البيوت الخاوية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

البيوت الخاوية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

البيوت الخاوية .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

أنا فتاة في السادسة والعشرين من عمري من أسرة ميسورة ومرموقة اجتماعيا وقد تخرجت منذ خمس سنوات من إحدى الكليات النظرية، وبعد حصولي على الليسانس تقدم لخطبتي مهندس شاب وسيم من أسرة بدت ظروفها لنا مناسبة فلم أجد ما يمنعني من قبوله وأنا غير مرتبطة بأحد واحلم كغيري من الفتيات بالزواج وعش الزوجية، وبعد شهر واحد من التعارف بين الأسرتين تم عقد القران على أن يؤجل الزفاف إلى حين الانتهاء من إعداد شقة الزوجية .. وسعدت بذلك بالرغم من السرعة الملحوظة في الإجراءات لكنه في اليوم التالي لعقد القران مباشرة زارنا في بيتا زائر غير متوقع هو أحد أقرباء خطيبي المهندس، الذي عقد قراني عليه أمس فقط وابلغنا أنه ليس مهندسا ولا يمت للهندسة بصلة ولا يحمل من الشهادات الدراسية سوی شهادة الإعدادية واعتذر الزائر عن تأخره في إبلاغنا بالحقيقة المؤسفة بأن قريبه قد أخفى خبر القران عن أقاربه حتى لا ينكشف أمره أو يتطوع أحدهم بتحذيرنا منه. وارتبك الجميع حين سمعوا منه ذلك واضطربت أنا اضطرابا شديدا، وتألمت بشدة لهذا الخداع السافر.. بغض النظر عن مسألة الشهادة في حد ذاتها وفي نفس المساء جاءنا خطيبي "المهندس" لزيارتنا باسما.. متعطرا .. أنيقا كعادته فاختلى به في الصالون أبي وشقيقي وزوج شقيقتي وصارحوه بما علموه، وتعلق أملي بان يستنكر ذلك بشدة ويستأذن في الانصراف لإحضار شهادته الجامعية لإطلاع أهلي عليها بعد فترة قصيرة لكنه لم يفعل شيئا من ذلك وإنما اعترف بالأمر ببساطة ولم ينكر أنه خدعنا وبرر ذلك برغبته الشديدة في الارتباط بی وخوفه من رفضه إذا صارحنا بالحقيقة.

 

ولم يكن أمامنا إزاء هذه الكارثة التي حلت فوق رؤوسنا بلا ذنب لنا سوى الطلاق، وتوقعت ألا يتردد في الاستجابة له بعد أن انفضح أمره أمامي وأمام الأسرة لكني فوجئت به يرفض الطلاق بصفاقة غريبة ويؤكد أنه لن يتنازل عني أبدا وأنه متمسك بي حتى النهاية وازددت إصرارا على ضرورة التخلص منه بعد هذه الصفاقة الإضافية.. بعد الخديعة والكذب البشع.. وفشلت كل محاولات المعارف والأقارب للتدخل لديه لإنهاء الأمر وديا بعد أن شاعت القصة.. فاضطررت راغمة إلى اللجوء إلى المحاكم التي لم أتمن يوما أن أدخلها بإرادتي.

وأخذت قضيتي دورها في سجلات محكمة الأحوال الشخصية، ومضت شهور ثم جاءت لزيارتي صديقة من صديقات الجامعة وأنا في شدة ضيقي بظروفي واكتئابي ففوجئت بها تخبرني بان زميلا لنا من زملاء الجامعة قد اتصل بها وألح عليها في السؤال عني وإبلاغي رغبته في الارتباط بي فاضطرت لإخباره بظروفي فازداد إصرارا على رغبته في الاتصال بی .

 

وأذهلتني المفاجأة ولم اشعر بنفسي إلا ودموعي تنهمر بغزارة في صمت فهذا الزميل الذي حدثتنی عنه صديقتي طالما انتظرته طوال سنوات دراستنا وحتى تخرجنا أن يفاتحني برغبته في الارتباط بی فلم يفعل حتى يئست منه وتأكدت من أنه لا يحمل لي إلا مشاعر الزمالة.. فسلمت بالأمر الواقع.. وقبلت خطبة الصالون المتعجلة التي أوقعتني في هذه المحنة.

وبعد أيام اتصل بي هذا الزميل تليفونيا واعتذر لي عن تأخره في مفاتحتي بأمر ارتباطنا لأنه لم يكن يستطيع أن يفعل ذلك وهو طالب بالرغم من ظروف أسرته الميسورة وانتهينا في حديثا إلى أنه سينتظرني مهما طال الزمن وسيكون أخا لی يشد من أزري طوال فترة الانتظار. 

وبالفعل فقد كان لي نعم الأخ في محنتي على مدى أربع سنوات طويلة استغرقها نظر قضيتي في المحكمة وتعطلت خلالها حياتي ومستقبلي.. فظل هو خلالها مقيما على العهد لا يراني ولا أراه ولا يتجاوز الاتصال بيننا مكالمة طويلة من حين لآخر يطمئن كل منا فيها على الآخر وابلغه بتطورات القضية.. وكلما تأجلت وبكيت من القهر والغيظ من هذه الظروف التي فرضت نفسها على.. واساني .. وساندني نفسيا ومعنويا وأعانني على الصبر والاحتمال.

إلى أن جاءت اللحظة الفاصلة واتصل بي ذات يوم فأبلغته وصوتي ينطق بالابتهاج بأن القضية قد انتهت أخيرا لصالحي وأننا نستطيع الآن أن نعوض ما فاتنا من سنوات الانتظار والمعاناة. فاختنق صوته بالفرحة والدموع. 

لكن الفرحة لم تطل أكثر من أيام قليلة فقط يا سيدي فقد فاتح زميلي أسرته برغبته في الارتباط بي ففوجی، بأبويه يرفضانني بإصرار غريب ولسبب أغرب هو أنني "مطلقة".. مع أني لست في واقع الحال كذلك ولم تكن قضيتي في المحكمة قضية طلاق وإنما قضية فسخ عقد لعدم التكافؤ، وقد صدر الحكم بفسخ العقد واعتباره كان لم يكن.

وحاول زميلي إقناع أبويه دون جدوى.. ولم تكتف والدته سامحها الله برفضي بل وظلمتني أيضا دون أن تعرفني.

وواصل زميلي محاولاته معهما فأبلغاه برأيهما النهائي الحاسم وهو أنه إذا أصر على الارتباط بي فسوف يحرمانه من الشقة الفخمة الجاهزة في انتظاره في العمارة الفاخرة التي بناها الأب لأبنائه ومن السيارة التي أعطاها له أبوه منذ فترة قصيرة ومن الميراث الشرعي بعد عمر طويل.. ولن ينال منهما إذا تمسك بما أراد سوى غضبهما ودعائهما عليه.

 

لكنه أصر على الارتباط بی رغم ذلك وقال لى إن كل هذه الأشياء المادية لا تعنيه في كثير وإنه يمكن تعويض بعضها في المستقبل بعرقه وكفاحه، أما مشاعره فإنه إذا تخلى عنها فلن يعوضها ولن يغنيه عنها شيء مادي وسيفقد احترامه لنفسه حين يفعل ذلك لأنه لن يفعله اقتناعا بصواب رأي أبويه كما أنه ليس من حق أبويه أن يحرما ما أحل الله وما دمنا لا نغضبه في شيء فلن يتخلى عنا الله ولن يتخلى هو عني ورغم حزني وأسفي لموقف الأبوين من خطيبي وإشفاقي عليه من التضحية التي يقدمها بارتباطه بي إلا أنني ازددت له حبا واحتراما. وبعد أيام تقدم بالفعل لخطبتي ورحب به والدي لأنه وجد فيه رجلا يعتمد على نفسه وليس على أبيه كما رأى فيه أيضا الرجل الذي سيعوضني بحبه وحنانه عن معاناتي طوال السنوات الماضية. وحددنا موعد زفافنا بعد ثلاثة شهور من الخطبة وقد مضى الآن معظمها واقترب موعد الزفاف.. ولم يتغير موقف الأبوين من خطيبي ولم يرق قلباهما له.. وأريد أن أسـأل أم خطيبي سؤالا واحدا أرجو من الله أن تجيبني عنه بأمانة وهو: هل لو كانت لها ابنة شابة واجهت لسوء حظها نفس الظروف التي واجهتها أنا بلا ذنب مني ثم تقدم لخطبتها بعد 4 سنوات من المعاناة والانتظار شاب ممتاز كخطيبي هذا واعترض أبواه على رغبته بدعوى أنها مطلقة، هل كانت ستكون سعيدة بموقف هذين الأبوين من ابنتها.

 

وكيف كانت ستشعر تجاههما.. وماذا كانت ستفعل مع ابنتها هل ستحبسها في البيت لتدفع ثمن ظروفها التي لا ذنب لها فيها أم ستسعى بكل وسيلة لتزويجها من إنسان يعوضها ما فاتها من العمر وتسعد به ويسعد بهاء.

إننا يا سيدي ننعم أنا وخطیبی بنعمة الرضا.. ولا نريد أكثر مما لدينا وأتاحه لنا الله كبداية لحياتنا يمكن أن تزداد وتكبر بتعاوننا معا وحبنا وإخلاصنا.. ولا نريد الشقة الفاخرة أو السيارة الفخمة اللتين سحبهما الأب من ابنه وقد استطعنا بحمد الله أن نجهز مسكن الزوجية وأعاننا في ذلك والدي أكرمه الله. لكن أريدك فقط أن توجه كلمة إلى بعض الآباء والأمهات الذين يقفون في طريق سعادة أبنائهم ويريدون أن يفرضوا عليهم اختياراتهم هم لشركاء حياتهم دون اعتبار لمشاعرهم تطالبهم فيها بان يتقوا الله في أبنائهم، وأن يتركوا لهم أن يختاروا حياتهم بما يرضيهم ولا يتعارض مع ما أمر به الله .. وألا يظلموا أحدا حتى يرضوا ضمائرهم ولا يخسروا أبناهم واحدا وراء الآخر.

 

فلسوف تعجب يا سيدي حين تعلم أن هذا الموقف الذي اتخذه والدا خطيبي معه حين أراد الارتباط بي اتخذاه هو نفسه مع ثلاثة من أشقائه الآخرين بنفس الطريقة ولنفس الأسباب.. وهي أنهم أرادوا أن يختاروا شريكات حياتهم بإراداتهم فلم يرض الأبوان عن اختيارهم وكانت البداية مع الأول فعارضاه بشدة وهدداه وانتهى الأمر بأن استمر في طريقه فحرماه من السيارة والشقة مع الوعد بالحرمان من الميراث وتكرر نفس الموقف بنفس التفاصيل مع الثاني بعد سنوات ثم الثالث.. ثم الأخير وهو خطيبي وبقيت العمارة الفخمة التي بناها الأب خالية وخاوية على عروشها لا يسكنها سوى البرود وقسوة المشاعر وموت العواطف.. في حين اصطفت السيارات الأربع في موقفها مهجورة لا يقترب منها أحد فما رأيك في ذلك يا سيدي .. وهل توافق والدي خطيبي في موقفهما منه ومن إخوته.. ومني؟

 

• وكاتبة هذه الرسالة أقول:

إنني دائما ضد استسهال الأبناء خلع طاعة الأبوين.. والتضحية بهما عند أول مفترق لطريق يعترض علاقتهم معا. ورأيي الذي أكدته مرارا هو أن من واجب الأبناء صفارا كانوا أم كبارا أن يستنفدوا كل الوسائل الممكنة لنيل رضا آبائهم وأمهاتهم ومباركتهم لما اختاروه لأنفسهم من اختيارات الحياة المختلفة وليس في شأن الزواج وحده طلبا لرضاهم وتجنبا لإغضابهم.. وقربي لربهم.

لكنه من ناحية أخرى فإن من واجب الآباء والأمهات أيضا أن يعينوا هؤلاء الأبناء على عدم الخروج على طاعتهم وعلى الحرص على رضائهم بالعدل معهم والرفق بهم فليس هناك ما يحفظ للأبوين قدرهما وسلطتهما الأدبية على أبنائهما أفضل من العدل مع هؤلاء الأبناء وتجنب إعناتهم بما لا يطيقون ولا تسمح به الطبيعة البشرية، فالعدل في علاقات الأفراد .. تماما كالعدل في الحكم هو خير ما ينزع فتائل الانفجار والسخط والتمرد.

 

والحكماء من الآباء والأمهات يعرفون جيدا أنهم لا يملكون لأبنائهم الراشدين سوى النصيحة ومحاولة إقناعهم بما في رأيهم من وجوه الحكمة والمصلحة، فإن سدوا آذانهم عنها فلا مفر من التسليم لهم بحقهم في اختيار حياتهم في النهاية مع الأمل والدعاء دائما في أن تصح توقعات الأبناء وتخيب توقعات الآباء فترتاح قلوبهم ويطمئنوا على أبنائهم

وهؤلاء يتجنبون دائما أن تصل علاقتهم بأبنائهم إلى مفترق الطرق أو نقطة اللا عودة، فلا يضعون أبنائهم أمام الاختيار القاسي بين أن يحرموا أنفسهم مما يريدون ويتمنون فيكظموا غيظهم ساخطين کارهين حتى لا يفقدوا رضا آبائهم وأمهاتهم، وبين أن ينالوا ما يشتهون وما يرون فيه حياتهم وسعادتهم فيخلعوا طاعة الأهل نادمين أو غير نادمين.

 

العقلاء لا يفعلون ذلك أبدا.. وإنما يستنفدون مع أبنائهم الراشدين كل الوسائل المشروعة لإقناعهم بما يرون فيه مصلحتهم فإذا استشعروا أن الأبناء الراشدين لن يستجيبوا لهم ولم تبق أمامهم خطوة أخرى إلا شق عصا الطاعة عليهم والمضي في طريقهم الذي أرادوه بادروا باحتوائهم والتسليم لهم راضين أو كارهين بحقهم في اختيار حياتهم ودفع ثمن اختياراتهم. وتکرار موقف والدي خطيبك المتشدد العجيب مع أربعة من أبنائهما بنفس التفاصيل وانتهائه في كل مرة، بخلع الابن لطاعة الأبوين واختياره لحياته رغم تهديده بالحرمان من الميراث، وحرمانه الفعلي المباشر من الشقة الجاهزة التي تنتظره والسيارة التي يركبها لا يمكن بمنطق الأشياء أن يكون دليلا على أن الأبناء الأربعة يتميزون جميعا بالجحود .. والعقوق وسوء الاختيار، وإنما الأقرب إلى العقل والمنطق هو أن يكون الأبوان شديدي التصلب والتعسف في آرائهما ولا يحتملان أية مخالفة لإرادتهما ويسارعان خطأ كلما اختلفت إرادتهما مع إرادة أحد أبنائهما إلى وضعه أمام الاختيار الصعب بينهما وبين ما يريد فيختار ما أراده ويضحي بكل ما يمثله الأبوان في حياته من أمان نفسي ومادی. 

وهو أمر مؤسف حقا أيا كان الطرف المسئول عنه لهذا فإني لا أوافق والدي خطيبك على موقفهما منه خاصة إذا كان سبب اعتراضهما عليك فقط ما أشرت إليه من اعتبارك مطلقة، وأنت في الواقع ضحية.. وحتى لو كنت مطلقة فعلا فإن هذا السبب وحده لا يكفي لرفضك وليس مقبولا شرعا ودينا.

ولهذا أطالب الأبوين بألا يحرما نفسيهما من أبنائهما الأربعة الكبار الراشدين.. ومن متعة العطاء للأبناء والتمتع برسم الابتسامة على وجوههم والسعادة بسعادتهم. وأنصحهما بأن يتنازلا عن العناد وتصلب الرأي ويتلمسا الطريق إلى تراجع مشرف عن موقفهما ولن يكلفهما ذلك سوى أن يعطيا فقط إشارة خضراء للأبناء ليسارعوا إليهم نادمين معتذرين عن خروجهم على طاعتهم ومتلمسين عفوهما وغفرانهما مع بقاء الحال بالطبع على ما هو عليه بالنسبة لاختيار كل ابن لحياته وسعادته. 

إن التراجع قد يكون في بعض الأحيان هو القرار الصائب الحكيم الذي تمنعنا الكبرياء الجوفاء من اتخاذه ومن واجب الإنسان أن يحمي حياته وسعادته وسلامه النفسي من الآثار السلبية لهذه الكبرياء الزائفة لكن آفة العقل البشري العناد.. ومأساة البعض هي أنهم يتصورون أنهم يحتكرون الحكمة وحدهم.

نشرت عام 1994 بجريدة الأهرام باب بريد الجمعة
نقلها وراجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات