همسة في الأذن .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000
إن الحياة لا تعطي لأحد كل ما يرغبه ويتمناه .. ولن يفلح أحد مهما يفعل في أن يجمع بين يديه كل أسباب السعادة في لحظة واحدة.
عبد الوهاب مطاوع
بريد الجمعة
هذه هي رسالتي الثانية إليك, أرجو أن تحظى بالاهتمام هذه المرة, فقد تزوجت منذ 25 عاما من فتاة من أسرة طيبة بالطريقة التقليدية, وكانت وقتها طالبة بالمرحلة الثانوية, فأصررت على أن تواصل تعليمها بالرغم من معارضة أهلها لذلك, واستجابت لي زوجتي وواصلت التعليم حتى نهاية المرحلة الجامعية, ومضت حياتنا في تآلف شديد يزداد يوما بعد يوم.
ولم تشهد حياتنا أي منغصات سوى أن إرادة الله قد شاءت الا تكتمل لنا السعادة بالإنجاب.. وبعد اليأس التام من كل المحاولات التي استنزفت مدخراتي إلى جانب نفقات التعليم همست في أذن زوجتي برغبتي في الزواج من أجل الإنجاب, وكانت هي قد لاحظت علي هذه الرغبة, فوافقت عليها ولم تشترط علي شيئا سوى أن تكون لها حياتها الخاصة, وتزوجت بالفعل في هدوء ورزقني الله بولدين كم تمنيت لو كنت قد أنجبتهما من زوجتي الأولى لكنها إرادة الله ولا معقب عليها..
وبعد فترة من الهدوء بدأت زوجتي الأولي في تصعيد المشاكل معي حتى وصلت إلى القضاء وطلب الطلاق, ولا أدري السبب في ذلك! مع أني أقسم بالله العظيم اني لم أجرح مشاعرها, وكنت أفضلها حتى على الطفلين اللذين أنجبتهما بعد طول انتظار, وبالرغم من ذلك فإني مازلت آمل في عودتها إلى مملكتها ونسيان ما حدث وهي من قرائك وأريد ان ارجوها من خلال بابك ان تراجع نفسها وضميرها لعل من ترى فيهم اليوم أنهم أعداء يكونون سندا لها في المستقبل, والمستقبل في النهاية بيد الله وليس بيد أحد سواه وحسبي الله ونعم الوكيل فيمن كان سببا فيما يجري الآن, وأرجو أن تنصحني بما أفعل.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
قلت من قبل إنني إذا لم أعرف كل الظروف المحيطة بالموقف الذي يستشيرني فيه طالب المشورة.. فإن نصيحتي له قد تصبح عبئا عليه أكثر منها عونا له.
وأنت يا سيدي قد تجاهلت في رسالتك أسباب تحول زوجتك الأولى من موقف السخط الداخلي المكتوم على زواجك من أخرى, إلى موقف التصعيد والتصادم وطلب الطلاق عن طريق المحكمة.. ووقفت من ذلك موقف الاندهاش والتعجب, وأنت الذي لم تجرح. كما تقول ـ مشاعر زوجتك الأولى وكنت تفضلها حتى على الطفلين اللذين طال انتظارك لهما, وتجاهل الأسباب الحقيقية للمشاكل لا يسهم بأي حال في حلها..
والسبب الحقيقي لمشكلتك هو أنك قد تصورت أن إيماءة الموافقة المغتصبة من زوجتك على همستك لها في أذنها برغبتك في الزواج من أخرى بغرض الإنجاب.. هي قبول صادق وحقيقي من جانبها لزواجك بغيرها.. وهو أمر ضد طبيعة المرأة التي لا تقبل في أعماق نفسها بمشاركة أخرى لها في رجلها حتى ولو أعلنت الموافقة الظاهرية على ذلك. ويبدو ان زوجتك قد اختارت ألا تقف في وجه رغبتك في الزواج والإنجاب لكيلا تتهمها في داخلك بالأنانية والرغبة في حرمانك من الإنجاب, وأملت في أعماقها كما تفعل كل امرأة في مثل ظروفها ان تتراجع عن هذه الرغبة في اللحظة الأخيرة إكراما لها وحين مضيت في خطواتك لإتمام الزواج تعالت على أحزانها وتصورت ان بمقدورها مواصلة الحياة معك عقب زواجك وإنجابك من أخرى, لكن الفارق قد يكون كبيرا في بعض الأحيان بين الأمنيات والواقع. ولو تركت زوجتك لنفسها وأنت تهمس في أذنها بهذه الرغبة, لأعلنت الرفض الصريح لها ولطالبتك بالانفصال قبل إقدامك على الزواج من أخرى .. لكنها آثرت فيما يبدو ان تتيح لنفسها فرصة التجربة, والقبول بنصف الحب إن لم يتح الحب كله, وأثبتت لها التجربة العملية أن تصوراتها كانت بعيدة عن الواقع, وأن شكل الحياة معك بعد الزواج والإنجاب قد اختلف عما كان عليه الحال بالضرورة, ولا أمل في استعادة الماضي الجميل معك فطالبتك بالانفصال, ورفضت أنت ذلك اعتمادا على العشرة الطويلة الهادئة بينكما قبل زواجك.. فلجأت زوجتك إلى القضاء. ونصيحتي لك هي أن تكون صادقا مع نفسك, وأن تقتنع بأن الحياة لا تعطي لأحد كل ما يرغبه ويتمناه, فلقد منحتك السعادة والوئام العاطفي مع زوجتك الأولى وحرمتك لحكمة تخفى على الإفهام من الإنجاب منها. ووهبتك فيما بعد الولد وحرمتك من هدوء الحياة السابق مع زوجتك الأولى, ولن يفلح أحد مهما يفعل في أن يجمع بين يديه كل أسباب السعادة في لحظة واحدة.
فاكتف بما وهبته لك الحياة من نعمة الإنجاب بعد طول الحرمان ولا تنازع زوجتك الأولى في رغبتها في الانفصال عنك مادامت تتمسك به وتصر عليه.. وليكن لها من سابق عشرتها الطيبة معك شفيع لديك في أن تحسن ختام رحلتك معها بالانفصال الهاديء الذي يحفظ الحرمات ولا يكثف المرارات في النفوس فلقد حلت النهاية الطبيعية لعلاقتك بها الآن, ومن الحكمة ألا نطيل في قصة اكتملت فصولها.. ولم يعد باقيا لإسدال الستار عليها سوى حسن الختام.
نشرت في سنة 2000 في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة
راجعها وأعدها للنشر
نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر