النقطة البيضاء .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1997

النقطة البيضاء .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1997

النقطة البيضاء .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1997


إن ظنك أن لوحتك تخلو من كل نقطة بيضاء فهذا أمر غير صحيح ، وتفسيره المنطقي المفهوم هو ميل الإنسان الغريزي للرثاء لنفسه .. وارتياحه "الاكتئابي" الغريب؛ لأن يعتبر نفسه أحياناً " أتعس إنسان في الوجود" كما يتردد كثيراً على ألسنة البعض ، وكأنهم قد اطلعوا على أحوال 5 مليارات من البشر ، يعيشون على سطح الكرة الأرضية ، "ودرسوا" حياتهم ، وخرجوا بهذه النتيجة المنطقية العجيبة !.
عبد الوهاب مطاوع

أنا شاب عمري 29 عاماً ، نشأت في منزل ريفي تسكن فيه عائلة كبيرة العدد ، تضم أبي وأمي وخمسة من الأخوة أصغر مني، بالإضافة إلى أعمامي الثلاثة وزوجاتهم وأولادهم ! ، فكان البيت دائماً كمعسكر الجيش، نتسابق نحن الأطفال فيه إلى مكان الطعام ، فمن يسبق يجد لنفسه مكاناً حول صينية الطعام الكبيرة، ومن يتأخر لا يجد لنفسه موطئ قدم حولها، وعليه أن يكون من السابقين في المرة القادمة .

 

وكان " القانون " السائد في أسرتي الريفية هذه، هو أن يذهب الأطفال إلى المدرسة الابتدائية، وأن يعملوا في الوقت نفسه عملاً يشق على الرجال في الأرض الزراعية ؛ فإذا نجح الصغير في المدرسة مع ما يقوم به من أعمال شاقة، انتقل إلى السنة التالية، أما إذا رسب فلا نقض ولا إبرام، ولا مفر من خروجه من المدرسة، وتفرغه للعمل في الأرض لأنه "خائب" .

 

ولأنني نشأت وأنا أسمع الكبار يرددون هذا المنطق الغريب كل يوم، فلقد نقش في أعماقي منذ الصغر، وحاولت جاهداً ألا أتوقف تحت أية ظروف عن التعليم، وكنت أخرج من المدرسة، وأرجع للبيت وأذهب إلى الأرض .. فينقضي النهار في العمل دون أداء الواجبات المدرسية، أو أختبئ في بعض الأحيان لأؤدي الواجب، قبل أن أرجع للبيت، وكثيرا ما تعرضت للعقاب والحرمان من الطعام ، وتحملت هذا صابراً، وواصلت التعليم بإصرار غريب ؛ حتى ظهرت نتيجة امتحان الشهادة الابتدائية، فإذا بي الأول على المدرسة.

 

وعند ذلك فقط بدأت نظرة أسرتي لي تتغير بعض الشيء، وتركوني ألتحق بالمدرسة الإعدادية بالمدينة المجاورة ، وتم تخفيف الأعمال في الأرض عني بعض الشيء، وكان أبي الموظف الصغير، يرجع من وظيفته إلى الحقل مباشرة فيعمل فيه عملاً مضاعفاً ؛ حتى يعفيني أنا منه، لأن قانون الأسرة هو أن يعمل كل من في البيت في الأرض، ومن لا يعمل لا يأكل، وكذلك كانت تفعل أمي ؛ لتساعد على إعفائي من نصيبي من العمل والتفرغ للدراسة ؛ حتى حصلت على الشهادة الإعدادية، وكنت من العشرة الأوائل في مدرستي .

 

وبدأت الأسرة وقتها " تعترف " بتفوقي لأول مرة ، ولا تعترض على عدم إسهامي في أعمال الحقل . 

وفي المدرسة الثانوية ، مات أبي الطيب يرحمه الله في حادث مروع ، وحرمت من الأب الذي لم يضربني ولم يهينني مرة واحدة في حياته، وكان يعمل في الأرض بدلاً مني، وبعد رحيله عنا بعام واحد، لحقت به أمي الطيبة، وتجرعت الكأس المريرة مرة ثانية، وأنا أستعد لامتحان الثانوية العامة بعد شهر واحد، وتزلزلت بي الأرض، وخيل إليّ أنني نسيت كل ما استذكرته من قبل، وكدت أمتنع عن دخول الامتحان، إلا أنني تمالكت نفسي في النهاية، وتذكرت مسئوليتي عن إخوتي وأخواتي، الذين اعتبرت نفسي أبا لهم بعد وفاة أبوينا، ودخلت الامتحان، ونجحت بمجموع أهلني للالتحاق بكلية الهندسة .

 

وتخرجت بعد 5 سنوات ، ولم أوفق في العمل معيداً بالكلية نفسها كما كنت أرجو لنفسي، وسافرت بعد التخرج للعمل في دولة عربية، وكنت من قبل بداية دراستي الجامعية أحب فتاة من أبناء بلدتي حباً صامتاً، لم أفصح عنه لاعتقادي أن ظروفي وظروف إخوتي بعد رحيل أبوينا، لا تسمح لي برفاهية الحب والتطلع للارتباط . 

وخلال عامي الثاني في الغربة، علمت فجأة أن هذه الفتاة قد تم عقد قرانها بين يوم وليلة وأنها ستزف إلى عريسها خلال شهور، ولم أحزن كثيراً عليها ؛ لأنني قد تعودت على أن تحرمني الحياة من كل شيء أحببته، فضلاً عن أنني لم أكن أعرف .. هل كانت تبادلني الحب الصامت، أم لا تشعر بي .

 

ثم رجعت إلى مصر في الإجازة التالية، وذهبت إلى كليتي لأزور أحد أصدقائي المعيدين، فإذا بي ألتقي بها بالمصادفة ، وإذا بها تصارحني بأنها قد أحبتني طوال السنوات الماضية، وانتظرتني طويلاً ، حتى يئست مني، وأنها على استعداد لأن تحصل على الطلاق قبل الزفاف وترتبط بي .

فمادت بي الأرض وتعجبت لماذا تعاندني الحياة على هذا النحو .. ولماذا لم تسمح لي الظروف بأن أعرف أنها تبادلني الحب، إلا بعد عقد قرانها .. وكيف أسوغ لنفسي أن أشجعها على فك ارتباطها بمن ارتبطت به، وأنا الإنسان المتدين الذي يكره أن يسرق ما ليس له ، وسألتني الفتاة عما سأفعل معها؛ فطلبت منها أن تترك الأمور للمقادير، مؤكدا لها أنه لو كان مقدورا لنا أن يجتمع شملنا في حياة واحدة، فلسوف يجمعنا الله ، إذا أراد النا ذلك ولو في يوم زفافها .

 

ورجعت إلى عملي ، وبعد أسابيع أخرى علمت بزواجها بمن ارتبطت به، فبكيتها ليل نهار ثلاثة شهور متواصلة، وحاولت أن أتناساها وأن أبدأ مشروع خطبة تقليدية حين أرجع في الإجازة، وأقدمت على ذلك بالفعل أكثر من مرة طوال ثلاث سنوات بعد زواج فتاتي التي لم أرها بعد ذلك أبدأ، ففشلت كل محاولاتي ، ووجدت نفسي لا أشعر بأي ميل تجاه أية فتاة رشحها لى الأهل والأصدقاء.

والآن هناك فتاة أعرف أنها تحبني في صمت منذ سنوات، كما أحببت أنا فتاتي في صمت بضع سنوات، ولكني لا أحب هذه الفتاة ولا أكرهها أيضا .. فهل أتزوجها استمرارا لإيماني بأن الحياة لا تعطيني أبدا ما أريده وإنما ما تريده هي .. أم أبدأ مشروع خطبة تقليدية أخرى حين أعود إلى بلدي في الإجازة ، وسنوات العمر تجري ، ومجتمع الغربة لا يتيح لي الالتقاء بفتيات لكي أرتبط بواحدة منهن على أساس عاطفي .. وأخيراً أريد أن أسألك : لماذا تقسو علينا الحياة هكذا؛ فتحرمنا مما يريده القلب دائماً ؟ وهل رأيت من قبل "لوحة حياة" سوداء كمثل لوحتي هذه على مدار 29 عاماً ، بلا أية نقطة بيضاء في سوادها؟

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

 

أما وإنني قد "رأيت" من قبل " لوحات حياة " مثل لوحتك ، أو أشد جهامة منها .. فلقد رأيت ولمست وشهدت من هذه اللوحات ، ما تعتبر لوحتك هذه بالقياس إليها لوحة فضية اللون، وليست سوداء كما تظن .

 

وأما أن لوحتك تخلو من كل نقطة بيضاء فهذا أمر غير صحيح ، وتفسيره المنطقي المفهوم هو ميل الإنسان الغريزي للرثاء لنفسه .. وارتياحه "الاكتئابي" الغريب؛ لأن يعتبر نفسه أحياناً " أتعس إنسان في الوجود" كما يتردد كثيراً على ألسنة البعض ، وكأنهم قد اطلعوا على أحوال 5 مليارات من البشر ، يعيشون على سطح الكرة الأرضية ، "ودرسوا" حياتهم ، وخرجوا بهذه النتيجة المنطقية العجيبة !

 

يا صديقي الشاب إن كنت قد جاهدت جهاد الأبطال ؛ لكي تواصل تعليمك في بيئة لا تشجع على استمرار التعليم ، وفقدت أبويك الطيبين خلال رحلة الحياة وآلامها ، فلقد حفلت "لوحتك" إلى جانب هذه الظروف المؤلمة بالكثير من النقط البيضاء والمضيئة ، أولاها هي قصة هذا الكفاح نفسه من أجل التعليم وسط أصعب الظروف ، وعطف أبويك عليك ، وتشجيعهما لك على مواصلة التفوق والتعليم ، ولو أديَّا هما عنك نصيبك من العمل الشاق في الأرض ، ونجاحك في النهاية في الالتحاق بكلية مرموقة هي كلية الهندسة ، وتخرجك فيها ، وعملك كمهندس بدولة عربية ، ونجاحك في هذا العمل واستمرارك فيه حتى الآن .. فضلاً عن "التاج الذهبي" ، الذي لا يراه على رؤوس الأصحاء إلا المرضى والمبتلون ، أفليست هذه كلها نقاطاً بيضاء لامعة في اللوحة ، التي تظنها سوداء قاتمة !

 

ثم ماذا عن الحب الذي حرمت منه ؛ لأن الحياة قد "اعتادت" ألا تعطيك ما يهفو إليه قلبك ، كما تقول ! ومن كان المسئول عن ضياع هذا الحب من بين يديك ، وقد كان في مقدورك الفوز به والدفاع عنه ، لو كنت قد أقدمت على خطوة إيجابية واحدة في الطريق إليه ؟ إن فتاتك التي أحببتها في "صمت" بضع سنوات ، لم ترتبط بغيرك إلا بعد عامين من تخرجك أنت وعملك بالخارج ، فماذا أعاقك عن الإقدام على الارتباط بها خلال هذه الفترة ؟ ولماذا ننتظر نحن دائماً حتى ينبهنا الآخرون إلى قيمة ما كان معروضاً أمامنا ، ولم نتلهف للفوز به ، إلا بعد أن خطا نحوه غيرنا ؟

 

إنك لم تحزن على هذه الفتاة ، حين علمت بزواجها وأنت في الغربة ، كما تقول ، ولكن الأقدار هيأت لك أن تلتقي بها ذات يوم ، وأن تعرف رغبتها فيك ؛ فماذا فعلت حين علمت بذلك ؟ وماذا كنت تنتظر من هذه الفتاة أن تفعل ، وقد طالبتها أنت بأن تدع الأمور تجري في أعنتها ، وقد يجمعكما الله إذا قدر لكل منكما أن يلتقي بالآخر في حياة مشتركة ؟

إن ارتباط شخصين بعاطفة قوية ورغبة كل منهما الصادقة في الأخر ، مبرر كاف لأن يسعى كل منهما لأن يزيل العقبات التي تحول دون اجتماع شملهما ، فإذا كنت قد رأيت شبهة حرمة دينية في ذلك - استنادا إلى الحديث الشريف ، الذي ينهانا عن أن يخطب المرء " على خطبة أخيه حتى يذر " أي يدع خطيبته بإرادته هو - فإن الوضع هنا مختلف .. لأن المقصود بالحديث الشريف - في تقديري - هو ألا تنافس أخاك على طلب يد فتاة سبقك آخر إلى خطبتها ، وليس يدفعك إلى طلبها سوى ما دفعه هو إليها ، وهو الطموح إلى مصاهرة أبيها وأسرتها .. وليس لكل منكما رغبة خاصة فيها لشخصها وحده أو سابق ارتباط بها ، فتفسد عليه الأمر بتقدمك بطلب يدها ، وهي مخطوبة إليه ، أو وهو قد طلب يدها ، ولم يتلق بعد.

 

ولقد كان الناس يتصاهرون بالأحساب و الأنساب ، فكلا الخطيبين سواء بالنسبة للفتاة المرغوبة ، ولا رأي شخصي لها في أحدهما أو كليهما ، والتفاضل بين المتقدمين إليها يكون بالأنساب والأحساب و المال ، وظهور الخطيب الأخر هنا يفسد الأمر بالفعل على أخيه ، الذي سبقه إلى التقدم لخطبتها ، ويضعه موضع المقارنة معه ، وهذا هو المنهي عنه .

 

أما أن تكون الفتاة راغبة فيك وأنت راغب فيها ، وتعرض عليك فك ارتباطها بمن ارتبطت به ؛ لأنها تحبك أنت ولا تحبه .. فإن الحديث الشريف الآخر الذي يقول " لم نر للمتحابين مثل النكاح " هو الأصح بالإتباع هنا ، لأنه يصحح الأوضاع ، ويعفي ذلك " الآخر" من أن يتجرع تعاسة الارتباط بمن لا تحبه هو وتحب غيره ، كما أنك لم تكن – في كل الأحوال – لتتقدم إلى هذه الفتاة ، إلا بعد أن تحل هي مشكلتها مع من ارتبطت به ، ولم تكن خسائره لتصبح كثيرة في مثل هذه الحالة ، وهو لم تجمع بينه وبينها حياة مشتركة ، ولم ينجب منها أطفالاً تطالبها حقوقهم عليها ، بأن تذر هي كل حديث عن مثل هذه الأمور العاطفية ، بعد أن ارتبطت بأبيهم ، وجاءت بهم للحياة .

 

فأين عناد الحياة لك وإصرارها على أن تحرمك من كل ما أردت ؟ إنني أطالبك بأن تهون الأمر على نفسك ؛ لأن أغلب ظني هو أن هذه الفتاة لم تكن تحبك في صمت طوال السنوات الماضية .. وإنما كانت "تأمل" فيك فقط ؛ خاصة بعد تحسن أحوالك الاجتماعية والمادية ، وفارق كبير بين الحب القوي الحقيقي وبين "الأمل" السلبي الكامن ، الذي لا يعبر عن نفسه ، إلا في لقاء تم بالمصادفة ، وكان من الممكن ألا يتم ، وألا تعرف أنت حتى به .

 

ولو كان ما تحمله لك هذه الفتاة هو الحب الحقيقي ، وليس مجرد الأمل الوردي في شاب مقبول وظروفه أفضل ممن ارتبطت به على الأقل من ناحية القبول النفسي به ، لما أكتفت منك بهذا الوعد القدري الغامض ... ولتمسكت بك وكافحت للفوز بك ، وحثتك على وعدها بالتقدم إليها .. بل ولأقدمت حتى بغير أن تحصل منك على هذا الوعد على فك ارتباطها بالآخر ، لتغريك بالتقدم إليها .. أو لتشعرك بمسئوليتك الأدبية غير المباشرة عن هذا التطور في حياتها .

 

وهي لم تفعل ذلك على أية حال .. ولا يدري أحد – حتى أنت- هل كنت سترغب فيها حينذاك ، أم ستجد لنفسك من المبررات ما يصرف رغبتك عنها .

 

فهل تتوقف الحياة؛ لأنك لم ترتبط بهذه الفتاة ، التي لم تتخذ أنت خطوة إيجابية واحدة للفوز بها دون غيرها ؟

 

إن الحياة لا تتوقف في كل الظروف ، ومياه النهر لا ترجع إلى منابعه أبداً ، وإنما تواصل سيرها الحتمي إلى المصب ، ولو كانت النفس تحظى بنيل كل ما تهفو إليه، لما كانت جنان النعيم وعداً إلهيّاً للسعداء والموعودين ، فتخلص من هذه النغمة الاكتئابية ، وارض عن نفسك وعن حياتك وعن كفاحك البطولي للتفوق والدراسة والعمل ، وتطلع بقلب يخفق بالأمل إلى من حولك ، ولسوف تجد كثيرات بينهن يسعدن بك .

 

ولو أنك قد خيرت في النهاية إذا لم يخفق قلبك لفتاة بعينها ، بين الارتباط بمن تحبك هي الأخرى في "صمت" ، وبين التقدم إلى فتاة لا تعرفها ولا تعرفك ، وليس لأحدكما عند الآخر أي رصيد عاطفي سابق ، وقد تنمو مشاعر الحب بينكما في المستقبل ، وقد تموت بذوره في جوف الأرض ، لنصحتك على الفور بأن ترتبط بمن تحبك – منذ سنوات – حتى ولو كانت مشاعرك حيادية تجاهها حتى الآن، لأنك "الفائز" في كلا الحالين يا صديقي سواء نبتت بذور حبها في قلبك بعد الارتباط ، أم لم تنبت ، ولأن هذا هو الارتباط الأقل تعرضاً للفشل من غيره ، لأن المرأة إذا كانت هي الطرف المحب في علاقة الزواج ، أو الطرف الذي يحب أكثر .. فلسوف تصنع المستحيل لكي ينجح زواجها ، وتحميه من كل العواصف والأنواء ، حتى ولو لم يكن زوجها يحمل لها القدر نفسه من الحب ، أو حتى لو استمرت مشاعره " عائلية " متحفظة تجاهها للأبد . 

نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 1997
شارك في إعدادها / أحمد محمود
راجعها وأعدها للنشر/ نيفـين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات