الملك .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986
ليس هناك مجتمع في العالم كل أفراده من أصحاب المناصب المرموقة، ولو وجد هذا المجتمع لهلك أفراده بعد قليل، لأن الحياة سيمفونية متكاملة لابد من توزيع أدوارها المختلفة على الجميع لكي تتناسق الأنغام ويحلو الطرب.
عبد الوهاب مطاوع
أكتب رسالتي هذه وأرجو ألا تستهين بها لأنها ليست مشكلة شخصية
بقدر ما هي مشكلة عامة بالنسبة لكثير من الناس.
فأنا يا سيدي فتاة عمري 23 سنة. لي أخت تكبرني بعام واحد،
ونعيش حياة هادئة في ظل أبوین کریمین، وأسمح لي بأن أقدمهما لك. فأمي سيدة لم تنل
حظا كافيا من التعليم، لكنها على قدر كبير من الثقافة العامة والذوق وحسن التصرف،
وهي في رأيي أعقل زوجة في العالم .. ويكفي أنها تعامل أبي "کملك"..
وتقول لنا إن الزوجة إذا عاملت زوجها "کملك" لا تفقد كرامتها ولا تخسر
شيئا بل تكسب لسبب بسيط هو أن زوجة الملك ملكة أيضا! ولابد أن يؤدي حسن معاملتها
لزوجها إلى أن يتصرف معها بأخلاق الملوك ويعاملها هي أيضا كملكة ولو بعد حين.
هذا هو تفكير أمي التي لم تحصل على شهادة، وما تعلمه لنا لنكون
زوجات صالحات وبالفعل فإني منذ وعيت على الدنيا لم أسمع أمي مرة تتشاجر مع أبي أو
تعامله بجفاء أو توجه إليه كلمة خارجة.. وأقصى ما شهدته من خلافات في مرات نادرة..
هي أن يختلفا في الرأي ويدلي كل منهما بحجته .. محاولا إقناع الآخر فإذا ضاق أبي
قال: خلاص أنا قلت كده، فتسكت أمي أو تقول له اللي تشوفه يا حاج، ثم لا تغضب
ولا تتركه ليعتقد أنها غضبی، بل تعود إليه بعد لحظات حاملة فنجان القهوة الذي يحبه
من يدها دون أن يطلب فتنفرج أساريره .. ويقول لها لسه مغيرتيش فكرك؟ يتناقشان مرة
أخرى ولا تنتهي الجلسة إلا باتفاقهما.. هذه هي أمي.. أما أبي الذي يطيل المناقشة
معها ولا يحب أن ينفرد برأيه وحده فهو في رأيي أب مثالي .. يحمل شهادة لكنه لم
يعمل بها ولو عمل بها لوصل إلى مركز طيب، ولم يعمل بشهادته لأنه آثر أن يقف إلى
جوار أبيه في أيامه الأخيرة.. وأن يتحمل معه المسئولية فوقف معه في محله ثم ورث
عنه هذا المحل، وعمل فيه إلى الآن، وهو بصفة عامة مظهره جيد جدا ولبق في حديثه ..
ولسانه حلو كما يقول الناس.
وفي هذه الأسرة الصغيرة الهادئة عشنا أنا وأختي حياتنا وواصلنا
تعليمنا، وأصر أبي على أن نستكمل التعليم حتى الجامعة فحصلنا على الشهادة
الجامعية، ولم أشعر في حياتي بأننا أقل من غيرنا أو أنه ينقصنا شيء، رغم أننا لسنا
أثرياء إلى أن بلغنا سن الزواج واصطدمنا لأول مرة بما جعل الناس منه مشكلة!
فأنا وأختي كنا في الجامعة محل إعجاب كثير من الزملاء والأقارب
والجيران، ويقولون عنا إننا على قدر عال من الجمال، لكننا مع ذلك لسنا من مستواهم
.. هل تعرف لماذا لأن المحل الذي يملكه أبي ويديره محل "خضراوات"، ولأن
أبي الذي حدثتك عنه "خضري"!
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
إن أباك يا صديقتي أسعد من وزير أو رئيس مجلس إدارة .. لأنه
ملك في أسرته الصغيرة المثالية، وكل إنسان مهما كان عمله يستطيع أن يكون ملكا في
حياته الخاصة إذا توافرت له السعادة والرضا، وعاش حياة هادئة بلا منغصات، وأنني لا
أشك في أن كثيرين من ذوي المناصب الذين تتساءلين عنهم سوف يغبطون أباك على هذه
النعمة التي من الله عليه بها، كما أن كثيرات من زوجاتهم سوف يغبطن أمك على هذا
الزوج الملك، بأخلاقه وسماحته ولسانه الحلو وسعة أفقه وحسن تربيته لكما وحسن
معاشرته، وحسن إدارته لمملكته الصغيرة هذه!
إن السعادة الزوجية يا صديقتي سر من الأسرار يهب الله مفاتيحه
لمن يشاء ولا فضل فيها لثقافة ولا منصب ولا مال ولا جاه. ومن مفاتيحها بالتأكيد
هذه النفس الراضية التي يتمتع بها أبواك، وهذه المشاعر العميقة التي تربط
بينهما بسلاسل من ذهب، وهذا الاحترام المتبادل بينهما.
وعفوا فلقد سرحت بعيدا عن المشكلة الأساسية لأن هذه
الصورة الجميلة التي رسمتها لأبويك قد بهرتني فأردت ألا تضيع وسط انشغالك بهذه
المشكلة السخيفة، وهي مشكلة سخيفة بالفعل لأنها من بقایا رواسب اجتماعية مريضة
تتلاشى تدريجيا من مجتمعنا، لكن إحساسك بها مازال عاليا لأنك تتصورين أنها وراء
تأخر ارتباطك بالزواج، وإن كنت لا أنكر وجود هذه النظرة السخيفة لبعض الأعمال بلا
منطق مقبول، إلا أن ذلك وحده ليس كل الأسباب، فأنت وشقيقتك مازلتما في مقتبل العمر
وسن الزواج في مجتمعنا قد تأخر إلى ما بعد عمريكما بكثير للأسباب الاقتصادية
المعروفة.
ولست أشك في أنه حين يحين الوقت الملائم سوف يتقدم لكما من
يستحقكما، ومن يجد في ظروف أسرتك الصغيرة كل ما يفخر به الإنسان العاقل، لذلك فإن
الخطر هنا ليس في تأخر الزواج، وإنما في تسلل هذا الإحساس الخطير بالدونية إلى
نفسك، وهذا إحساس لا مبرر له بالفعل، لأن أباك رجل شريف ويعمل عملا شريفا و محترما
وضروريا لاستمرار الحياة، وليس هناك مجتمع في العالم كل أفراده من أصحاب المناصب
المرموقة، ولو وجد هذا المجتمع لهلك أفراده بعد قليل، لأن الحياة سيمفونية متكاملة
لابد من توزيع أدوارها المختلفة على الجميع لكي تتناسق الأنغام ويحلو الطرب.
والإنجليز مثلا يصفهم المؤرخون بأنهم أمة من أصحاب الحوانيت أي
من أصحاب المشروعات الصغيرة، وأفضل المشروعات التي تحلم بها أية أسرة في أوربا هو
أن تمتلك بيتا صغيرا تقيم فيه، وتفتتح في جزء منه متجرا صغيرا يتناوب كل أفراد
الأسرة إدارته، ونحن في بلادنا لو كنا قد عرفنا شرف هذا العمل في الوقت الملائم،
لما وصلنا إلى أن أصبحنا نشكو من نقص معظم الأشياء الضرورية للحياة .. ومن كثرة
الموظفين والخريجين الذين لا عمل لهم، ولست في حاجة إلى أن أكرر عليك أن الأنبياء
لم يكن بينهم وزیر ولا رئيس لمجلس الإدارة، وإنما كان بينهم من رعى الغنم وعمل
صانعا وتاجرا، وهذا الكلام لا جديد فيه، ولكني أذكرك به فقط لكي تطيب نفسك بأبيك
وأسرتك، ولكيلا تفقدي ثقتك في نفسك وشخصيتك، ولكي تنظري إلى المستقبل في ثقة وأمل،
وبالمناسبة هل تقبل والدتك تعميما للفائدة أن تلقي محاضرة عامة بعنوان: كيف تعاملين
زوجك كملك ؟!!
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر