقف كلها ضد نجاحي في العمل
واستمراري فيه لفترات طويلة .. ولم يكن في ذلك جديد يستعصي عليَّ لكن الجديد هو
أني قد وجدت نفسي فجأة بعد آخر تجربة مماثلة مع رجل أعمال غير مصري .. طريحة
الفراش بلا مرض لا أنام ولا أريد مغادرته وقد تجمعت أمامي فجأة كل معاناة السنوات
المريرة التي كنت أموت خلالها واقفة في صمود لأؤدي رسالتي كزوجة وأم وامرأة عاملة
تحاول الحفاظ على مستوى معيشة أبنائها وفقدت كل قدرة على مواصلة الكفاح من جديد أو
البحث عن عمل آخر .
وبالرغم من أني أستمتع بصداقات إنسانية وفية إلا أني أرفض الآن
مشاهدة أي إنسانة ولا أرغب في الحديث مع أحد وتتوالى عليَّ باستمرار مشاهد حياتي
كأنها شريط من الأحزان والآلام المتوالية فلا أرى فيه نقطة واحدة من الراحة أو
الإحساس بالأمان .
· ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
إن الإنسان في ضعفه يكون أقل مقاومة للمرض العارض منه إذا أصابته
عدواه وهو في تمام قواه وصحته . وواضح يا سيدتي أن محنتك الأخيرة في العمل مع رجل
الأعمال غير المصري وما انتهت إليه من نهاية تقليدية قد صادفتك وأنت في حالة ضعف
نفسي مما قد ينتاب الإنسان العادي لأي سبب من الأسباب بالإضافة إلى مصادفتها لكِ
وأنتِ تواجهين ما يفضل الأطباء تسميته بأزمة منتصف العمر التي تحدثت عنها في
الأسبوع الماضي فأدَّى ذلك إلى تسلل بعض أعراض الاكتئاب إلى نفسك . وقد تمثلت هذه
الأعراض في فقد الرغبة المتواصلة في الكفاح .. وفي التوقف لاستعراض شريط حياتك
السابق وما يزخر به من مشاهد الألم والمعاناة مع مرض زوجك الراحل التي حذفتُ معظم
تفاصيلها مراعاة لمشاعر البعض ، فانتابكِ الهاجس الذي قد يهجس لإنسان أمضى معظم
سنوات حياته في المعاناة والصمود والخوف من المجهول فيسأله : أما آن للمحارب أن
يستريح يومًا وأن يجد الراحة في دنيا ليس من طبيعتها أن تسمح بالراحة المثالية
لأحد من البشر يتحمل مسئوليته ومسئولية الآخرين معه .. إلا في تلك المرحلة الأبدية
التي لا كفاح بعدها ولا معاناة ! فتتوجه النفس التي تهفو للسعادة إلى التماسها ،
ومن هنا تأتي خطورة هذه الفكرة الاكتئابية ، ذلك أن فقد الرغبة في مواصلة العمل
والكفاح يستتبعها غالبًا وإذا لم يستنهض الإنسان كل قواه للمقاومة .. فقدُ الرغبة
في الحياة ... وهو ما يسميه الأطباء بفقد إرادة الحياة .
لهذا فلابد أن تقاومي بكل قواك السقوط في هاوية الاكتئاب النفسي
ولابد أن تستنفري إرادتكِ الحديدية لدفع شبحه عنكِ .. بالعودة لمواصلة الكفاح
والإقبال على الحياة وتقبل مصاعبها بروح التحدي التي واجهتها بها من قبل ، وأنتِ
سيدة عظيمة وجديرة بكل شيء طيب في الحياة وقد تعاملتِ مع كل الصعوبات التي واجهتها
في حياتك بواقعية حكيمة .. وبإرادة قوية للسعادة .. فتواءمت مع التقلبات المزاجية
الحادة لزوجك الراحل ثم مع ظروفه الصحية القاسية .
و"قررت" السعادة فسعدتِ بحياتك معه رغم آلامها ومازلت
تحتفظين له ولها بأجمل الذكرى ، وتعاملتِ مع مشاكل الحياة والأبناء والصعوبات التي
لا مفر منها بحكمة وفهم ورضا بالأمر الواقع مع محاولة لتحويله إلى واقع مرضٍ
ومقبول ، فلم تجعلي من فشل ابنك الدراسي نهاية للحياة والنجاح بالنسبة له وإنما
دفعته لتحقيق نجاحه في مجال آخر يتفق مع قدراته وميوله ، وتعاملتِ مع عجز ابنتك عن
العمل كمهندسة بدفعها لإثبات نجاحها في مجال آخر سعدت به وحققت فيه ذاتها ، وحققتِ
نجاحك الدراسي الخاص وضاعفتِ من مؤهلاتك العلمية وقدراتك كامرأة عاملة ناجحة
بإرادة من حديد .
وتمسكتِ بقيمك وأخلاقياتك ووفائك لذكرى زوجك الراحل في مواجهة الأعاصير
والمضايقات .. فكيف لا تكونين بعد كل ذلك راضية عن نفسك وسعيدة بها لمجرد أن البعض
يسئ فهم ظروفك أو عملك ؟ إنهم هم من يستحقون معاناة هذا الإحباط ولستِ أنتِ ..
وما تتصورينه عقبة في طريق نجاحك العملي هو بكل تأكيد من مميزاتك لدى
الآخرين الأسوياء وهم الأغلبية وليسوا الأقلية كما تتصورين أو كما يوحي لنا بذلك –
خطأً – انتشار بعض صور الشر في الحياة .. وجديتك هذه واحترامك لنفسك وقيمك الخلقية
هي نفس المؤهلات التي ستفتح لكِ الأبواب من جديد حين لا يصح إلا الصحيح !
وأنتِ كما يبدو لي من المهتمين بالدراسات النفسية ولعلكِ قد قرأتِ عن
فلسفة "كما لو" التي ينادي بها عالم النفس وليم جيمس حين ينصحنا بأن
نبدو كما لو كنا شجعانًا فتواتينا الشجاعة ، وأن نتصرف كما لو كنا سعداء فتغمرنا
السعادة إلخ وهي فلسفة يقرها علم النفس الحديث ويؤمن بها ، بل إنك قد عملتِ بها في
بعض فترات حياتكِ .. فلماذا لا تقررين مرة أخرى أن تكوني قوية فتواتيكِ من جديد
القوة .. وألا تملي الكفاح فتعاودكِ الرغبة فيه مرة أخرى .. إلخ .
يا سيدتي الفاضلة إن في أساطير اليونان أسطورة تقول إن ربات الأقدار
يفتلن حبل الحياة من خيوط بيضاء وخيوط سوداء وأن هذا الحبل لا يخلو أبدًا من
الخيوط السوداء لكن أقدار الناس معه تتفاوت في عددها فيكون اللون الأبيض أحيانًا
هو الظاهر على السطح أو الآخر هو الواضح فيه للعيان لكن المحصلة هو أن هناك دائمًا
خيوطًا من اللونين ينسجان معًا ذلك الحبل ، وعلى الجميع أن يرضوا بما وُزِّع على
حبالهم من اللونين ، ولا شكِ أنكِ قد نلتِ الكثير من ذلك اللون الآخر في قصة
حياتكِ وكفاحكِ مع زوجكِ وابنيكِ .. وآن الأوان لأن يغلب اللون الأبيض الساطع على
حياتكِ بإذن الله . فهل يكون من العدل أن يأتينا حين يجئ دورنا معه في نفس الوقت
الذي نكون قد فقدنا فيه رغبتنا في الاستمرار في الحياة ومواصلة المشوار ؟
لا .. ليس ذلك من العدل يا سيدتي .. فانهضي من فراشكِ واستشيري
طبيبًا يعينكِ على مقاومة الاكتئاب واجتياز بعض الأعراض الجسمية والنفسية التي
تصاحب أزمة منتصف العمر .. وتذكري أن الأزمة إنما تعني التحدي وأن التحدي يستفز الإرادة
لقبوله والانتصار عليه .. وأنتِ لا تنقصكِ الإرادة ولا الإيمان بالله والرضاء
بقضائه وقدره فاستنصري الله ينصركِ ويأتيكِ خيرًا عميمًا إن شاء الله .
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر