القائمة الرئيسية

الصفحات

صوت الصمت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

 

بريد الجمعة 1986


إن بعض الأحزان لا تجدي معها أحيانا كلمات العزاء ، وبعض الآلام قد تنطق الإنسان من شدتها شعرا ونثرا وما هو بشاعر ولا ناثر.

عبد الوهاب مطاوع

 

أكتب إليك هذه الرسالة لأعرض عليك مشكلة وأطلب منك أمرا.

فأنا سيدة أقيم في ضاحية المعادي منذ فترة طويلة، وقد عشت حياة هادئة مع أسرتي الصغيرة المكونة من زوجي وابني الوحيد، ومضت سفينة الحياة بنا بلا عواصف ولا أعاصير، يجمعنا الحب والوفاء والاحترام. ونتبادل الاهتمام كل منا بالآخر، ويسأل كل منا صاحبه في الصباح هل نمت جيدا؟ وتجمعنا مائدة الإفطار مع فنجان الشاي وصحيفة الصباح، نقرأ أخبار الدنيا ونتبادل التعليقات، ثم يخرج ابني إلى عمله وزوجي إلى ناديه ليلتقي بأصحابه ومعارفه، ثم تجمعنا مائدة العشاء معا نحن الثلاثة مهما كانت مشاغل ابني، تربطنا بالجيران والناس علاقات ود واحترام على البعد، نكره المشاكل ونبتعد عنها، ولو تنازلنا عن بعض حقوقنا، وفي العام الماضي وصلت رحلة الحياة إلى غايتها المحتومة بالنسبة لزوجي العزيز فرحل عنا إلى العالم الآخر وتركني مع ابني وحدنا.. فتقبلنا قضاء الله وقدره برضى واستسلام، وواصلنا حياتنا، وزاد ابني من الوقت الذي يقضيه معي بعد أن أصبحت وحيدة، فأصبح يحرص على ألا يتركني وحدي ساعات طويلة، وأصبح يحرص على أن يتناول معي طعام الغداء كل يوم. وأن يصاحبني في تنقلاتي..

ويدعوني للخروج للمشي معه في شوارع الضاحية لكيلا استسلم للحزن وانعدام الحركة، وكان ابني من المتفوقين دائما في دراستهم، أمضي سنوات الدراسة كلها وترتيبه الأول، ولم أشعر طوالها بعذاب الأمهات مع أبنائهن في التعليم.. ولم أقل الله يوما ذاكر دروسك بل لعلي كنت أطلب منه أحيانا ألا يرهق نفسه بالاستذکار كثيرا، وبأن يروح عن نفسه قليلا حتى لا يمل الدراسة والاستذكار، واستمر هكذا إلى أن أنهى دراسته العالية وحصل على وظيفة مرموقة مارسها بإخلاص وضمير، وكان يمنعنا بالحديث عيا يصادفه فيها من أحداث وأمور فنسمع له معجبين ونوصيه - وهو لا يحتاج إلى توصية - بأن يرعى الله وضميره في عمله.. فيؤكد لنا ذلك. ونصدقه لأنه من غرست الرحمة في قلوبهم، وليس أدل على ذلك من عطفه على بعد رحيل أبيه وارتباطه بي بعده.


وحركني وسكوني وصلاتي وخشوعي وهنائي ودموعي وبهجتي وقلقي وصعودي ونومي ويومي وغدي وأرضي وسائي وغرامي وهيامي


لقد كان كل شيء في حياتي يا سيدي بعد رحيل أبيه، ثم شاءت الأقدار أن تفرق بینشاء، ولقد كتبت لك هذه الرسالة لأطلب منك أمرا لعلك تستطيعه .. ولعلي أجد فيه بعض العزاء عما أعانيه من وحدة والأم، فأنا إحدى قارئات بابك، وقد كتبت إليك لأسالك عما إذا كنت تستطيع أن تجد لي من بين قارئاتك من ذوات الحاجة من تقبل أن تقيم معي في مسكني الخالي.. إنني واثقة من أنك لن تتردد في إجابة هذا الطلب لو استطعت، مع العلم بأني لا أضع أية شروط سوى أن تكون على خلق طيب وألا تكون مرتبطة أو على علاقة بأحد.. فهل تفعل؟


ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

نعم أفعل يا سيدتي وكلي أسى وأسف لما شهدته حياتك الهادئة من تطورات مؤلمة، إن بعض الأحزان لا تجدي معها أحيانا كلمات العزاء، ومنها.. حزنك النبيل هذا الذي يعنصرك الآن وينطلق قلمك بهذه الكلمات البليغة المريرة عن اینك العزيز الراحل، وبعض الآلام قد تنطق الإنسان من شدتها شعرا ونثرا وما هو بشاعر ولا ناثر، لذلك فمهما قلت لك يا سيدتي فلن ترقى كلماتي إلى مستوى أحزانك، ولعل الصمت أجدى تعبيرا عن الأسى والمشاركة في مثل هذه الحال من

لقد تذكرت بالرغم من أنك لم توقعي رسالتك باسمك.. وتذكرت أنك لست فقط إحدى قارئات هذا الباب، وإنما أنت أيضا إحدى المساهمات في التخفيف عن آلام الآخرين بالمشاركة الإنسانية وبالفعل، وتذكرت أنك كثيرا ما اتصلت بي تليفونيا تطلبين معاونة بعض أصحاب الحالات التي قرأت عنها في هذا الباب.. وربما غلبك التأثر أحيانا بظروفهم فبكيت وأنت تعرضين علي معاونتهم. 


ولعلكم يا سيدتي كنتم تتداولون في أمرهم وتقررون مساعدتهم وأنتم تقرأون صحيفة الصباح وتتبادلون الآراء والتعليقات على مائدة الإفطار في الأيام الخالية.

لذلك فإن الرحمة لم تنشأ في قلب ابنك العزيز الراحل من فراغ.. وإنما غرست فيه وتعمقت في هذا الجو الأسري الذي ساده الحب والتعاطف والتراحم بينكم خلال رحلة الحياة، لكن ماذا نفعل يا سيدتي إزاء حقائق الحياة المؤلمة التي لا حيلة لنا فيها.. ولا مهرب منها؟ لا شيء تملکه سوی مواصلة الحياة والتجلد.. والاستعانة بالصبر والصلاة ومحاولة نسيان التجارب الأليمة والمشاركة في النشاطات الاجتماعية بقدر الإمكان، عسى أن تشغلنا عيا نحسه وتعانيه، أما مطلبك فسوف أبذل كل جهدي لتلبيته خلال أيام، وسوف أختار لك من أثق في خلقها ودينها وأرشحها لك لتكون رفيقة درب لك تخفف عنك بعض ما تحسينه من وحشة وفراغ، وأرجو أن يوفقني الله في ذلك والسلام.

  *نشرت سنة 1986 في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة


راجعها وأعدها للنشر
نيفين علي

reaction:
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك

تعليقات

محتوي المدونة غير منسوخ من الانترنت ولكنه جهد فريق عمل قام بجمعه من أرشيف جريدة الأهرام وإعادة كتابته ومراجعته وتهيئته للنشر ليكون مرجع شامل لمحبي الأستاذ .. لذا نرجو من السادة الأفاضل الذين يتخذون المدونة أساسا ومرجعا لمنشوراتهم عدم النسخ والاكتفاء بروابط الرسائل لحفظ مجهود فريق العمل وإلا عرضوا أنفسهم للإساءة والفضح على وسائل التواصل الاجتماعي ليكونوا عبره لغيرهم من سارقي جهد غيرهم. نيفين علي .. بسنت محمود