السلام البارد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 

السلام البارد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

السلام البارد .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

     أعجب أحيانًا من قدرتنا الغريبة على أن نعامل بعضنا البعض بغلظة عجيبة وقدرة أعجب على الإيلام والمجافاة .

عبد الوهاب مطاوع

 منذ سبع سنوات وأنا طالبة بكلية التجارة في العشرين من عمري تعرف بي زميل بنفس الكلية يسبقني بعامين وارتبطنا عاطفيًا وتعاهدنا على الزواج ، وبعد فترة أبدى رغبته في التقدم لخطبتي وهو في السنة النهائية من الكلية .. وأبلغت أسرتي وجاء ورحبوا به وتم تحديد موعد للخطبة .

 

وبدأنا نستعد لإقامة حفل بسيط للخطبة في شقتنا ودعونا الأهل والجيران في الحي الشعبي الذي نقيم فيه ففوجئت بخطيبي يجئ حزينًا ويخبرني بأن إخوته غير موافقين على الخطبة ، وإخوته هؤلاء خمسة وتزوجوا جميعًا ويعيش كل منهم مع أسرته الصغيرة ماعدا شقيقًا لم يكمل دراسته يعمل عملاً حرًا وشقيقة تواصل تعليمها في رعاية عمتها الأرملة .. أما السبب فهو أن أخوته يريدون له أن يبقى مع أخته إلى أن تستكمل تعليمها وتتزوج لأنه من غير اللائق أن يتركها ويتزوج قبلها مع أن شقيقة خطيبي ترعاها عمتها ولها شقيق آخر يمكن أن يتحمل المسئولية .. وهوّنت عليه الأمر بأننا سنحتاج إلى سنوات لكي نستكمل الشقة الصغيرة التي أخلاها لي أبي فوق شقتنا ولنعد الجهاز.. ولا ضرر من الانتظار لكن لابد من أن تتم الخطبة التي دعونا لها الأهل والجيران لكي يتقبل الناس دخوله بيتنا بلا حساسية .. فلم يقتنع، وطلب مني الانتظار قليلاً حتى يتفاهم معهم .. ورغم تذمر أهلي فقد وافقته .. واعتذرنا لمن دعوناهم بأن ظروفًا طارئة ألمت بخطيبي واضطرتنا إلى إلغاء الحفل والاكتفاء بقراءة الفاتحة وتجاوزت عن آلامي .. وانتظرت ، فمضت 3 أعوام طويلة لم يحقق خلالها خطيبي أي تقدم بالنسبة لموقف أهله من زواجنا .. وظل طوالها يتجنب الحديث عن إعلان الخطبة وظللت لا أعرف حتى وجوه إخوته وأهله.

وكان خطيبي قد وجد عملاً بعد تخرجه وبدأ يدخر ليشتري أثاثًا بسيطًا .. وبدأ أبي يجهز لنا الشقة الصغيرة .

 وضاق أهلي بالانتظار طوال هذه السنوات .. فبدأ أبي يحدثه في ضرورة تحديد موعد للزفاف فكان يتحرج ولا يبدي استعدادًا لذلك ، فنفد صبري بعد هذه السنوات وحدثته بصراحة فقال لي أن شقيقته تخرجت لكنها مازالت غير مرتبطة وأنه لا يستطيع الزواج قبلها لأنه يجب أن يكون هناك رجل في البيت فبدأت أثور وأقول له إن كل شقيق من أشقائه يعيش مع أسرته وهم جميعًا يقيمون بالقرب من أختهم وأن شقيقه الذي لم يتزوج يستطيع أن يقوم بهذه المسئولية وأن عمته ترعى أخته ، وكل ذلك كافٍ لكي يطمئن على أخته خاصة أننا لن نتزوج في كوكب المريخ .. ولا كوكب الزهرة وإنما في نفس المدينة وعلى بعد نصف ساعة من أخته.

وانصرف خطيبي بغير أن نتفق على شيء .. وفكرت في الأمر وقدرت ظروفه وفي أول زيارة جاء فيها عرضت عليه أن نعيش مع أخته إلى أن تتزوج أو أن تقيم هي معنا في شقتنا فسعد بالاقتراح للحظات لكنه جاء إليَّ بعد أيام ليقول لي أن إخوته ثاروا عليه عندما عرض الأمر عليهم وسألوه أتريد لأختك أن تصبح خادمة لزوجتك ؟ وأن عمته صرحت بأنها لن تترك الفتاة إلى أن يأتيها نصيبها ، وتوسَّل إليَّ أن نؤجل زفافنا فترة قصيرة لأن هناك من يريد أن يتقدم لأخته ، وترددت في الموافقة لكني قلت لنفسي أنه شاب نبيل وكريم الخلق وأن من يرعى حق أخته .. ويؤجل سعادته من أجلها سيرعى الله كزوج في معاملتي وفي حقوقي عليه وقررت الانتظار .. وعشنا عامًا آخر بلا أي تغير في الموقف .. وبلا أي خطوة من جانب أسرته للتعرف علينا أو القبول بنا فلم نعرفهم ولم نلتقِ بهم وكأنهم يقيمون في قارة أخرى .. ثم نفد صبر أبي وعمي فحدثا خطيبي وخيَّره عمي الذي يتسم بالشدة والحزم بصراحة بين أن يتزوجني الآن أو يتركني لحال سبيلي ، وخرج خطيبي فلم أذق طعم النوم وبكيت كثيرًا ودعوت الله أن يفرج كربتي وبعد أيام قال لي خطيبي أنه لا يستطيع أن يستغني عني .. وأن أهله لابد أنهم سوف يسامحونه على زواجه على غير رغبتهم في يوم من الأيام لهذا فهو سيتزوجني لكنه لن يتخلى عن أخته وسوف يلبي كل طلبات بيتها إلى جانب بيتنا وأنه يستأذنني في أن يمضي معها يومًا كل أسبوع لكيلا تشعر أنه تخلى عنها .. ووافقته بحماس على كل ذلك ، وحددنا موعدًا للزفاف وأقبلت على الاستعداد له بفرحة من انتظرت سعادتها أكثر من 7 سنوات وأعددنا العدة لعقد القران والزفاف ودعونا الجميع .. وانتظرت خطيبي يوم الزفاف فمضت الدقائق والساعات وهو لم يحضر وبدأ القلق ينهشني وأنا أدعو الله ألا يخذلني في يوم سعادتي أمام الأهل والأقارب والجيران .. وبدأت الهمسات تتناثر أن العريس لم يأتِ .. وأنه ولَّى هاربًا ليلة الزفاف.

 

وكاد قلبي يتوقف من الخوف والكمد وقبل أن أنهار نهائيًا لمحته يدخل الشقة مرتديًا البدلة السوداء كسير الخاطر ووحيدًا تمامًا بلا أخ ولا أخت ولا عم ولا صديق والدموع الجامدة في عينيه وأدركت الموقف .. ورققت لحاله وأكبرت فيه أنه لم يتخل عني بعد كل هذه الفترة .. وكان ذلك في حد ذاته كافيًا عند أهلي لكي يقدروه له ويحاولوا أن يسروا عنه .. وأن يفتعلوا الابتهاج لكي يزيلوا جو الكآبة الذي خيَّم على المكان بسبب تأخره ، وتم عقد القران في هدوء .. ومضى حفل الزفاف بغير أن يبتسم خطيبي ابتسامة واحدة .. وكلما نظرت إليه وهو بجانبي في الكوشة انفطر قلبي له وأنا أراه مهمومًا حزينًا صامتًا وسألت نفسي ماذا فعلنا يا رب حتى يفعل به إخوته ذلك .. ولماذا يتركونه وحيدًا كأنه بلا أهل في ليلة زفافه بغير أن يشاركوه فرحته ولو من وراء القلب ليشرفوه أمام أسرة زوجته والناس مع أننا لم نرتكب معصية .. ولم نفعل إلا ما أحل الله ، وحاولت أن أسرِّي عنه .. لكنه ظلَّ ساكنًا .. صامتًا .. لا يبتسم .. وإن ابتسم آلمتني ابتسامته الحزينة أكثر من غيرها ، وانتهى الحفل بسلام .. ونزلنا إلى الشارع لنجري الزفة كالعادة وزفتنا سيدات الحي بالزغاريد ثم صعدنا إلى شقتنا الصغيرة وأغلقنا بابها علينا لنبدأ حياتنا الزوجية التي انتظرناها أكثر من 5 سنوات وأشرق صباح أول يوم في بيتنا الصغير وجاء الأهل والأقارب ليهنئونا .. وتقرَّح كبدي إشفاقًا عليه وأنا أراه ينظر بلهفة مكتومة إلى الباب كلما طرقه طارق ثم يخيب أمله حين يجده زائرًا أو زائرة من أقاربي وليس إخوته الذين قاطعوه وغابوا عن زفافه وعن يوم الصباحية .

 

 ومضت الأيام الأولى من زواجنا .. وسعدنا رغم الآلام بحبنا وحلمنا القديم الذي تحقق بصبرنا وكفاحنا وتمسك كل منا بالآخر ، وظل زوجي جريح القلب بسبب موقف إخوته منه .. ورأيت أن أبادر أنا بالمحاولة للتخفيف عنه وعرضت عليه أن نذهب معا لزيارة بيت الأسرة لنعيد المياه إلى مجاريها وذهبنا .. واستقبله إخوته بترحيب ولكن ليس كعريس جديد وإنما كأخ عائد بعد فترة غياب فلم يقل له أحد "أهلا يا عريس" .. أو "مبروك" أو أي عبارة من هذا النوع أما أنا فكان السلام البارد هو نصيبي .. ولم يهنئني أحد بالزواج أو يسألني عن أحوالي وبعد فترة قصيرة انتحی به بعض إخوته ثم عاد زوجي ليقول أنه سيذهب معهم إلى بيوت باقي إخوته المتزوجين ليزورهم ، وانصرف زوجي معهم وتركوني مع أخته وعمته .. وخيم الصمت على المكان وكلما حاولت الحديث معهما جاء في الرد بكلمات مقتضبة على قدر السؤال ! .. وبين فترة وأخرى ترمقني بنظرات غير معبرة .

 

وطالت الجلسة وبدأ التأفف من وجودي واضحًا عليهما .. ولولا خوفي من أن أغضب زوجي لفتحت باب الشقة وانصرفت .. ثم أخيرًا وبعد ساعتين عاد زوجي سعيدًا باستقبال إخوته الحار له وبأنهم لم يستقبلوه ببرود ولم يسألني عن حالي ولم أفاتحه بضيقي من تحفظ شقيقته وعمته معي .. وعدنا معًا وأنا أعزِّي نفسي بفرحة زوجي بعودة الوئام بينه وبين إخوته ، وبالأمل في أن تذيب الأيام تحفظ إخوته معي ولم أيأس من أن أنال ودهم أو حتى تعاطفهم معي في المستقبل فرحت أحدث شقيقته وعمته من تليفون الجيران في كل مناسبة ، وأذهب مع زوجي لإخوته وعمته في كل زيارة رغم استمرار الجفاء والتحفظ بل ونظرات الاحتقار أحيانًا .. ثم ساءت المعاملة أكثر فتارة لا يصافحني أحد الإخوة .. وفي أخرى لا يحدثني أحد كأنني غير موجودة .. فتحاملت على نفسي وسألت أخته وهي فتاة مثلي أملت أن تقدِّر موقفي : لماذا تعاملونني كأنني "جرب" أو شيء كريه لا تودون حتى النظر إليه ؟ .. فنظرت إليَّ صامتة ثم دعت عمتها وأعادت عليها ما قلت وضحكا معًا وأكدتا لي بفتور أنها مجرد تخيلات من جانبي ، لكن الجفاء والتحفظ والإهانة الصامتة استمرت كما هي حتى بدأت أسلم باليأس من محاولة كسب ودهم وأكره زيارتهم مع زوجي فسألني عن السبب فانفجرت باكية بأنه سعيد لأن إخوته قد سامحوه لكنه لا يهتم بسوء معاملتهم لي وجفائهم معي .. ورفضهم المتكرر لقبول دعواتي العديدة وحاول زوجي تهدئتي مؤكدًا لي أن الأيام سوف تداوي كل الجراح .. وأنهم يلومونه لأنه كان يستطيع الانتظار عامًا آخر أو عامين على الزواج وأنهم يتصورون أني قد "عملت له عملاً" استوليت به عليه ، وإن كثرة زياراتنا لهم سوف تلين قلوبهم في النهاية .

 


 لكن كيف ذلك وقد فشلت كل محاولات تقربي وتوددي إليهم ولم يعد في قلبي تجاههم سوى المرارة فماذا أفعل يا سيدي .. ومن يستطيع أن يقنع زوجي بأننا لا نستطيع أن نربي طفلنا وسط هذا الجو العائلي المفكك وكل أسرة تكره الآن مجرد سيرة الأسرة الأخرى وهل كان عليَّ أن أتركه بعد ارتباط دام أكثر من 7 سنوات لأن إخوته غير راضين عني بغض النظر عن عواطفنا ومشاعرنا نحن الاثنين .. 

إن حالتي ليست فريدة فهناك كثيرات مثلي تهدد التعاسة زواجهن بسبب المشاعر العدائية بين أسرتي الزوجين فماذا نفعل لكي نحمي حياتنا وسعادتنا بغير أن نغضب أحدًا ؟

 

     ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

هناك موقفان في الحياة لا غنى للإنسان فيهما عن أهله ولو كانوا غير راضين . الأول وهو الموت وفيه يستريح الإنسان من آلامه فلا يكدره فيه إن كانوا أهله قد أوفوا بحقه عليهم أم لا والثاني هو الزواج .. وفيه يتطلع الإنسان دائمًا إلى الأهل والأعزاء ويسعد بقربهم منه وينكسر قلبه بتخليهم عنه فيه ، وفضلاء الناس يلبون نداء الواجب الأسري في هاتين المناسبتين مهما كان موقفهم الشخصي السابق من صاحب المناسبة بل وإن منهم من قد يتجاورون في أمثال هذه المناسبات وهم مختلفون فيما بينهم إرضاءً لربهم ورعايةً للحقوق وحفاظًا على شكل الأسرة .

 

وواضح من رسالتك أن زوجك الشاب يتيم الأبوين .. ومع تقديري لدوافع إخوته في معارضة زواجه بحجة رعايته لأخته أو انتظاره لزواجها إلا أني لا أتصور أن معارضتهم كانت تقتصر على هذا السبب وحده .. لأن للأخت شقيقًا آخر يستطيع رعايتها ولها عمة تقوم على شئونها ولها خمسة إخوة يتحملون مسئوليتها وحتى مع افتراض أنه قد كانت لهم اعتراضات أخرى فإن كل ذلك لا يغفر لهم أبدًا غيابهم عنه في كل خطوات زواجه من خطوة البداية .. إلى يوم الزفاف الحزين الذي تركوه فيه وحيدًا حزينًا كسير النفس . إن من حق الأهل يا سيدتي أن يعترضوا على اختيار الأبناء وأن يبذلوا كل ما في وسعهم ليقنعوهم بالعدول عن اختيارهم .. لكن إذا ما تمسكوا به إلى النهاية كان من حقهم على الأهل والأعزاء ألا يتخلوا عنهم في زواجهم حتى وإن كرهوا هذا الزواج .

 

فليست هناك مناسبة كما قلت يحس فيها الإنسان بحاجته إلى وقوف الأهل إلى جواره فيها من هذه المناسبة ، وبعض الفضلاء يدركون ذلك ويتطوعون بمشاركة اليتامى ومن لا أهل لهم فرحتهم بل ومسئوليتهم في هذه المناسبة وربما ادَّعى بعضهم قرابة لا وجود لها بينهم وبين هؤلاء أمام أسرة الطرف الآخر لكيلا يفتقدوا عزة النفس في المناسبة التي يحتاج فيها الإنسان لأن يعتز بأهله . وفي إدعائهم صدقة .. وأجر عظيم !

 

فإذا كان بعض الغرباء يفعلون ذلك قربى لله فكيف بالإخوة والأهل ؟ وهل كانوا يستطيعون ذلك مع نفس الأخ وفي نفس الظروف والأبوان على قيد الحياة .. ؟ أم ترى أنهما فعلاً كما قال أمير الشعراء "هما الرحماء" وحدهم لأن قلوبهم لا تسمح لهم مهما غضبوا على زواج الأبناء بأن يتخلوا عنهم في اللحظة الأخيرة غالبًا ؟

 

لقد حدث ما حدث فإن كنت قد توقفت أمامه طويلاً فلأني أعجب أحيانًا من قدرتنا الغريبة على أن نعامل بعضنا البعض بغلظة عجيبة وقدرة أعجب على الإيلام والمجافاة . لكن هذه قصة أخرى على أية حال فإن الخلاف بين أسرتي الزوجين الذي يهدد سعادتهما خلاف قديم قدم التاريخ .. ولست أجد في قصتك مبررًا مقنعًا لترسيخ هذا الخلاف أو استمراره وليس بين الأسرتين ثأر ولا دم كما كان الحال بين أسرتي كابوليت ومونتاجيو في مأساة شكسبير "روميو وجوليت" إنما هو خلاف يمكن حله بسهولة بمجرد تسليم إخوة زوجك بأنه لا معنى لاتخاذ هذا الموقف منك بعد أن تزوجتِ شقيقهم وحملتِ منه وطرقتِ بابهم طالبةً قبولكِ عضوًا في أسرتهم لأنكِ قد صرتِ كذلك شاءوا أم أبوا ، ومن حسن المعاشرة بين الزوجين أن يحترم كل طرف أسرة الطرف الآخر وأن يسعى إلى ما يرضيه ويتجنَّب ما ينفره ويشقيه ، وأن يتبادل الطرفان العطف والتسامح واحترام المشاعر والرأي ، ولن يتحقق ذلك وكل طرف منهما يجافي أو يقاطع أسرة أسرة الطرف الآخر مهما كانت الأسباب والدوافع .

 

وفي قصتك لست أستطيع أن ألومك على تقصير في محاولة كسب ود أسرة زوجك لكني ربما أعاتبكِ على أنكِ قد سلمتِ بالفشل سريعًا .. وقبل أن تتمي العام الأول من الزواج .. في حين أنكِ صاحبة نفس طويل ولا تسلمين بالفشل بسهولة كما أن أمراض النفوس تتطلب علاجًا طويلاً وصبرًا أطول . وموقف زوجكِ السلبي اعتمادًا على علاج الأيام ليس كافيًا .. وإنما عليه أن يبذل جهدًا إيجابيًا في تصفية نفوس إخوته تجاهكِ .. وفي مطالبتهم باحترام مشاعركِ وبقبولك عضوًا كامل العضوية والحقوق في أسرتهم ، إن لم يكن رعايةً لحقك .. فرعايةً لحقه هو عليهم باعتباركِ زوجة شقيقهم .. وليس من العدل أن يعاقبكِ على ضيقكِ بجفاء إخوته لك بمقاطعة أهلكِ الذين أحاطوه بالحب والاحترام منذ البداية فإذا قبلتِ نصيحتي فإني أقترح عليكِ ألا تغلقي الباب نهائيًا مع أسرته .. وأن تضيفي لرصيدكِ عند زوجكِ محاولة أخرى بالاستجابة لرغبته في زيارتهم مع الحرص التام على ألا تمتهني نفسكِ معهم .. وألا تعرضي نفسكِ على أحد . فالحق أني لست من أنصار امتهان الإنسان لكرامته طلبًا لود العازفين عن مبادلته الود استعلاءً أو رفضًا . ولسنا نطالب أحدًا بأن يحب آخر عنوة .. وإنما نطالبه فقط باحترام مشاعره وأداء حقوقه ورد مجاملاته أما القلوب فأمرها بيد خالقها وحده .

 

وإذا كنا نقول دائمًا بأن الأيام كفيلة بمداواة الجراح فإننا يجب أن نعين الأيام على أداء مهمتها بتطهير القلوب من الكراهية والمرارات وبالاستعداد النفسي الدائم للصفح والنسيان .. ولأن العطف يورث العطف يا سيدتي في حين لا تورث البغضاء إلا البغضاء . ولأني أيضًا من المؤمنين بضرورة إعفاء الأبناء من أن يدفعوا فاتورة مراراتنا وخصوماتنا خلال رحلة الحياة لكي ينشأوا في بيئة سليمة ويستمتعوا بدفء العلاقات العائلية السليمة .. وتنجو صفحة قلوبهم البيضاء من بقع الكراهية السوداء .

 

 

فإذا كان الأمر كذلك فقد أرى لكِ أن تستجيبي لأول دعوة من زوجك لزيارة أسرته .. ولو تحملتِ ذلك على رغمكِ .. ثم توجهي لهم الدعوة لزيارتكِ في أقرب مناسبة .. فإن قبلوها .. فلسوف يمسح الزمن ما تبقى من مرارات تدريجيًا وبهدوء وإن أصروا على رفضهم قبول دعوتكِ .. وقبولكِ بينهم فلا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها .. ولتنظري ما يستطيع زوجكِ أن يفعله معهم لتحسين العلاقات ، وحتى يتحقق ذلك احتفظي معهم بحالة "السلام البارد" الذي تقتصر فيه العلاقات على أداء الواجبات الضرورية فقط حرصًا على الشكل العام . وانتظارًا لنجاح الأيام في مهمتها الصعبة .. والسلام .

  *نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر عام 1990

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي



Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات