القائمة الرئيسية

الصفحات

العش الخالي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

   

العش الخالي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

العش الخالي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988


إن في الحياة من الخير ما لا نعرفه ، ومن البشر من لا نسمع عنهم الكثير .

عبد الوهاب مطاوع

 

أنا شاب في الثانية والثلاثين من عمري .. كنت طالبا بكلية الطب أتمتع بالقوة والشباب والتفوق .. ثم بدأت أحس بخور في قواي يؤثر على حركتي فعرضت نفسي على أساتذتي وعرفت أني فريسة لمرض يتسلل إلى الجسم رويدا رويدا ويفقده القدرة على الحركة . ورغم صدمتي الهائلة فلقد وهبني الله قدرة غريبة على الصبر فقاومت أشد ما تكون المقاومة وحاربت وسواس المرض حتى تخرجت في كلية الطب وعمري 24 سنة بتقدير مرتفع وبدأت حياتي العملية . وهنا كنت قد استنفدت كل قدرتي على المقاومة فبدأت أعجز عن المشي وعن القيام من المقعد بغير مساعدة . ورغم حزني الشديد على ما آل إليه حالي فلقد تماسكت بقوة إيماني وصبري .. وبدأت أستعد لمواجهة الحياة بكل أثقالها .. وبغير استعداد للاستسلام رغم المواقف المؤلمة التي بدأت أتعرض لها .. كان يدق جرس الباب وأنا وحدي في الشقة فلا أستطيع أن أنهض لأفتحه وأنا على بعد متر منه . أو كان يمد إلي زائر يده ليصافحني فلا أستطيع أن أرفع ذراعي لأصافحه وابتسم له محرجا فيدرك ما بي ويسرع بإنزال يده .. أو كنت أنتظر إلى أن يأتي صديق من أصدقائي ليساعدني في دخول الحمام ، لأن كل أشقائي قد تزوجوا ولم يبق معي في شقة الأسرة سوى شقيقتي الصغرى وهي أحبهم إلي وأقربهم مني لكني تعودت على احتمال كل ذلك وعوضني الله عن بعض آلامي بان جعلني لا احتاج إلى دخول الحمام إلا مرة كل يومين أو ثلاثة أرأيت حكمة الله في ذلك ؟

منذ يومين بدأت ألاحظ على شقيقتي التي تعيش معي علامات أثارت قلقي وأسلمتني للرعب والشك ليالي طويلة .. فلقد لاحظت عليها بوادر أولى للوحش الذي تسلل إلي منذ 6 سنوات وبدأ يزحف علي حتى تمكن مني .. وبخبرتي الشخصية عرفت أن هذا الزائر اللعين يدق أبوابها ويتسلل إليها وعمرها 16 سنة .. وحين تأكدت من ظنوني لم أستطع أن أغمض عيني ليلتها وبكيت في سريري کما لم أبك في حياتي .. ولعلك تعجب أني لم أبك حين عرفت حقيقة مرضى وتسلحت في وجهه بالإيمان والصبر .. أما حين هاجم شقيقتي فلا أعرف أين ذهب صبری .. فلم أتمالك نفسي من البكاء في كل ليلة .. وفي الفترات التي أمضيها وحدي في الشقة وكلما رأيتها تشكو ضعف الحركة تفطر قلبي عليها حتى لقد فكرت جديا وليغفر الله لي أن أقتلها بحقنة سامة إذا أكدت فحوص الأطباء صدق ظنوني لأريحها مما سوف ينتظرها من عذاب .. وأنت تقول دائما في ردودك لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولأني أكابده فلقد فكرت وتسلطت علي هذه الفكرة أياما طويلة قبل أن أستعيد إيمانی وصبري .

وكنت قد عرضتها على الأطباء منذ أول يوم فلم يلتفتوا إلى ما كنت أحس به .. فبدأت أوجههم بطريقة غير مباشرة إلى شكوكي حتى جاءت الفحوص بعد فترة طويلة صارمة كالسيف لتؤكد لي عذابي منذ أول يوم ، وأصبحت مهنتي في الحياة أن أقنعها بأن مرضها مختلف عن مرضى : وأنني أعتبرها عكازي الذي سأظل أستند إليه طوال حياتي .

ومضت بنا الحياة لم يتغير فيها شيء إلا أن دموعي أصبحت أقرب إلى من أي شيء آخر .. وبعد أن كنت أخفيها عنها أصبحت أعجز عن ذلك كلما رأيتها تتعثر في مشيتها وتقترب خطوة خطوة من مصيري . وحين تسلل الوحش إلي كان عمرها وقتها 10 سنوات فكنت أنا أضحك مستهينا بالأمر ومتصبرا وكانت هي تمسح الدموع كلما رأتني ، وانعكست الصورة بعد ذلك فأصبحت هي تبتسم وتتصبر .. وأنا أمسح الدموع كالطفل الصغير .

إلى أن جاءتني ذات يوم شقيقتي هذه وطلبت مني طلبا غريبا جدا هو أن أتزوج ! أنا أتزوج ؟ ومن هي التي تقبل الزواج منی وماذا عندی قد يغري فتاة في مكتمل صحتها بأن تتزوج مني ولست غنيا وأعيش في شقة بمنزل متآكل.

وسمعت شقيقتي كل تساؤلاتي ثم قالت لي عندي من تقبل الزواج منك وليس المطلوب سوى أن توافق وهي تعرف كل شيء عنك .. وسألتها عنها فقالت لي إنها فتاة جميلة متنقبة خريجة تجارة سنها ۲۷ سنة وأنها سوف تتحدى الدنيا كلها إذا تزوجتني لأنها تريد أن تعمل عملا تنال به رضا ربها.

وفكرت في الأمر مذهولا أيمكن أن يكون ما تقول صحيحا. وهل في الحياة الآن من تقدم على هذه التضحية لتكون ذراعا يستند إليه شاب الآن وشقيقته بعد حين ؟.

وتخيلت حال شقيقتي حين تعجز عن الحركة نهائيا .. وحالي معها .. ووجدت نفسي أوافق بل وأحلم بأن يتحقق هذا الحلم ، ولن تتخيل ما حدث من ثورة في بيت أسرتها ضدها ولا ما ووجهت به من معارضة من كل أفراد الأسرة لكنها تمسكت بالموافقة وتم القران وجاءت إلى بيتي ورفعت النقاب لأول مرة وقلبي يخفق لأرى وجها ملائكيا .. لم أتخيل جماله في يوم من الأيام .

فلم أعرف ماذا أقول .. سوى أن أسألها وغلالة من دموع تغطي عيني كيف رضيت بأن تسجني هذا الجمال مع إنسان مثلي ؟. فوضعت أصبعها فوق فمي لتمنعني من الكلام ، ثم نهضت لتصلي صلاة شكر لله ، وبدأت أجمل أيام عمري ، وبعد إجازة الزفاف عادت تخرج إلى عملها فتودعني في الصباح طالبة مني الدعاء لها وتعود إلي مسرعة في الظهر لتروي لي كل ما صادفته في الطريق وفي العمل وفي الشارع وعلى سلم البيت . ثم تمضي الوقت في الطهي وإدارة البيت والطوفان حولي لتسألني كل لحظة هل تريد شيئا أو لتسقيني ماء أو قهوة أو شرابا .. وبالغت في تدليلي حتى لم أعد أكل وأشرب إلا من يدها .. وعرفها أقاربي وجيراني وأحبوها وأحاطوها بالاحترام الشديد . وأصبحت سيدات الأسرة والجيران يزرن مسكني كل يوم لتحيتها والائتناس بها. لأنها حلوة اللسان جميلة المعاشرة .

وغيرت مني زوجتي كثيرا فجعلتني أخرج من البيت بعد أن كنت حبيسا فيه معظم الأوقات ، وجعلتني أزور الناس والأهل والجيران وجعلتني أتقرب إلى الله بأعمال كثيرة أبسطها زيارة المرضى وعلاجهم حتى ندمت على كل ما ضاع من عمري قبل أن أعرفها .

واستمرت حياتي معها على هذا الشكل ثلاث سنوات كاملة .. ثم حدث من حوالي شهر أن وقع نقاش بسيط بيني وبينها تطور بسرعة البرق فوجدت نفسي بغير أن أحس أوجه لها اهانة لم تحتملها .. فنهضت صامتة ثم جمعت ملابسها في حقيبة وأرادت الخروج فاستأذنتي في العودة إلى بيت أهلها إلى أن تصفو النفوس. لأنها تؤمن بأنه حرام أن تخرج الزوجة من بيت زوجها إلا بإذنه حتى ولو كان خروجها غضبا منها وكان من الممكن يا سيدي أن أتدارك الأمر فأرفض الإذن لها .. بل وأستسمحها وأقبل رأسها .. ولو كنت شجاعا لطلبت منها العفو وقلت لها إني لا أطيق بعادها عنى ساعة ولو فعلت ذلك لانتهى الأمر.

 



 

 ولكاتب هذه الرسالة أقول :

 إن الإنسان الصادق مع نفسه هو الذي إذا أخطأ في حق آخر اعترف له بخطئه واعتذر عنه وقدم له الترضية التي تتلاءم مع حجم الخطأ .. والإنسان الكريم هو الذي يقبل هذا الاعتذار ويجود بالعفو ويصفو قلبه من المرارة بمجرد قبوله الاعتذار.

وأنت يا صديقي تعترف لي بخطئك في حقها .. فلا يبقى إذن إلا أن تعتذر عنه ، وأن تقدم إليها الترضية الكافية التي يبرأ بها جرح نفسها وليس ذلك بكثير على هذه الزوجة الملائكية التي تؤكد لي بقصتها معك أن في الحياة من الخير ما لا نعرفه ، ومن البشر من لا نسمع عنهم الكثير .

لقد تلاحقت أنفاسي وأحببت الحياة وأنت تصف لحظة رفعك النقاب عن وجه زوجتك وتروي لي طريقة معاملتها لك وكيف تحيطك بالحب والرعاية وكيف دفعتك إلى الخروج من البيت وزيارة المرضى وأداء الأعمال التي تتقرب بها من الله .

أما لحظة خروجها غضبى من بيتك فلقد زادتني لها احتراما وإعجابا ولا عجب في ذلك لأنها حتى حين غضبت كان غضبها نبيلا إذ لم تبدر منها فيه كلمة هوجاء ولا إشارة جارحة وفضلا عن كل ذلك فلقد أبت على نفسها أن تخرج من باب بيتك بغير إذنك مؤمنة بأن خروج الزوجة من بيت زوجها حتى وهي غضبى معصية لا ترضاها لنفسها ! فأي تصرف أحق بالإعجاب والتقدير من مثل هذا التصرف ..

إن زوجتك ليست في حاجة إلى أن تحررها من قيودها كما تتصور شعورا منك بالذنب تجاهها لأنها تزوجتك بكامل رضاها وهي تعرف كل شيء وهي لم تطلب منك الانفصال وما أظن أنها سوف تطلبه لأنها قد حددت اختيارها من البداية وتحملت تبعاته ومثل زوجتك هذه تحركها العاطفة الدينية بأكثر مما يحركها أي شيء آخر، لهذا فهي لن تتخلى عنك أبدا إن شاء الله ولن تخذلك .. ولكنها أرادت فقط أن تشعرك بطريقة عملية بما تقدمه إليك وما تمثله في حياتك لكى تحسن معاشرتها وتحرص على شعورها وترعى الله في معاملتها كما ترعاه هي في كل معاملاتها معك .

ويبدو أن الإنسان يا صديقي يحتاج أحيانا إلى من يذكره بقيمة ما بين يديه من أسباب لكي يفرح بما أتاه الله .. ويحرص عليه من الضياع . لأن الإنسان قد يفقد الإحساس بقيمة الأشياء الثمينة بحكم الاعتياد على رؤيتها لفترة طويلة .. لهذا فنحن في حاجة أحيانا إلى أن ننبه ذاكرتنا لكيلا ننسى قيمتها واعتقد أن ذلك قد تحقق عندك بالقدر الكافي فأسفر إليها طالبا منها السماح ثم زرها ولولا أني على سفر هذا الأسبوع لأبديت استعدادي لزيارتها لأكون سفيرك إليها قبل أن تزورها أنت وتطلب منها أن تعود إلى عشها الخالي لتضيء ظلامه وتبدد وحشته .. كما يضيء البدر المكتمل أفق السماء .. وآه لو أسعدتني فيما بعد بخبر عودة السعادة إلى قلبك المثقل بالأحزان ..

 

*نشرت سنة 1988 في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة


شارك في الإعداد
محمد عايدين

راجعها وأعدها للنشر
نيفين علي


reaction:
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما ستشربه غدا

تعليقات

محتوي المدونة غير منسوخ من الانترنت ولكنه جهد فريق عمل قام بجمعه من أرشيف جريدة الأهرام وإعادة كتابته ومراجعته وتهيئته للنشر ليكون مرجع شامل لمحبي الأستاذ .. لذا نرجو من السادة الأفاضل الذين يتخذون المدونة أساسا ومرجعا لمنشوراتهم عدم النسخ والاكتفاء بروابط الرسائل لحفظ مجهود فريق العمل وإلا عرضوا أنفسهم للإساءة والفضح على وسائل التواصل الاجتماعي ليكونوا عبره لغيرهم من سارقي جهد غيرهم. نيفين علي .. بسنت محمود