الصفحة البيضاء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999
أنا
أم لفتاة في سن العشرين جميلة وعلي خلق ودين تؤدي فرائضها, وترعى الله في حياتها
ومتفوقة في دراستها وتعاملني وتعامل أباها وأخوتها بكل العطف والحب والاحترام,
وكغيرها من البنات فلقد راحت منذ شارفت سن الشباب تحلم بفتى الأحلام الذي سيجيء من
عالم الغيب ويخفق له قلبها وتشاركه رحلة الحياة, وما إن وصلت إلى عامها الجامعي
قبل الأخير حتى تقدم لخطبتها شاب يعمل عملا مهنيا, وتتوافر فيه مواصفات فتى
الأحلام الذي تحلم به, وقمنا بدورنا في الاستعلام عنه وعن أسرته فجاءت المعلومات
مطمئنة, فالأسرة محترمة والشاب متزن وكلامه جميل ومعقول, فشعرت أنا وزوجي
بالارتياح له ولأسرته, غير أن ابنتي لم تشعر من الوهلة الأولي بنفس هذا الارتياح
تجاهه .
وأعطيناها المهلة الكافية للتفكير في الأمر, وفي نهايتها قالت
لنا بأمانة أنها لا تنكر عليه شيئا. ولكنها فقط لا تشعر بالارتياح الكامل له ولا
تدري لذلك سببا, ولأنها تخشى ربها فلقد خشيت أن تظلمه بالرفض لغير سبب واضح
واستجابت لرغبتنا في إعطائه الفرصة لأن يقترب منها وتكتشف فيه مزاياه, وهكذا تمت
الخطبة وبعد فترة قصيرة منها طلبت أسرة الشاب عقد القران, وعارضت ابنتي في
البداية تعجل عقد القران, ثم وافقت في النهاية بالرغم من تخوفها من بعض المؤشرات
التي ظهرت عليه خلال فترة الخطبة كإحساسها بأنه يكذب كثيرا, ومضت الأمور في
طريقها الطبيعي وبدأنا في إعداد الجهاز وبدأنا نتردد كثيرا على الشقة التي ستكون
عش الزوجية لوضع الأثاث والمفروشات إلخ. وكلما اشترينا شيئا جديدا حملناه إلى
الشقة المغلقة ووضعناه فيها.. إلى أن اكتملت الشقة تماما من الأثاث والسجاد
والستائر وأدوات المطبخ والفضيات إلخ ولم يبق إلا إتمام الزفاف بعد أسبوعين وكان
آخر ما اشتريناه هو تليفزيونا ملونا, فأقترح زوجي أن نحمله من المحل إلى الشقة
مباشرة وسأل ابنتنا التي كانت معنا عن مفتاح شقتها وأجابت بأنه معها فتوجهنا
بسيارة زوجي إلى الشقة المغلقة ونحن في غاية السعادة والابتهاج ونتبادل الرأي حول
المكان الأمثل لوضع التليفزيون فيه, وفتحت ابنتي الشقة ودخلنا إليها.. وبدأنا
في وضع التليفزيون فإذا بنا نسمع كلاما وضحكات مكتومة.. وتوجسنا شرا وتصورنا أن
بالشقة لصا يسرق محتوياتها وتجولنا في غرفها بحذر إلى أن فتح زوجي باب غرفة النوم
فإذا بنا نرى خطيب ابنتي الذي سيزف إليها بعد أسبوعين فقط ومعه زميلة لها
بالجامعة, سبق أن ترامت إليها أنباء عن علاقته بها وواجهته بذلك فأنكرها إنكارا
تاما!
ولم تحتمل ابنتي الطيبة الموقف المشين وهرولت خارجة من الشقة..
وواجهت أنا وزوجي هذه اللحظة العصيبة.
وبعد أهوال لا داعي لذكرها استدعينا أهله وروينا لهم ما حدث فعقد
الخجل والذهول ألسنتهم, وطلبنا منهم أن يطلق ابنهم ابنتنا علي الفور, ولم
يلحوا علينا كثيرا للعدول عن مطلبنا لإحساسهم بالخزي مما فعل ابنهم.. لكنه رفض
الطلاق وطلب إعطاءه فرصة أخرى لإصلاح نفسه ولأنه متمسك بابنتي الصفحة البيضاء التي
لم يخط فيها أحد حرفا من قبل كما قال! وأصرت ابنتي ووالدها على طلب الطلاق بلا
أي تفاهم, وقامت ابنتي بعمل توكيل لوالدها لإتمام الطلاق في غير حضورها لكيلا
ترى هذا الشاب مرة أخرى وبعد محاولات عديدة تم الطلاق.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول
يختلف تفاعل الإنسان مع الكثير من مواقف الحياة باختلاف زاوية
الرؤية التي يرصدها منها. وفي حالة ابنتك فلقد استسلمت للحزن والاكتئاب لأنها قد
تفاعلت مع التجربة المحزنة التي تعرضت لها وفقا لزاوية رؤية واحدة رأت من خلالها
أنها قد تعرضت لأذى نفسي كبير بلا أي ذنب جنته في هذه المحنة, وشعرت بالظلم لأن
صفحتها البيضاء مع الحياة والزواج قد نقشت عليها سطور هذه التجربة الفاشلة,
وأصبحت مطالبة بتقديم تفسير لها للغير ولمن يتقدم للارتباط بها في المستقبل,
فضلا عن إحساسها بالمهانة ومرارة الغدر والخيانة ممن توسمت فيه الوفاء لها والرغبة
الصادقة في تكريس مشاعره وعواطفه لها دون غيرها من الفتيات.
ولاشك في أنها محقة في كل ما تشعر به من ألم وظلم وجرح للكرامة
الإنسانية في هذه المحنة القاسية.. لكن ماذا عن زاوية الرؤية الأخرى لنفس هذه
المحنة.. وعن الجانب الآخر الإيجابي فيها ؟
لقد تعرضت ابنتك يا سيدتي لأذى معنوي كبير في هذه التجربة..
وخسرت بعض الخسائر النفسية والمعنوية المحققة فيها.. لكن هذه المحنة من زاوية
أخري قد أكدت لها أن أقدارها قد ترفقت بها فكشفت لها عن الجوهر الحقيقي الفاسد لمن
كانت ستشاركه رحلة الحياة قبل أن يحفر في صفحتها البيضاء أثرا أعمق غورا من أثر
التجربة الفاشلة, وقد يتعذر محوه أو علاجه في المستقبل بغير خسائر جسيمة. إنها
محبوبة الأقدار كذلك وليست ضحيتها فقط كما تتصور الآن فلقد شاءت لها أقدارها
الرحيمة أن تتثبت من صدق مشاعرها المبدئية بعدم الارتياح لهذا الشاب قبل أن يدخل
بها وتنجب منه وتتشابك خيوطها معه ويتعذر فضها بغير أن تدفع من حياتها وأمانها
وأيامها ثمنا فادحا, ولا عجب في ذلك لأن من لم يتورع عن خيانة زوجته التي ستزف
إليه بعد أسبوعين فقط على فراش الزوجية, لم يكن ليتورع غالبا في المستقبل عن
خيانتها والعبث مع غيرها بعد بنائه بها, وكان الأرجح أن تعاني معه الكثير
والكثير من كذبه وعبثه وخيانته لها بعد الزواج والإنجاب.. فلماذا لا تلتفت إلى
هذا الجانب الايجابي في محنتها وتشكر ربها كثيرا عليه ؟
أما تحسبها لتسجيل هذه الزيجة الفاشلة عليها.. واضطرارها لاتخاذ
موقف الدفاع عن نفسها بشأنها مع من سوف يرتبط بها في المستقبل, فهو ثمن قليل
لهذه المحنة التي تلطفت فيها الأقدار بها فحجمت خسائرها كثيرا بالنسبة لها, ولا
يقارن هذا الثمن القليل بالآخر الفادح الذي كانت ستدفعه من حياتها واستقرارها
وأمانها في المستقبل لو كانت قد ارتبطت بهذا الشاب, وما أكثر الزيجات التي تتعرض
للانهيار قبل إتمامها, وتجربة ابنتك يا سيدتي في النهاية ليست تجربة زواج
فاشل, وإنما هي تجربة خطبة لم يقدر لها النجاح والاستمرار حتى ولو كان قد عقد
قرانها على ذلك الشاب خلالها وبالتالي فإن صفحتها مع الزواج مازالت بيضاء من غير
سوء والحمد لله. وستظل كذلك إلى أن يجمع الله بينها وبين من يستحقها ويقدر لها
مزاياها في القريب العاجل بإذن الله.
ونحن في النهاية نعرف الخير بالشر والطيب بالخبيث والأمين بالخائن
أي بمقارنة القيم والأشياء بأضدادها, ولولا وجود الشر في الحياة لما أدركنا قيمة
الخير ولما أعليناه عليه.. فلتهون إذن ابنتك علي نفسها, ولتخرج عن صمتها
وعزلتها.. ولتطلق لسانها من عقاله بالشكوى من سوء حظها الذي عرضها لهذه المحنة
العابرة في حياتها وبالشكر لربها أن أنقذها من حياة زوجية لم تكن لترشحها إلا
للتعاسة والمعاناة, فذلك خير وأفضل من مكابدة الصمت وكتم المشاعر والخواطر التي
تمور داخل النفس وتترك أثرا سلبيا سيئا علي الصحة النفسية. فالصمت هو قمة
الانفعال كما يقول لنا أحد علماء النفس المحدثين, وأكثر اللحظات أثارة للانفعال
في حياتنا هي اللحظات التي يبلغ من انفعالنا لها ألا نجد ما نقوله فيها من
كلمات, ولهذا فاني أدعو ابنتك إلى الخروج عن صمتها ومن عزلتها وإلى المشاركة من
جديد في مباراة الحياة بخبرة أفضل ببعض أسرارها.. وإيمان أكبر بجدارتها بأن تنال
كل ما تستحقه من طيبات الحياة وبثقة أعمق في أن تعويض السماء لها عما تعرضت له سوف
يمحو تلك السطور الباهتة من صفحتها.. ويحل مكانها سطورا مضيئة بالسعادة والتوفيق
في المستقل القريب بإذن الله.
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر