
نهر العطاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984
تقول كلمات الرسالة:
سأبدأ قصتي التي أريد أن أقرأ رأيك فيها في أسرع وقت , بالرجوع إلي الوراء قليلا,
فمنذ عدة سنوات مرضت شقيقتي الوحيدة فجاءت طبيبة شابة لفحصها .. وقامت بمهمتها علي
خير وجه وعقب انتهاء الكشف جلست من الطبيبة بضع دقائق لنتحدث عن مرض شقيقتي,
وتناقشنا في مرضها وجري الحديث بيننا بالإنجليزية والفرنسية وكانت تتكلمهما بطلاقة
, كما كان تخصصها في عملها الحكومي يتشابه مع تخصصي في بعض الأوجه , مما أوجد
مجالات للحديث بيننا والحق أني وجدت فيها إنسانة رائعة جميلة , ومن أسرة محترمة
ووالدها يشغل مركزا مرموقا, وتكررت زياراتها وشجعتني شقيقتي علي التقدم لخطبتها,
فخطبتها وكنت في هذه الفترة أعد للماجستير علي نفقتي الخاصة , ثم واجهت طارئا
استنفذ كل مدخراتي إلي جانب أني العائل الوحيد لوالدتي , فاصطدمت بمشكلة عجزي عن
توفير نفقات الزواج والمهر بعد نفاذ مدخراتي , فصارحتها بما حدث وبحقيقة الموقف
فكان ردها هو أن المهم هو حصولي علي الماجستير لمستقبلي أما نفقات الإعداد للزواج
فهي علي استعداد لدفع كل مدخراتها لشراء الجهاز ودفع النفقات , علي أن أعتبر ذلك
ديناّ عليّ رده عند الميسرة , وتم ذلك بالفعل وفي سرية تامة , فلم يعلم بذلك أحد
من أسرتها وتزوجنا وعشنا أياما سعيدة بكل معني الكلمة وبعد عام من زواجي رشحنا نحن
الاثنين للحصول علي الدكتوراه من احدي الجامعات الأجنبية بالخارج .. وواجهتنا
مشكلة الأثاث الذي اشتريناه منذ عام واحد ماذا نفعل به , لكنها وبشجاعة تذكر لها
طلبت مني السفر وحدي في البداية لأجهز شقة نقيم فيها ولأعمل علي أن تكون دراستنا
في نفس الجامعة لكي نكون معا دائما علي أن تتول هي التصرف في أثاث البيت , وسافرت
بالفعل ولحقت هي بي بعد أن باعت أثاث بيت الزوجية , وبعد سفري تعثرت أنا في دراستي
التحضيرية للدكتوراه فقد كانت الدكتوراه التي رشحت لها في فرع مخالف لتخصصي. فشدت
زوجتي أزري وساعدتني معنويا وأدبيا ثم سعت لدي مدير البعثة وكان من أقاربها لتحويل
بعثة الدكتوراه التي رشحت لها إلي موضوع تخصصي. وكان الرجل كريما فوافق. وتحطمت
عقبة أخري مهمة في حياتي فاستطعت الحصول علي درجة الدكتوراه , وحصلت عليها هي أيضا
في نفس الوقت , وخلال هذه الفترة ونحن في الخارج ووسط هذه الحياة السعيدة..
والمشاركة الكاملة في الدراسة والبيت وبرامج الفسحة في عطلة نهاية الأسبوع ,
تنبهنا إلي أننا لم ننجب أطفالا.. وإلي أن زوجتي لم تحمل, فقامت من جانبها بعرض
نفسها علي عدة أطباء لأمراض النساء فلم يجدوا بها عيبا , ثم طلب أحد أطبائها الكشف
عليّ أنا فرفضت لأني متأكد من أنني سليم تماما , وانتهت أيام البعثة بذكرياتها
الجميلة وعدنا للقاهرة فواجهتنا شقيقتي الوحيدة بثورة عارمة بسبب عدم الإنجاب.
وعلي الرغم من أننا ما زلنا نعيش في نفس
الشقة فإنني مازلت حائراّ ماذا أفعل؟ فهي الزوجة التي شرفتني في الداخل والخارج ..
وهي الزوجة التي وقفت إلي جانبي في أحلك الظروف. فهل إنجاب طفل يساوي التضحية بها؟
إنني أرجو أن أقرأ ردك مهما كان قاسيا وأعدك أن أسير علي هداه وأن أعمل بما تشير
به عليّ.
هذه هي الرسالة التي أرغمتني علي
إعادة تناول هذه المشكلة الشائكة ولأني قد كتبت عنها من قبل فلن أطيل في ردي علي
هذه الرسالة.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
يا صديقي إنني لا أعرف تخصصك العلمي على
وجه التحديد, ولا أعرف في أي مجال من مجالات العلم والطب أنت دكتور.. لكني أعرف
بالتأكيد أنك دكتور وبدرجة الامتياز في فن الجحود والبطر!!
يا دكتور أعطتك الدنيا زوجة رائعة كهذه
الزوجة.. جميلة ومن أسرة طيبة ومحبة ومخلصة وقادرة علي العطاء.. بل هي نهر من
العطاء المستمر لك منذ عرفتك من تقديمها ثمن الجهاز لك في السر لكي تحفظ عليك
كرامتك أمام أسرتها, إلى الوقوف بجوارك في أغلب الظروف إلي مساندتها العلمية
والمعنوية لك في دراستك.. إلى سعيها لدى قريبها مدير البعثة لتعديل بعثة الدكتوراه
لك لكي لا تعود هي بالدكتوراه وتعود أنت بالخيبة والفشل , إلى توفير كل أسباب
السعادة لك.. إلى التفاهم والتقارب الفكري والعلمي بينكما الذي يسمح لكما بتبادل
الخواطر والأفكار بالإنجليزية والفرنسية! حتى الشقة التي تعيش فيها الآن في حياة
منفصلة في انتظار الطلاق هي شقتها التي ورثتها عن أبيها.. إلى كل شئ فحتى عند
الخلاف كانت كريمة ومعطاءة فقررت التنازل لك عن كل شئ, فلا تتورع بعد كل ذلك من أن
تستكتبها ورقة تتنازل فيها عن حقوقها لك وهي التي لم تستكتبك ورقة مثلها حين دفعت
من مداخرتها ثمن الجهاز, ولعلك لم ترد دينك هذا إليها حتي الآن .. لكنه علي أية
حال دين بسيط لا يقاس بأي حال من الأحوال بديونها الأخرى عليك.. ثم تفكر بعد كل
ذلك يا دكتور, يا من وصلت إلي أعلي درجات العلم في الاستجابة لوسوسة شقيقتك أو
لوسوسة نفسك بمعني أصح, تفكر في الزواج مرة أخري من فتاة عادية فاتها قطار الزواج
وليس فيها ما يغري بالإقدام علي هذه الحماقة.. فحتي الإنجاب منها ليس مضمونا وفي
علم الغيب أليس هذا جحودا لا مثيل له لعطاء هذه الزوجة الرائعة؟.
أو ليس هذا بطرا بل كفرا بالنعمة التي
غمرتك بها الدنيا إنك غارق يا صديقي في نعيم لم تحسن تقديره.. لأنك إنسان والإنسان
لا يري غالبا ما بين يديه من أسباب السعادة ولا يتحدث بنعمة الله عليه غالبا..
لكنه يرى فقط ما ينقصه دائما.. ويولول له ويشكو من نقصه.. إنني لا أنكر عليك رغبتك
في الإنجاب.. لكن هل تساوي وحدها التضحية بهذه الحياة السعيدة وبهذه الزوجة
الممتازة.. لقد تصورت أنك تستطيع أن تجمع كل أسباب النعيم من طرفيه.. يا صديقي لا
تتبطر علي ما أنت فيه من نعيم ومزق الورقة التي استكتبت زوجتك لها.
وأطرق باب غرفتها واطلب صفحها.. وتخل عن
مشروع الزواج الجديد, واعتبر ما جري مجرد ضعف بشري أرجو أن تقدره زوجتك الطبيبة
وتغفر لك.. لا لشئ إلا لأنك إنسان في النهاية وقتل الإنسان ما أكفره !!
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر