الربـاط المقدس .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 

الربـاط المقدس .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

الربـاط المقدس .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988


الله سبحانه وتعالى يأخذ ويعطي ويمنح ويمنع ويحرم ويعوض ويجمع بين القلوب بخيوط خفية لا يعرف أحد سرها.

عبد الوهاب مطاوع

 

 أنا سيدة في التاسعة والثلاثين من عمرى تخرجت من إحدى الكليات العلمية من تسعة عشر عاما وارتبطت عاطفيا بزميل لي في الكلية وتخرجنا معا فعمل هو معيدا بالكلية وعملت أنا بأحد المراكز العلمية وبعد عام من التخرج تقدم حبيبي لخطبتي واحتفلنا بعقد القران في حفل عائلي بسيط في النادي الصغير الذي نشترك فيه ، وبعد عام من الخطبة استطعنا أن نؤجر شقة صغيرة جميلة في حارة مطلة على نفس النادي و تشاركت مع خطيبي في دفع مبلغ الخلو المطلوب وتشاركنا في التأثيث وقدم لي أبي كل ما معه فأثثناها بأثاث جميل بسيط أبرز ما فيه غرفة كبيرة للمكتب والمعيشة وتم الزفاف وبدأنا حياتنا الجديدة ، ومرت أيام العسل سريعة ، وعدنا إلى أعمالنا وبدأ زوجي يحضر رسالته للماجستير وكنت قد سجلت رسالتي معه فقررت أن أؤجل امتحانی فيها عاما لكي أساعده في إنهاء رسالته ، واستطعنا فعلا الانتهاء من تحضيرها خلال وقت قصير وحصل زوجی على الماجستير فتفرغ لى في العام التالي حتى استطعت إنهاء رسالتي وتقدمت بها لنفس الكلية وحصلت أنا أيضا على الماجستير ، وبدأ زوجی پراسل الجامعات الأجنبية ليحصل على منحة دراسية لدراسة الدكتوراه في إحداها ، وكلما جاءه رد منها بالاعتذار عاد حزينا يندب حظه فأخفف عنه وأداعبه بأن الله لا يريد له أن يفارقني بهذه السرعة لأن مرتب المنحة الدراسية لن يسمح له باصطحابی معه . وهكذا حتى جاءته الموافقة من الكلية العشرين التي راسلها وكانت في أمريكا فطار فرحا وانشغلنا بترتيب سفره .. وكان في حاجة إلى ثمن تذكرة الطيران لأن المنحة مقصورة فقط على الدراسة ومصروف شهري صغير جدا ، فبعت إسورتي وقدمت ثمنها له ليشتري تذكرة السفر واتفقنا على أن يسافر ويبدأ دراسته ثم أزوره أنا في إجازتي وسافر حبيبي إلى بلاد الغربة بعد عامين من زواجنا ، وكابدت آلام الفراق التي لم تخفف منها رسائله الطويلة إلى أن نجحت في الحصول على اجازة من عملي وجمعت كل ما معي من نقود واشتريت تذكرة الطائرة وطرت إليه وكان منظرنا مثيرا وهو يحملني بين ذراعيه في المطار ويدور حول نفسه عدة مرات حتى أصابه الدوار ومن حولنا يضحكون ويبتسمون وعشت معه أياما جميلة في غرفة ضيقة بها سرير مفرد وركن للمطبخ وليس بها حمام وانتهت إجازتي سريعا فعدت وكان باقيا له من مدة الدراسة عامان ونصف فاتفقت معه على أن يأتي في اجازة الصيف التالى ليقضي معي شهرين وسوف أدبر له ثمن التذكرة خلال العام .. وودعته وعدت لبلدي وقلبي هناك وعشت شهورا طويلة في حالة تقشف شديد لأدخر معظم مرتبي وأوفر له ثمن التذكرة ، حتى أصبت بالهزال ولم أعد أروح عن نفسي إلا بالذهاب إلى النادي صباح يوم الجمعة وقبل أن يأتي الصيف بأسابيع فوجئت بوالد زوجي يأتي إلى في الصباح وهو منهار ويقول لي إنه تلقى مكالمة تليفونية من القنصلية المصرية تنعى إليه ابنه في حادث تصادم وأن و .. ولم أسمع باقی عبارته .. ولم أشعر بالدنيا إلا وأنا في سريري وحولى شقيقاتي وأمي ، وحين تنبهت لنفسي نهضت صارخة لأذهب إلى المطار وأستقبل زوجي فأعادوني بالقوة إلى سریری وقالوا لي إن كل شيء قد تم .. ثم جاء الطبيب وأعطاني حقنة منومة فغبت مرة أخرى عن الوجود .

ومضت أيام وقرر أبي أن يعيدني إلى بيته لكي يبعدني عن شقة الزوجية فاعتذرت له بإصرار فسلم برغبتي وأقامت معى أمي عدة أسابيع حتى ألححت عليها أن تعود لبيتها ، وعدت إلى عملى وحاولت شغل نفسي بإعداد رسالة الدكتوراه فلم أستطع أن أحقق فيها أي تقدم لأني كنت کلما جلست إلى المكتب غامت عيناي بالدموع وتذكرت حبيبي وهو يجلس إلى نفس المكتب يقرأ حينا .. ويداعبني حينا آخر ثم يناديني بأعلى الصوت إذا غبت عنه كأنه طفل تخشى البقاء وحده ، فبدأت أضيق بالشقة وبدأت أخرج وأذهب إلى النادي فأتجول فيه على قدمی من مكان إلى مكان حتى يهدني التعب فأجلس لألتقط أنفاسي وأشرب فنجانا من القهوة ثم أنصرف ، وبدأت أمي تحس بالقلق على .. وبدأت شقيقاتي يلححن على بترك الشقة والإقامة مع أبي فرفضت دلك ولم أرحب بأن تقيم إحدى شقيقاتي معي لأني كما قلت لهن أدمنت الوحدة ولم أعد أحس بالراحة إلا وأنا وحدي فبدأن يتحدثن عن الزواج مرة أخرى فأكدت لهن أني قد عرفت نصيبي من الزواج ولن أستطيع أن أعاشر رجلا آخر مهما حاولت .

ومضى عامان وأنا على هذا الحال ضعف خلالها بصري من كثرة البكاء ونصحني الطبيب بارتداء نظارة سوداء لأتجنب الشمس ، فأصبحت ارتدی السواد في كل شيء ، كما أصبحت أيضا أقضي أوقاتا طويلة في النادي وحدی أطوف ملاعبه وأجلس على المقاعد الحجرية لأشاهد تمرين الفرق الرياضية أو مباريات الأطفال وذات يوم كنت أجلس وحدي أتفرج على بعض الأطفال يلعبون الكرة فجاءت طفلة في الخامسة من عمرها وجلست بجواري ولم أشعر بوجودها إلا حين التفت إليها بعد فترة فوجدتها تنظر إلى بتردد وتبتسم فابتسمت لها فظلت جالسة بجواري حوالي نصف ساعة وهي مستكينة .. ثم نهضت وانصرفت وتعجبت من إحساسي بالارتياح لها وتابعتها بنظري حتى غابت بعيدا وبعد يومين ذهبت إلى النادي وإلى نفس الملعب وجلست فإذا بنفس الطفلة تأتي وتجلس إلى جوارى في هدوء وهي تبتسم فأرد ابتسامتها ثم تمضى حوالى ساعة جالسة صامتة ثم تنهض وفي المرة الثالثة سألتها عن اسمها فعرفت أنه ياسمين ... ووجدت في حقيبتي باکو من اللبان فأعطيتها بعضه وجلسنا صامتين إلى أن انصرفت .

وفي المرة الرابعة وجدت شعرها منكوشا فأخرجت مشطي وسرحت شعرها وعقصته لها .. وبعد أسبوع جاءتني نفس الطفلة فأحسست لأول مرة إنى على استعداد لقبول صداقة إنسان جديد وأحببت أن أرى أم هذه الطفلة المؤدبة الهادئة الصامتة دائما فسألتها عن أمها فقالت لي ببساطة : ماما مسافرة ! فسألتها مسافرة فين ؟ فقالت : لا أعرف .. مسافرة من زمان !

وأدركت الموقف فانقبض قلبي وسكت وأمضينا الجلسة صامتتين حتى انصرفت عني وشغلتني أمور الحياة عن بعض همومي فبدأت اعتاد حیاتی وبدأت تحضير رسالتي ، وبين حين وآخر تعرض على أمي أو إحدى شقيقاتي عريسا فأرفض وأغضب . لكني وجدت نفسي مشدودة إلى هذه الطفلة التي أراها في النادي وأتذكرها كثيرا في وحدتي .

وذات يوم جاءتني وأنا جالسة في مقاعد المتفرجين بملعب الكرة وجلست بجواری وتحدثنا قليلا ثم فاجأتني بسؤال غريب إذ ترددت قليلا ثم قالت لي بصوت خافت : تتجوزي بابا يا طنط ؟ وتعجبت من هذا السؤال وسألتها من هو بابا يا ياسمين ، فعرفت منها أنه مدرب فريق كرة اليد في النادي وأنه مدرس بأحد معاهد التربية الرياضية وأنها تعيش معه وحدها في شقة قريبة أيضا من النادي ، ثم وهو الأهم أن أباها هو الذي كلفها بأن تسألني هذا السؤال !

ولم أشأ أن أجرح مشاعرها فقلت لها أني سأفكر في الأمر ففرحت جدا وقبلتني وجرت سعيدة وغبت عن النادى ثلاثة أسابيع ثم ذهبت إليه فجاءتني ياسمين تجرى ثم لم تمض دقائق حتى جاء شاب وسيم في الخامسة والثلاثين يقترب بحذر وأدب ثم حياني وقدم على نفسه بأنه والد ياسمين فرددت تحيته بتحفظ وانصرف هو بعد دقائق ، وتكررت نفس القصة بعد ذلك عدة مرات ، ووجدت نفسي لأول مرة منذ 4 سنوات لا أضيق باقتراب رجل مني .. لكني لم أستطع أن أحكم على مشاعري تجاهه .. وبعد تفكير طویل استطعت أن أتوصل إلى حقيقة مشاعري وهي أن هناك رابطة سحرية غامضة بيني وبين هذه الطفلة اليتيمة وأن هذه الرابطة هي المفتاح الوحيد لوجود أية علاقة إنسانية بيني وبين أبيها .. وصارحته بذلك حين فاتحني في أمر الزواج وصارحني بأنه راقبني طويلا خلال العامين الماضيين وسمع قصتى من بعض أعضاء النادي وأحب في حبي لابنته ثم أحبني بعد ذلك حبا صادقا وصارحته بدوري بأنني لا أستطيع أن أدعي أني أحبه لكني لا أعرف ماذا ستحمل لى الأيام بعد ذلك فقبل مني ذلك وطالبني بالموافقة على الزواج وفكرت في الأمر عدة أسابيع ثم استشرت أسرتي فأيدوني فتزوجته بعد 4 سنوات ونصف من رحيل زوجي الأول و أصررت على أن يكون الزواج في شقتي وعلى أن تكون العصمة في يدي ورغم أني لم أتخلص تماما من أحزاني .. فلقد وافقت على أن أرتدي ثوب الزفاف الأبيض استجابة لرجاء ياسمين التي قالت لي أنها تريد فرحا تدعو إليه صديقاتها وأقمنا في شقته حفلا صغيرا حضره الأهل وصديقات ياسمين وحملت ياسمين شمعة طويلة ومشت أمامي سعيدة وابتسامتها تملأ وجهها البريء الجميل وانتقلنا آخر الليل إلى مسكني لنبدأ حياتنا الجديدة ومضت حياتنا نحن الثلاثة هادئة مريحة ووجدت في زوجي الجديد حنيئا شديدا للاستقرار ورغبة في إسعادي وإسعاد نفسه بعد ما عانينا من آلام فاسترحت إليه واستجبت لكل محاولاته للتقرب مني وأحسست بعطف خفي عليه فتجاوبت معه في كل ما يطلبه أما علاقتي الحقيقية فقد كانت مع ياسمين فلقد أصبحت هي اهتمامي الأساسي .. طعامها ولبسها ومدرستها وحمامها وصديقاتها وكل شيء يتعلق بها .. وازداد تعلقي بها حين مضى على زواجي من أبيها عامان فلم أنجب ووجدت في زوجي إنسانا طيبا کریما حسن المعاشرة فأحببته بصدق في العام الثالث من زواجي منه ، أما هو فقد كان قد بلغ قمة حبه لي حتى أصبح يغار أحيانا من حبي لابنته وشغلتني ياسمين عن مواصلة تحضير رسالة الدكتوراه فتركتها جانبا وأصبحت أقضي معظم ساعات المساء في المذاكرة لها وشرح دروس مدرسة اللغات التي ادخلتها فيها .

والغريب أني مع حبي لزوجي لم أفقد حبي لزوجي الراحل وإنما استقر في ركن من قلبي لا يغادره وأفسح إلى جواره مكانا لحبي الجديد واطمأن قلب زوجي إلى ، فتفرغ لعمله وترقى إلى أستاذ مساعد وأعطى فريقه في النادي كل اهتمامه ، وأصبحنا ، أنا وياسمين نطوف الملاعب وراءه ونشجعه ، ونسعد بانتصاراته ، وتأكدت من أنه لا حياة لي بعيدا عنه أو عن ابنته فعرضت عليه أن أتنازل عن العصمة له فرفض لأن ذلك لن يغير من الأمر شيئا وكان زوجی يبدأ يومه في الصباح الباكر بالذهاب إلى المعهد ثم يعود إلى البيت ليتناول طعامه ويخرج ماشيا إلى النادي فينشغل بتدريب الفريق حتى المساء ثم يعود منها . فيمضي ساعتين معنا وينام ، ولأنه كان يرهق نفسه في التدريب فقد كان ينام بعمق ولا يصحو على جرس المنبه واضطر لإيقاظه عدة مرات حتى يتنبه . وذات صباح رن جرس المنبه حتى توقف رنينه ولم يصح زوجي فبدأت ایقاظه وناديته بصوت خفيض .. ثم بصوت عال ثم بصوت أعلى ثم هززته بیدی ليتنبه .. مرة ومرات ومرات .. ثم صرخت من أعماق حتى تجمع الجيران أمام باب شقتنا وجاءت ياسمين فزعة فخرجت بها من الغرفة وفتحت باب الشقة فاندفع الجيران إلى الداخل وأنت تعرف الباقي .

فلقد مات زوجي الثاني يا سيدي في فراشه بلا مرض وبلا شكوى ولا مقدمات بعد أن حرك المشاعر القديمة في قلبي وأيقظ المارد النائم فيه وأحببته باخلاص وارتبطت به للأبد .. مات بعد 5 سنوات من الزواج لم أر منه خلالها شيئا سيئا ولم يغضبني مرة ولم تختلف لحظة واحدة .. تماما كما مات زوجي الأول بعد ثلاثة سنوات ونصف من الزواج السعيد المشتعل بجذوة الحب وترملت مرة أخرى یا سیدی قبل أن أبلغ الأربعين وارتديت ملابس الحداد مرتين كأنه مكتوب على ألا أسعد طويلا ومشيت نفس المشوار القديم مرة أخرى .. وشربت من نفس الكأس .. وضعف بصري مرة أخرى وعدت لارتداء النظارة السوداء .. و روضت نفسي على احتمال الأمر الواقع فأفرغت كل حبي وحرماني وعواطفي المكبوتة في ياسمين التي أصبحت يتيمة الأبوين ولم يعد لها في الدنيا سواي ورتبت حياتي على أن أعيش لها وأن أرعاها وأشرف على تعليمها إلى أن تكبر وتتخرج وتتزوج على يدي وجاء أعمام زوجي يتحسسون الموقف بعد الوفاة فأعلنتهم أني لن أتنازل عن ياسمين أبدا ولن أتركها وأكدت لهم ياسمين أنها لن تعيش إلا معي فتركوها معي مطمئنين خاصة أني تنازلت عن كل ميراثي عن زوجي لها وكتبته باسمها .

ووطنت نفسي على أنه لا نصيب لي في السعادة أكثر مما حصلت عليه وأن على أن أرضى بنصيبي وبالأيام السعيدة التي عشتها وأن أعيش على ذكرياتها إلى نهاية العمر ، وبدأت انشغل برسالتي للدكتوراه التي أهملتها طويلا .. وأعطيت ياسمين اهتماما كبيرا وهي في الشهادة الابتدائية فجاء ترتيبها الأولى على مدرستها وألحقتها بمدرسة إعدادية راقية ستبدأ دراستها بها العام القادم لكن هدوء حیانی تعكر فجأة منذ أيام حين جاءني عم ياسمين الأكبر وفاتحني بعد تردد في أمر ضم ياسمين إليه ، مبررا ذلك بأن رغبتي في احتضانها قد تكون متأثرة بظروف المأساة وأني قد أراجع نفسي في ذلك كما أني كما قال سوف أتزوج في يوم من الأيام وستجد نفسها غريبة بيننا.

 

 


ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

لو صح أن تسمى بضع كلمات أخطها على الورق خدمة تستحق الرجاء فإني أقدمها لك يا سيدتي بكل ترحيب ليس من أجلك فقط وإنما من أجل ياسمين ومن أجل كل القيم والمعاني الإنسانية النبيلة التي يمثلها موقفك من هذه الطفلة المحرومة ويمثلها أيضا موقف عمها الفاضل منها . فالحق أنه لا خلاف بينهما في الدوافع السامية ولا في الأهداف النبيلة لكل منكما ، فإن كان ثمة اختلاف بسيط فهو اختلاف النبلاء أو على الأصح تنافسهم لتحقيق الغايات الشريفة مما سوف پیسر مهمتي إلى حد كبير ، فأنت یا سیدنی ترغبين في الاحتفاظ بياسمين وفي استمرار رعايتك لها حتى تكبر وتخرج وتزوج في كفالتك وهو يريد مخلصا أن يؤدي الأمانة التي ألقت بها الأقدار الحزينة على عاتقه فيضم ياسمين إلى كفالته أو يطمئن على الأقل إلى أن رغبتك في رعايتها لم تكن مجرد انفعال عاطفي عابر في ظروف المأساة وإلى أنك لم تضيق بهذه المهمة الإنسانية أو ترغبي في التخفف منها .. فأي نبل في الدوافع والغايات أكثر من ذلك ؟ وماذا أستطيع أن أقول لك أو لمثل هذا العمر الجاد الفاضل سوى أن رعاية ابنة شقيقه هي من حقه شرعا وقانونا ، لكن هناك اعتبارات إنسانية ترقى إلى مرتبة أحكام الشرع والقانون حين لا تتعارض مع أهدافها في تنظيم حياة البشر وإسعادهم لذلك فلا ضرر البتة في استمرار كفالة هذه السيدة لابنة شقيقك وهي من هي فضلا وخلقا وعلما وحبا وعطفا وحنانا وهي أيضا من تزوجت من أبيها في البداية رغبة في كفالة هذه الطفلة المحرومة قبل أن يجمع الحب بينها ولا وجه للعجب في ذلك يا سيدي والله سبحانه وتعالى يأخذ ويعطي ويمنح ويمنع ويحرم ويعوض ويجمع بين القلوب بخيوط خفية لا يعرف أحد سرها وقد شاءت إرادته أن يهيئ لهذه الطفلة هذه الأم الرؤوم ليعوضها حنان أمها التي حرمت منه ويخفف عنها في مقبل الأيام حرمانها من أبيها ، و ليخفف بها هي أيضا عن هذه السيدة مرارة الكأس التي تجرعتها مرتين ومرارة الوحدة فأي عجب في ذلك والأمور تجري بالمقادير ، والأقدار التي تحرم البعض هي نفسها التي تأسر جراح المعذبين .. ولقد لمست بنفسك مدى ارتباط إبنة شقيقك بالأم الوحيدة التي عرفتها في حياتها حتى الآن وتأكدت بنفسك من صدق نية أرملة شقيقك في رعايتها بلا غرض ورعاية ابنة في حد ذاتها مسئولية تنوء بها الكواهل ويفر منها بعض من يتوجب عليهم أداؤها فهون عليك يا سيدي فليس هناك ما يمنع أبدا من أدائك لواجبك الإنساني في رعاية هذه الطفلة مع استمرار احتضان أرملة شقيقك لها وحتى لو تحققت مخاوفك من أن تتزوج ذات يوم وهو احتمال بعيد فليس هناك ما يمنع من أن تستردها بعد أن تكون قد فازت بسنوات أخرى من العطف والحنان والرعاية وهي الطفلة التي تحتاج في سنواتها الحرجة القادمة إلى رعاية لا تقدر عليها سوى مثل هذه الأم الفاضلة التي تعتبرها عزاءها وسلواها وهدية الأقدار لها ، فلا داعي للمخاوف ولا للقلق فما أسهل التفاهم بين ذوي النوايا الطيبة .. وما أهون التوفيق بين رغباتهم المبرأة من الهوى والغرض وفي النهاية يا سيدي فليس المشكل في النصيحة .. وإنما المشكل في قبولها .. كما قال صادقا الإمام الغزالي فهل ينطبق ذلك على الفضلاء من أمثالكم ؟ لا. إنما يقبل الفضلاء النصيحة المخلصة حتى لو تعارضت مع هوى نفوسهم ، لهذا فلست أظن أن فضلك وكرمك سوف يسمحان لك بأن تحرم هذه السيدة المكلومة من القيمة الإنسانية الوحيدة في حياتها الآن .. وشكرا لك مقدما .

  *نشرت سنة 1988 في جريدة الاهرام باب بريد الجمعة

شارك في الإعداد
محمدعايدين

راجعها وأعدها للنشر
نيفين علي

 

 

 

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات