الملابس القصيرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

بريد الجمعة أرشيف الأهرام 1990

الملابس القصيرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990



 وما أكثر ما نواجهه من مواقف فى الحياة نحتاج فيها إلى أن نتبع طريقة الإمبراطور الروماني الحكيم ماركوس اورليوس الذي أمضى سنوات طويلة يبحث كيف يقابل الإساءة بالإحسان ثم كتب بعد تفكير عميق : "خير وسيلة للانتقام ممن يسيئون إلينا .. هي ألا نصبح مثلهم".
عبد الوهاب مطاوع


أكتب إليك لأستشيرك في أمر هام سوف يحدد مجرى حياتي .. وابدأ بأن أروى لك قصة نشأتي فكغيري من الأطفال كانت لي طفولتي السعيدة مع شقيقة وحيدة تصغرني بعامين لكنها لم تطل ففي سن الثامنة فقدت أبى.. ووجدت نفسي طفلا يتيما أعيش مع أمي وأختي في شقة قديمة بحي السيدة زينب .. ويقوم بأمرنا عمي الذي يعمل موظفا بمصلحة الأملاك الأميرية ويملك مناصفة مع أبي قطعة أرض زراعية صغيرة .

وواجهت أمي الحياة وحيدة وهي في سن الشباب بمعاش أبي الصغير وبفتات من المال نحصل عليها بصعوبة من عمي الذي يشكو دائما من أنه لا يحصل على إيجار الأرض من المزارعين إلا بشق الأنفس.

ولم تمض سنوات حتى اشتد المرض على أمي وفارقتنا هي الأخرى ذات ليلة حزينة وأنا في الثالثة عشرة من عمري وأختي الوحيدة في الحادية عشرة ولم يكن لأمي أقارب في القاهرة .. فجاء خالي من بلدتنا وعرض على عمى أن يضمنا إلى أسرته فرفض وضمنا إلى أسرته ، وانتقلنا إلى شقته التي لا تبعد كثيرا عن شقتنا القديمة وعشنا مع أبنائه الثلاثة وكانوا بنتا وولدين وأصبحت شقيقتي تنام مع بنت عمها في إحدى حجرات الشقة .. وانضممت أنا إلى غرفة ابني عمي .. التي تستخدمها الأسٍرة كغرفة للنوم والمعيشة وكان نصيبي منها هو الكنبة أنام عليها وينام ابنا عمى على السرير الكبير الذي يشغلها..

ولن أتوقف قليلا عند الصغائر التي يشكو منها من يجدون أنفسهم في مثل ظروفي .. كالتفرقة بيننا وبين أبناء عمنا، أو التقتير علينا والبحبحة عليهم .. فقد أدركت أنا وأختي رغم صغر سننا حقيقة وضعنا وتعلمنا ألا نطلب لنفسينا ما يطلبه أمثالنا ممن لم يحرمهم القدر من أبويهم .. ونشأنا نرضى بالقليل – ونشكر على كل شىء- ولا ننتظر من الحياة إلا ما تتفضل به علينا.. وساعدنا على تحمل ظروفنا.. أن زوجة عمى كانت سيدة تقية تخشى الله.. وتتقرب إليه بحسن معاملتنا وأن أبناء عمي قد اكتسبوا منها طباعها ورحمتها وتعلموا منها الصلاة والعبادة فلم نلق منهم إلا كل حب وعطف أما عمي فلقد كان (جباراَ) على الأسرة كلها بمن فيهم أبناؤه وزوجته.. وكان الجميع يخشونه فتعودنا منذ صغرنا ألا نناقشه .. وألا نرد له أمرا..

وأقسم لك أننا رغم كل ذلك لم نكرهه.. بل نشأنا على احترامه وهيبته ولم يقلل منهما ما بدأنا نلاحظه حين شببنا قليلا عن الطوق من أننا لا نكاد نكلفه سوى طعامنا وشرابنا.. فملابسنا دائما قديمة لبسها قبلنا أبناؤه واستهلكوها وأحذيتنا لا تتغير إلا بعد أن نعجز عن إصلاحها وكانت كارثتي الشخصية أنى طويل القامة نسبيا عن أكبر أبنائه وأن أحذيته صغيرة لا تنفعني .. ومع ذلك فما أكثر ما اضطررت لحشر قدمي في حذائه القديم والذهاب  به إلى المدرسة.. ثم أعود لأعالج جروحها، أما الملابس فقد كان أمرها محتملا فالبنطلونات القصيرة كنت أطيل ثنيتها لتغطى ساقي بقدر الإمكان ولا أهتم بقصر الأكمام وأحمد الله أن أختي الوحيدة كانت مماثلة في الجسم لابنة عمى فكانتا تتبادلان معا الملابس. وحرصت دائما مع شقيقتي على ألا نثير غضب عمي لأي سبب من الأسباب لكيلا نتعرض لأذاه بعد أن رأينا بأعيننا كيف يضرب أولاده حين يغضب عليهم.. ومع ذلك فلم ننج من أذاه في كثير من الأحيان، وفى هذا المناخ عشنا سنوات طفولتنا وصبانا.. وحرصنا على ألا نرسب في المدرسة وكان عذابنا أن علينا ليس فقط أن ننجح .. وإنما ألا يرسب أيضا أحد من أبناء عمنا وألا انفجر فينا جميعا.. ولا أنسى يوم أن نجحت في الإعدادية ورسب أبن عمي .. وكيف عدت معه من المدرسة إلى البيت وأنا أشد خوفا منه.. وكيف أنهال علينا بالضرب مهددا بإخراجنا جميعا من المدرسة مع أني لم ارتكب ذنبا.. وكانت محنة تحملناها جميعا ودفعت أنا بالذات ثمنها.. فلقد قرر عمي أن أختصر الطريق وأتوجه إلى التعليم التجاري .. ولم تفلح معه دموع زوجته ولا توسلات خالي .. وتقبلت قراره راضيا.. ولم تمر سنة ألا ونجح ابنه فألحقه بالمدرسة الثانوية بلا تفكير.

وكرست جهدي في دراستي حتى تخرجت في المدرسة التجارية بمجموع يزيد على 85% وأصبح من حقي أن التحق بكلية التجارة.. ورفض عمي وطالبني بالعمل وفكرت في أول مرة أن أتمرد عليه .. لكني سألت نفسي إلى أين أذهب أنا وشقيقتي .. لقد أعاد عمى شقتنا إلى مالك العمارة مقابل بضع مئات من الجنيهات قال لنا أنه ينفقها على تعليمنا وكنا قد كبرنا جميعا.. نحن وأبناء عمي .. وأصبح لنا عالمنا الخاص، فتشاورنا في الأمر، وكان رأي ابنة عمي أن أنتسب إلى كلية التجارة سرا وأن اعمل.. فلا يصبح له حجة علي وأيدتها شقيقتي وابنا عمى.. لكني لم أشأ أن أخفى هذا السر على السيدة التي رحمت ضعفنا. فأسررت به إليها ووافقتني بحماس ووعدتني بالمساعدة بقدر الإمكان.


ونفذت الخطة.. فقدمت أوراقي للكلية.. ونجح عمي في توظيفي كاتبا على الآلة الكاتبة براتب صغير فأقبلت على العمل والدراسة معا وكان كل رجائي أن يعفي أختي من مصيري لأنها ستحتاج إلى شهادة عالية تواجه بها الحياة.. وحرصت على إرضائه وتقديم راتبي له كاملا  أول كل شهر فيتقبله باسما ويعطيني بضعة جنيهات للمواصلات.

ومضت الأعوام والتحقت ابنة عمي وأختي بكلية التربية.. وأصبحت أزورهما في الكلية من حين إلى حين.. واصطحبهما إلى البيت. ولست في حاجة إلى أن أقول لك أني قد ارتبطت عاطفيا بابنة عمي منذ كنت في السادسة عشرة وهى في الخامسة عشرة، لكن هذا الارتباط  لم يتخذ سوى شكل التفاهم الصامت.. والحب المكتوم .. وظل الأمر كذلك إلى أن اقتربت من التخرج فتعاهدنا على ألا نفترق أبدا.

وصارحت شقيقتي بذلك وكانت على علم بالأمر منذ زمن طويل وسعدت به وأسعدني أكثر أن صارحني ابن عمي الذي كنت ارتدي ملابسه القصيرة بأنه يتمنى الارتباط بشقيقتي لما تتمتع به من خلق ودين. وانه ينتظر تخرجه ليحقق حلمه.

وظل أمر دراستي بكلية التجارة سرا حتى تخرجت وكان يوم حصولي على البكالوريوس وعلم عمي بذلك محنة جديدة انهال فيها لوما وتقريعا لإخفائي هذه الجريمة عليه 4 سنوات ولولا أني كنت قد كبرت وصرت شابا لانهال علي ضربا بالمقعد كما كان يفعل في صباي.


وجاءت اللحظة الحاسمة .. وتجرأت وفاتحت زوجة عمي في خطبة فتاتي .. ورحبت السيدة الطيبة وحدثت زوجها ففوجئت بعاصفة تزلزل البيت وتهدد أركانه ورفض عمي رفضا باتا هذا الموضوع وحاول أن يتهمني بالتغرير بابنته فلم يجد ما يدينني وحاولت أن أناقشه فلم أستطع.. وكان كل ما فهمته منه هو أنى فقير.. ولا أقدر على تكاليف الزواج وأنه قد تعب من مسئوليتنا ويحتاج إلى الراحة، ولن يحقق له ذلك ألا زوج يملك كافة الإمكانات المادية ويعفيه من كل التكاليف.. ولأول مرة في حياتي اشعر بالسخط عليه وغادرت البيت غاضبا.. وأقمت عند أحد أصدقائي عدة أيام جاءني بعدها ابن عمي يطلب منى العودة لأن أختي تبكى وأمه كذلك.. وعدت من اجلهما وكان شرط عمي هو ألا أفكر في هذا الموضوع مرة أخرى وخشيت أن يؤثر موقفي على أختي التي أوشكت على التخرج فيحرمها هي الأخرى من الارتباط بابن عمها فسكت على مضض ، وطلبت مني فتاتي الصبر إلى أن تتحسن ظروفنا فصبرت وتخرجت أختي وتخرج معها ابن عمى الأكبر.. وفاتح أباه في أمر الخطبة فثار ثورة أشد من ثورته الأولى وهدد بطردنا أنا وأختي من البيت إن عاد للحديث في هذا الموضوع مرة أخرى وبحثت عن حل لازمتنا فلم أجد.. فالأرض الصغيرة تحت سيطرة عمي وإيرادها لا يتجاوز جنيهات ولا نعرف عنها شيئا والمعاش جنيهات وقد انقطع عني بعد عملي.. ولا سكن لنا فى القاهرة الواسعة.. فأين نذهب يا ربى؟

وتمسكت بالصبر.. لكن الأقدار لم تمهلنا طويلا.. فلقد تقدم لابنة عمي خطيب تتوافر فيه كل الصفات التي يريدها أبوها.. وكان مدرسا مساعدا بكليتها على وشك أن يوفد فى بعثة تعليمية للحصول على الدكتوراه لمدة 6 سنوات ولديه الشقة والأثاث ولن يكلفه شيء.. ورفضت فتاتي فأعلن أبوها الحرب عليها وعلي وطردني من بيته وتشردت بين منازل الأصدقاء والفنادق الرخيصة عدة شهور.. حتى ضعفت مقاومة ابنة عمي فأعلنت لأبيها موافقتها .. وفوجئت به يزورني فى عملي ويصطحبني معه إلى البيت وهو يحدثني عن القسمة والنصيب وعن أن من يحب إنسانا يتمنى له الخير الذي لا يستطيع هو تقديمه له، وأن تربيته لي لن تذهب هدرا وأمامي فرصة لأثبت ذلك بأن ( أفرح ) لابنة عمي .. وأشارك فى تجهيزها لزوجها!

وعدت معه يا سيدي .. وقضت علي المقادير بأن أشهد قراءة فاتحتها بالبيت وقلبي يتعصره الألم.. بل وأصر عمي إثباتا لبنوتي له على أن أقدم الشربات بنفسي لأهل العريس.. وللخطيبين، وقدمته لهم وأنا أتفادى أن تلتقي عيناي بعينيها.. ولاحظت حرجها وحيرتها بين أن تكتئب فتثير انتباه الآخرين .. وبين أن تبتسم وتبدو سعيدة فتثير ألمي أما أختي فقد أعفتها طبيعتها من هذه الحيرة فانسالت دموعها بلا حرج وتطوع عمي بتفسيرها بأنها دموع الفرح لأختها الوحيدة!

وتوالت بعد ذلك المشاهد.. وتحملتها صابرا كما تحملت كل ما يمر بحياتي من ألام وشاركت بنفس راضية فى التجهيزات البسيطة التي ساهم بها عمي فى الزواج وقدمت له كل ما ادخرته فى سنوات عملي ليستعين به على زواجها وانتهت الإجراءات وتم القران .. وودعناهما فى المطار فى ليلة باردة وسالت دموعي ودموعها بلا حياء واختلطت بدموع الفراق في عيون أمها وأختي وشقيقيها.. فلم تلفت النظر وعدت لحياتي .. وأنا أحس أني قد كبرت أعواما وأعواما وعملت أختي مدرسة بإحدى المدارس.. وتخرج ابن عمى وعمل عملا مؤقتا وعاد يفاتح أباه فى زواجه فرفض من جديد بغير أن تؤثر فيه تضحيتي بقلبي من أجل (سعادة) ابنته، واستشارني ابن عمي فى أن يخرج على طاعة أبيه ويعقد قرانه سرا على أختي وليكن ما يكون.. فأبيت عليه ذلك خوفا من أن يتهمنا بالجحود بعد أن تربينا فى حجره.. وقلت له أنه لن يستطيع أن يجد سكنا.. ولا أمل له إلا فى الزواج فى شقة أبيه.. وبالتالي فلا أمل فى نجاح مشروعه إلا برضاء أبيه وموافقته.


أحسست شقيقتي بالحرج .. فأعلنت لابن عمها أنها لا تفكر فى الزواج منه وبنفس الطريقة التي وأدت بها أحلامي فى السعادة.. وأدت شقيقتي أحلامها مع ابن عمها.. فقبلت خطبة مدرس زميل لها عائد من اليمن وجاهز للزواج وناقشتها طويلا فأبكتني حين قالت لي أن السعادة والحب ليسا من حق أمثالنا .. وإلا فكيف لمثلي أن تتزوج ممن تحب.. وهي بلا مال ولا أب ولا أم.. ولا أمل فى شقة أو جهاز؟

وخلال شهور كانت شقيقتي قد تزوجت وانتقلت إلى بيت زوجها فى شبرا وكان زفافها كئيبا جدد أحزانى وتكررت فيه نفس مأساتي وأنا أرى ابن عمي يرقب فتاته تزف إلى غيره..

وبعد انتقال شقيقتي إلى بيت زوجها .. أحسست أني لم أعد أحتمل الحياة فى بيت عمي .. فاستأذنت زوجته في الرحيل وقبلت يدها شاكرا لها حنانها بنا طوال سنوات شقائنا، واستأجرت غرفة مفروشة في أقرب أطراف القاهرة من سكن شقيقتي وبدأت أزور أختي كل يومين.. وأمضي معها الأجازة الأسبوعية.. ولم اقطع صلتي بعمي وأسرته فكنت أزورهم كل أسبوعين .. واحرص على تتبع أخبار رفيقة دربي فى غربتها. ومن أسرتها عرفت أنها أنجبت طفلا، ومضت السنوات وأنا لا أفكر فى الزواج وتحسن وضعي فى الوظيفة قليلا بعد اعتماد مؤهلي العالي .. لكن بقى السكن هو مشكلتي الأولى، ومن أجله غامرت بالحصول على أجازة بدون راتب وسافرت إلى إحدى الدول العربية وتخبطت شهورا حتى استقررت في وظيفة حكومية مضمونة، وبدأت أوضاعي تتحسن تدريجيا، وعدت بعد عامين في أول أجازة محملا بالهدايا لشقيقتي  وطفلها الوليد ولزوجة عمي ولابنيها وخاصة صاحب الملابس القصيرة ولعمي نفسه الذي سعد بعودتي وهداياي .. وسألني بلا حرج هل تستطيع الآن أن تساعد (أخويك) ببعض المال لكي يتزوجا؟


فأكدت له استعدادي لذلك وقدمت له هدية مالية سعد بها كثيرا ثم عدت إلى مقر عملي مثقلا بهم جديد فقد لاحظت تعاسة شقيقتي .. وعدم توافقها مع زوجها وكثرة مشاجراتهما واعتدائه عليها بالضرب.. ولم أطق صبرا حين عرفت ذلك.. فقلت له بحسم  شديد : أن ورائي من العذاب سجلا طويلا استحملته صابرا وراضيا بأقداري .. لكن كله لا يساوي عندي أن اعلم انك قد مددت يدك عليها بالإيذاء.. فاحذر أن تفعل مرة أخرى وإلا انفجر بركان غضبي المكتوم وأطاح بك وبكل شىء..

وتواصلت الرسائل بيني وبينها لا تحمل جديدا حتى علمت منها انه ضربها بقسوة ذات ليلة وطردها فى منتصف الليل مع طفلها الرضيع فلجأت إلى الجيران الذين استدعوا لها الإسعاف.. ليضمدوا جراحها فلم أنم حتى طلع الصباح وحصلت على أجازة أسبوعين .. وطرت إلى القاهرة .. ووجدني زوجها أمامه في المدرسة.. والشرر يتطاير من عيني فارتعب.. وسقته أمامي – وهو يرتجف – إلى البيت ، وأحضرت شقيقتي وسألتها عما تريد فطلبت الطلاق وتمسكت به وروت لي ما أعف عن ذكره لك.. وتأكدت أنه لا أمل لهما معا. خاصة بعد أن عرفت أنه سكير يفقد صوابه كل ليلة ولا يستطيع الإقلاع عن هذا الداء، فأجبرته على طلاقها وأعدتها إلى بيت عمها.. في انتظار انتهاء العام الدراسي لاصطحبها معي إلى مقر إقامتي، وبعد شهور لحقت بى ووفقني الله فى إيجاد عمل لها واجتمع شملنا مرة أخرى وبعد عام عدنا فى أجازة وعشنا أياما سعيدة فى بيت عمى.

وإذا بابن عمى يفاتحني من جديد فى أمر زواجه من أختي.. وأبديت عدم ممانعتي لكني صدمت بموقف أبيه الذي فاق كل تخيلاتي .. فقد رفض مرة ثالثة.. وحجته هذه المرة أنها مطلقة وعندها طفل! وأنه لا ذنب لابنه أن يربي طفل غيره.. ونسي سريعا أنه هو الذي صنع مأساتها حين حرمها من الزواج ممن تحب كما حرمني فغادرنا بيته إلى فندق صغير.. وجاءني ابن عمى يطلب مني ألا ألقى بالا لمعارضة أبيه لأنه مازال يتصور أننا أطفال صغار لا نقوى على مخالفته.. وأن أوافق على زوجهما وفكرت طويلا.. وقررت ألا أظلمهما كما ظلمهما عمي ووافقت.. وعقدنا القران فى مكتب المأذون وعلم عمي بالأمر فلم يشعر بأي خجل وهو يتهمني بأني قد حللت مشكلة أختي المطلقة على حساب ابنه! وأنني أرد له الجميل بهذا الغدر واحترمت سنه فلم أجب عليه إلا بأني قد فعلت ما أملاه علي ضميري وديني .. وأني لم أغدر بأحد.

وعدنا لمقر عملنا بعد أن ساعدت ابن عمي فى دفع مقدم شقة يتسلمها خلال عامين. ورتبنا أن تواصل أختي عملها معي حتى يتسلم زوجها الشقة ويجهزها ثم تعود للإقامة معه وراحت شقيقتي تلح علي في أن أتزوج بعد أن تجاوزت السادسة والثلاثين فلم أجد فى نفسي أية استجابة.. ومع ذلك فقد وافقتها حين سعت لتعريفي بإحدى زميلاتها على أمل أن اقترب منها وأتقدم لخطبتها.. ولم أشعر تجاهها بالرفض ولا بالقبول..

وقررت أن أعطى لنفسي فرصة لأتاكد من مشاعري..


وقاطعني عمي فلم يعد يرسل لى أية خطابات ولا يرد على خطاباتي ثم فوجئت بخطاب من زوج شقيقتي يروى لى فيه أشياء مفزعة عن شقيقته التي أمضت 6 سنوات فى ألمانيا.. فقد عادت إلى بيت أبيها فجأة.. إلى مصر.. ومعها طفلان صغيران بعد أن طلقها زوجها فى القنصلية المصرية هناك.. وبعد مسلسل طويل من الشقاء والهوان وصل إلى البوليس وإلى القنصلية عدة مرات.. وقد طلقها زوجها لكي يتزوج من ألمانية ويحصل على الجنسية ويواصل الإقامة هناك وأعادها خائبة إلى بلادها وتألمت لحالها.. وكانت شقيقتي تروي طوال السنوات الماضية بعض أخبارها ومشاكلها مع زوجها لكني لم أتصور أن يصل الأمر بينهما إلى هذا الحال.

وأسفت لما لقيته من سوء حظ.. وتجدد حنقي على عمى وعلى جبروته الذي أتعسها.. وأتعسني .. وذات يوم فوجئت برسالة فى البريد عرفت خط عمي على غلافها فاستبشرت خيرا وفتحت الخطاب فإذا به يروي لى قصة ابنته.. ويعرضها علي .. ويقول أنى الأحق بها والأجدر بأن استرها لأني ابن عمها؟ ووضعت الرسالة جنبا.. واسترجعت شريط حياتي الآن، فقط يا عمى..

أصبحت الأحق بها؟

لماذا رفضت أن يستر ابنك ابنة عمه وكلاهما يرغب فى الآخر لقد حزنت لمصيرها.. لكنني كنت أتمنى أن تجيئني الإشارة من أحد غيره لكيلا يجدد سخطي عليه وأحزاني.


 


ولكاتب هذه الرسالة أقول:

قد أطلت التفكير يا صديقي فوجدت الأمر لا يحتاج إلى تفكير طويل.. فأنت ترغبها وتتمناها وربما حلمت فى أعماقك بمعجزة تجمع بينك وبينها على غير انتظار كما جمعت الحياة منذ قليل بين شقيقتك وفتاها بعد حين وها هي المعجزة قد تحققت فجأة.. فكيف تتردد أمامها؟

إنك فى حقيقة الأمر لا تتردد أمام فتاتك.. لكنك فقط ضائق الصدر بقسوة عمك ومرارة ذكرياتك معه.. وبموقفه الأخير من زواج شقيقتك على وجه الخصوص ولربما أثار ضيقك أكثر انه حين جاءك حاملا لك البشرى التي طالما انتظرتها فإنه لم يجىء إليك مصححا خطأ ارتكبه فى حقكما وأتعس به ابنته وأشقاك وإنما جاءك مطالبا (بثمن) لما قام به تجاهك ويعتبره دينا عليك.. ومتحدثا بلهجة ( الواجب) الذي ينبغي عليك أن تقوم به.. لا بلهجة الأب المعترف بخطئه.

وأنت محق فى ضيقك بكل ذلك. وتستطيع لو أردت أن ترد عليه موضحا كل الأمور ومؤكدا له انك أن فعلت واستجبت فإنما رغبة فى ابنته ووفاء لها وتقديرا لشخصها وتحقيقا للحلم القديم، وليس أداء لواجب عائلي مزعوم كان موقفه منه هو نفسه شائنا بالنسبة لشقيقتك.

والأمر أولا وأخيرا لا يتعلق به وحده، وإنما بفتاتك أيضا التي ضحت بسعادتها معك لكي ترفع عنك وعن شقيقتك الحرج وتحميكما من العواصف المدمرة وأنتما فى حاجة إلى رعاية عمكما. وهى كلها أقدار حزينة لا لوم عليك ولا عليها فيها وإنما على الظروف القاسية التي وأدت أحلامكما .. وعلى عمك المتجبر وحده ولو كان الأمر يتعلق به فقط لربما جاز لك أن تتقاعس عن نجدته مرددا مع الشاعر العربى:

لا أذود الطير عن شجر            قد بلوت المر من ثمره

وأنت قد بلوت من مر ثمره ما يكفيك .. وما يبرر لك ألا تتحمس لنجدته.. لكنك يا صديقي لم تجن ألا رحيق العشرة الجميلة والمشاعر النبيلة من ابنته فكيف لا تذود الطير عن شجرها!

وهل نسيت موقفك المؤثر فى وداعها بالمطار .. والمشاهد الأخرى المؤلمة.. أم نسيت رقتها وأخوتها الصادقة لك ولشقيقتك خلال رحلة الحياة.

يا صديقي نح جانبا ضيقك بموقف عمك .. وحاشاك وأنت الشاب الكريم أن تنسى له رغم كل شىء أنك قد نشأت فى حضانته ولو أساء إليك .. فمثلك من يعفو عن الإساءة حتى إلى من أساءوا إليه وما أكثر ما نواجهه من مواقف فى الحياة نحتاج فيها إلى أن نتبع طريقة الإمبراطور الروماني الحكيم ماركوس اورليوس الذي أمضى سنوات طويلة يبحث كيف يقابل الإساءة بالإحسان ثم كتب بعد تفكير عميق : (خير وسيلة للانتقام ممن يسيئون إلينا .. هي ألا نصبح مثلهم)

أي ألا نصبح مثلهم فى الإساءة للآخرين .. أو فى ظلمهم

ولقد جاءتك الفرصة تسعى لكيلا تكون مثل عمك .. ولكيلا تظلم .. وها هي الأقدار قد أتاحت لك خيرا أن تلتقي بمن أحببت وهى جريحة وفى حضانتها طفلان كسيران كهذين الطفلين اليتيمين اللذين وضعتهما الأقدار فى رعاية عم قاسي .. فكن لهما الأب العادل الرحيم الذي تمنيته لنفسك وشقيقتك .. واغتنم فرصتك من السعادة مع من نبض قلبك بحبها منذ الصبا ومازال .. قبل أن تضيع الفرصة .. أو تختفي وراء الغيوم.


*نشرت سنة 1990 في جريدةالاهرام باب بريد الجمعة

كتبها من مصدرها / ياسمين عرابي
راجعها وأعدها للنشر/ نيفين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات