الزيارة العصيبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

 

الزيارة العصيبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

الزيارة العصيبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

ليس ثمة نصيحة تقال لشاب أمين ومتدين ومتفوق دراسيا وأخلاقيا سوى ما قاله الفيلسوف الألماني كانط ذات يوم في موقف مشابه وهو‏:‏ كن كاملا في عالم ناقص يكمل العالم تدريجيا على مر الزمن‏!‏

عبد الوهاب مطاوع


أنا شاب من أسرة متدينة أنشأنا أبي على القيم الدينية والأخلاقية‏,‏ وشجعنا على التفوق في دراستنا‏,‏ وصنع مستقبلنا بكفاحنا وعرقنا‏ ..‏ ولقد حققت لأبي أمنيته وتفوقت في مراحل دراستي‏,‏ وتخرجت في كليتي متفوقا‏,‏ وشعرت بالرضا عن نفسي وعن كفاحي وعن عملي‏,‏ ثم التقيت ذات يوم بفتاة أعجبت بجمالها ورشاقتها وقوامها فطلبت منها موعدا لزيارة أسرتها والتقدم لخطبتها‏,‏ وتحدد الموعد وأنا لا أعلم شيئا عن ظروفها العائلية والاجتماعية وهي لا تعرف شيئا عن ظروفي‏,‏ وذهبت إلى الموعد وحدي دون أهلي لأتعرف أولا على الأسرة وأتيح لها فرصة التعرف بي‏,‏ وبعد ذلك اصطحب عائلتي معي للزيارة في المرة التالية‏..‏
وبعد التحيات والمجاملات المعتادة في مثل هذه الزيارة قمت بتقديم نفسي فذكرت اسمي وسني وعنواني ثم كانت الطامة الكبرى هي عملي إذ ما أن تجرأت وأشرت إلى وظيفتي التي ظننت أنها ترفع من قدري وتشرفني‏,‏ خاصة وأنني شاب من أسرة مكافحة ولا أملك سوى مرتبي الذي اقتطع منه جزءا لمساعدة أسرتي‏,‏ أقول لك إنني ما إن تجرأت وأشرت إلى هذه الوظيفة‏..‏ وهي إنني أعمل معيدا بكلية جامعية حتى انقلب جو الجلسة وفوجئت بوالدة الفتاة تمصمص شفاهها وتقول لي وكأنها قد وضعت يدها على جسم الجريمة‏ :‏ بتاع كتب يعني؟‏!‏ في حين تنهدت فتاتي تنهيدة لم أفهم معناها أما الأب فلقد ألقى علي نظرة فاحصة ثم سألني‏:‏ كم مرتبك؟
فأجبته على سؤاله وشفعت إجابتي بحديث قصير عن الشئ الأهم في الزواج وهو العشرة الطيبة والمعاملة الحسنة وكيف أنني أعرف ربي جيدا والحمد لله‏,‏ وأصلي وأصوم وسوف أتقي الله في زوجتي‏,‏ فقطعت علي والدة الفتاة حديثي بتذكيري بالمثل القديم الذي يقول إن الرجل لا يعيبه شئ سوى جيبه‏!‏ وارتج علي الأمر وابتلعت ريقي وأنا أحاول أتلمس الإجابة المرضية للأم‏,‏ فإذا بالأب يسألني‏:‏ هل عندك شقة؟ فشغلني السؤال الجديد عن مثل الأم القديم وأجبته بأنني لا أملك شقة في الوقت الحالي لكني أتعشم خيرا بإذن الله وآمل أن أجد شقة مناسبة بإيجار معقول‏,‏ أو أن أتقدم بقسيمة الزواج لأحد مشروعات الإسكان التي تقيمها الدولة للشباب والتي تشترط الزواج الحديث للحصول على شقتها وذكرت صهري بأنني قد جئت للتعرف على الأسرة بهدف التمهيد لخطبة ابنته وليس للزواج منها في الحال‏,‏ وبالتالي فإن الفرصة سوف تكون متاحة لنا للبحث عن شقة مناسبة بإذن الله‏,‏ فما أن قلت ذلك حتى أجابني الأب بأن الزواج‏:‏ شقة وجهاز‏..‏ وأن الأفضل لي مادمت لا أملك شيئا من ذلك هو أن أواصل طريق العلم في الجامعة التي أعمل بها‏.‏
ثم اختتم حديثه بالعبارة القاطعة التي أعلنت نهاية الزيارة في حسم وهي‏:‏ آنست وشرفت‏!‏
فعقد الخذلان لساني وخرجت إلى الشارع ذاهلا وسرت على غير هدى وأنا أسترجع وقائع هذه الزيارة العصيبة التي لم تستغرق سوى بضع دقائق‏,‏ وأستعيد ذكريات ليالي السهر الطويلة في المذاكرة والدراسة حتى تفوقت وعينت معيدا بالجامعة‏.‏ وأسأل نفسي أكان تفوقي وعملي بالجامعة جريرة أعاقب عليها بالرفض والخذلان‏,‏ أم هو شئ ينبغي لي أن أفخر به‏,‏ وأتوقع التقدير والاحترام له؟ لقد كان أبي يا سيدي وأقسم لك على ذلك مديرا للإسكان بإحدى محافظات القاهرة الكبرى لكنه كان رجلا نزيها طاهر اليد‏,‏ فرفض أن يتحايل عليى القانون وييسر لي الحصول على شقة في محافظته‏,‏ ولقد ربانا على النفور من الحرام‏,‏ والقناعة والقيم الدينية‏.‏
ولست أكتب لك رسالتي هذه لكي أعتب على أبي في نزاهته وطهارة يده اللتين وضعتاني في هذا الموقف المحرج أمام أسرة فتاتي‏,‏ فالحق أنني أفخر به في أعماقي وأدعو له الله سبحانه وتعالى بأن يجزيه عن إخلاصه في عمله وتمسكه بتعاليم دينه في حياته خير الجزاء‏,‏ لكنني كتبتها لك لكي أحذر كل شاب غلبان مثلي من أن يتجرأ ويقدم على ما أقدمت عليه من حماقة حتى لا يصدم في واقعه وأحلامه وأخلاقه ومبادئه وقيمه لمن يحب‏..‏
فلقد صدمت أنا في كل ذلك لكني علي أية حال لم أيأس وأثق في أنني سوف أجد ذات يوم قريب من تقدر لي تفوقي وكفاحي وأخلاقياتي وترضى بفقري ولا تراه عيبا في‏.‏
وأخيرا فلقد كتبتها لكي يجد أولياء أمورنا حلا لهذه المعضلة الجديدة‏,‏ فالدولة تشترط الزواج لكي يحصل شاب مثلي على شقة من مساكن الشباب‏,‏ وأسرة العروس تشترط الشقة لكي توافق علي الزواج‏,‏ فماذا يفعل أمثالي من الشباب وهل رجعنا مرة أخرى إلى معضلة البيضة والدجاجة أيهما أقدم في الوجود؟‏..‏ إنني أشكرك على قراءتك لهذه الرسالة وأرجو منك النصيحة‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏

ليس ثمة نصيحة تقال لشاب أمين ومتدين ومتفوق دراسيا وأخلاقيا مثلك سوى ما قاله الفيلسوف الألماني كانط ذات يوم في موقف مشابه وهو‏:‏ كن كاملا في عالم ناقص يكمل العالم تدريجيا على مر الزمن‏!‏
بمعنى أن افتقاد الإنسان المكافح والملتزم أخلاقيا ودينيا‏,‏ للتقدير في الوسط المحيط به لفترة من الزمن لا ينبغي له أن يهز قيمه ومثالياته ولا أن يؤثر على ثقته بنفسه وبجدارته لأن يحقق كل ما يستحقه من أهداف الحياة في الوقت المناسب وإنما عليه أن يمضي في الحياة متمسكا بقيمه ومثالياته ومؤمنا في نفس الوقت أن مجرد وجوده وأمثاله في الحياة يفيدها ويزيد من مساحة الخير والحق فيها تدريجيا ويقلل من مساحة القبح وفساد القيم والمفارقات المؤلمة في محيطها‏.‏
ولقد ذكرت في بداية رسالتك أنك قد التقيت ذات يوم بفتاة أعجبك جمالها ورشاقتها وقوامها فتقدمت لأسرتها طالبا يدها‏.‏ وكل المؤهلات التي أثارت إعجابك بهذه الفتاة ودفعتك للتطلع إلى الارتباط بها كما ترى مؤهلات ظاهرية تتعلق بالشكل الخارجي للفتاة‏,‏ وليس بشخصيتها أو تفكيرها أو القيم السائدة في محيطها العائلي‏,‏ فإذا كان الشكل الخارجي يصلح في بعض الأحيان لأن يكون عامل الجذب المبدئي الذي يدفع شابا للارتباط بفتاة,‏ فإن ما يدوم بينهما ويحول هذا الانجذاب السطحي إلى رباط يجمع بينهما ويرشحهما للحياة معا‏,‏ هو تقارب رؤية كل منهما للحياة وتوافق نظرتهما إلى الأشياء الأولى بالاعتبار في حياتهما‏..‏ وتماثل القيم السائدة في المحيط العائلي لكل منهما‏.‏
ولقد التقيت بفتاة تختلف نظرتها ونظرة أسرتها إلى الزواج عن نظرتك أنت إليه وتختلف القيم السائدة في محيطها العائلي عن القيم السائدة في وسطك الأسري‏,‏ فلا عجب إذن في أن تفترق بكما السبل من الزيارة الأولى لكن ذلك لا يعني أبدا أنك لن تجد على الناحية الأخرى من تتفق رؤاهم للحياة مع رؤيتك‏,‏ أو أنك لن تجد من يعملون في حياتهم الخاصة بهدي قيمهم الدينية ويرحبون بمن يرضون دينه وخلقه‏,‏ ولو لم يكن من ثريا وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير كما حذرنا من ذلك الهادي البشير صلوات الله وسلامه عليه‏.‏
وبالرغم مما تعكسه رسالتك من مؤشرات مخيفة عن تراجع شرف العلم والأخلاق والدين والأصل العائلي الكريم بالمقارنة بشرف المال والقيم المادية عند الاختيار لدى بعض الأسر فلقد قلت مرارا أن ذلك لا يعني أبدا إعلاء القيم المادية على بقية القيم الأخلاقية والدينية والعائلية لدى الأغلبية العظمي من الأسر‏,‏ وأكدت مرارا أن من الأسر الفاضلة وهي كثيرة والحمد لله من لا تعدل بهذه القيم العليا أية قيم مادية لهما بلغ شأنها لدى الغير
ولهذا فلقد عجبت اشد العجب من أن تكون النقطة الفاصلة في حديثك إلى هذه الأسرة خلال الزيارة العصيبة هي الإشارة إلى عملك كمعيد في الجامعة‏,‏ ومن أن يكون رد الفعل العائلي لهذه الحقيقة التي تشرفك‏,‏ هي التساؤل الإزدرائي من جانب أم الفتاة عن الكتب والنصيحة الجاهلة لك من الأب بان تصرف نظرا عن الزواج وتواصل اهتمامك بطريق العلم‏,‏ وكأن الكتب والعلم مرادفان لعدم الجدارة بمصاهرة مثل هذه الأسرة الكريمة‏..‏ وهي محصلة تسيء إليها وليس إليك‏,‏ لأن نفس هذه الأسرة ما كانت لتشير إلى الكتب والعلم مثل هذه الإشارة الإزدرائية لو كنت تملك من المال ما يمكنك من تلبية متطلبات الزواج على الفور‏,‏ بغير كفاح وانتظار لعدة سنوات,‏ بل لعلها كانت في هذه الحالة سوف تفخر بمنصبك العلمي وتضيفه إلى مؤهلات جدارتك بالفوز بمصاهرتها لأن التقويم في كلتا الحالتين قائم على اعتبارات مادية في الأساس وليس على نوع العمل أو الوظيفة‏,‏ فإذا كان من حقك أن تستاء لهذه الإشارة المؤلمة فليس من حقك أن تحزن لها لأنها تعكس خللا فاضحا في قيم مثل هذه الأسرة وليس في قيمك أنت ولا في ظروفك أو وضعك الاجتماعي والعائلي‏.‏
وأما والدك مدير الإسكان الأسبق الذي رفض التحايل على القانون ليتيح لك الحصول على مسكن وعاش نزيها وطاهر اليد فمن حقك فعلا أن تفخر به لأنه قد أورثك ما يعلو به قدرك لدى الأسر الفاضلة التي تمثل الأغلبية الصامتة في مجتمعنا‏,‏ وليس لدى تلك الأسر التي تقوم الرجال بما يملكون من حال وليس بأي شيء آخر.
فإذا كنت قد كتبت رسالتك هذه تنصح بها كل شاب مكافح مثلك بألا يكرر تجربتك فإني اتفق معك في جزئية واحدة منها وهي ألا يتقدم أي شاب إلى أية أسرة بغير أن يتحسس خطاه جيدا من البداية ويعرف أولا أي نوع من الأسر يتقدم إليها عارضا نفسه وأي قيم تسود في محيطها‏..‏ وبذلك يتجنب الشباب المرارات‏..‏ ويتفادون ما يهز قيمهم الأخلاقية ومثلهم العليا وثقتهم في أنفسهم‏..‏ وتجد كل المشكلات حلها لدى الأسر الفاضلة‏..‏ ومنها معضلة الشقة وقسيمة الزواج وشكرا.

نشرت عام 1999 في باب بريد الجمعة بجريدة الأهرام 

نقلها من أرشيف جريدة الأهرم وراجعها / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات