الظل الظليل .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003

الظل الظليل .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003

الظل الظليل .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003


ومن الناس من يعيشون في الحياة كالشجرة المثمرة وارفة الظلال تفي على من حولها بالظل وحلو الثمر.. ومن أعظم آيات التوفيق في الحياة أن تهب الأقدار الإنسان شريكة للحياة من هذا النوع من البشر الذين يعيشون بين الناس كعود الريحان ينشر الشذى الطيب ويكتفي بالقليل من الهواء والماء، وأن تجمع كذلك بين النفس الطيبة وبين صدق العاطفة وثرائها‏.‏ 
عبد الوهاب مطاوع


كنت أفكر في الكتابة إليك منذ سنوات وقد شجعتني على الكتابة مأساة صاحب رسالة (‏السهام النارية‏)‏ التي نشرت منذ أسابيع فأردت أن أصحبك إلى حديقة غناء وارفة الظلال لتنعم معنا بظلها الظليل بعيدا عن مشاكل الهجر‏,‏ والخديعة والطلاق ومشاكل الأزواج والزوجات والأبناء‏!..‏
فأنا رجل تجاوزت السبعين من عمري ومتزوج منذ ثلاثة وأربعين عاما ومازلت أعيش شهر عسل متصل مع زوجتي ومازلنا ننعم بدفء الحياة العائلية وكأننا في مستهل حياتنا الزوجية‏.‏
إن حياتي وحياتها نغمة حلوة في لحن الوجود‏,‏ وبسمة عذبة في فم الزمان‏!‏ ونحن بفضل الله أسعد زوجين وأهنأ حبيبين وأصدق صديقين وأخلص عاشقين حتى ونحن في خريف العمر الذي نحسه ربيعا متجددا‏!!‏
لقد كان زواجي تقليديا‏,‏ فهي ابنة عم صديقي الذي عرفته منذ أكثر من نصف قرن ومازلنا نتذوق معا عطر الصداقة الندي‏,‏ كما أنها أيضا شقيقة زوجته‏,‏ وقد تعرفت عليها وعلى أسرتها خلال دراستي الجامعية وأعجبت بها‏,‏ ولم يكن بوسعي التقدم لخطبتها‏,‏ لكن صديقي استطاع بمهارته وقدرته أن يحجزها لي دون إعلان رسمي‏.‏ رغم كثرة خطابها والراغبين في الزواج منها‏.‏
وكانت تعمل مدرسة‏..‏ فاستقالت من عملها بعد إنجابنا الابن الأول‏..‏ وكان هذا اتفاقي معها في أثناء فترة الخطبة ووافقت بلا تردد‏..‏ ورزقني الله والحمد لله بثلاثة أبناء وابنة واحدة هي تفاحة القلب وريحانة العمر‏!..‏
وبعد ثلاث سنوات من الزواج عاش معي شقيقاي خلال المرحلة الثانوية وأحدهما الآن طبيب ناجح في تخصصه والثاني موجه للغة الإنجليزية‏,‏ كما عاش معي أيضا ابن شقيقتي وهو الآن في كندا بعد حصوله علي الدكتوراه‏,‏ وقامت زوجتي برعايتهم جميعا بكل الود والحب والإخلاص‏,‏ وما ضاقت بهم ولا تبرمت منهم يوما ولا أثارت مشكلة بسبب وجودهم معنا‏,‏ ولم يكن عندنا يومها من الأجهزة الحديثة إلا بوتاجاز المصانع الحربية ذو الشعلتين ونصف الشعلة‏..‏ بل زوجة شقيقي الطبيب تعاقدت على العمل بإحدى الدول العربية وتركت لها طفلها البالغ من العمر أقل من ثلاث سنوات فعاش معنا عاما كاملا من أحلى سنوات عمره وعمرنا أيضا‏!..‏
وعين شقيقي الثاني مدرسا بالمدينة التي أسكن فيها وعاش معنا بضع سنوات حتى زواجه‏!..‏ وكل هذا في ترحاب صادق وود عميق وبلا تأفف أو ضجر أو حتى شكوى هامسة بيني وبينها‏!!‏ فلا عجب أن عاشت زوجتي ملكة متوجة في عائلتي‏,‏ فقد أغدقت عليهم من صفوها وحبها الكثير فأحبها الجميع وأحبت الجميع‏.‏ تشاركهم وهي سعيدة أفراح بناتهم وأبنائهم وتبيت الليالي في بلدتي لتعد لهم متطلبات الأفراح واشتهرت بين الجميع بزغرودتها العذبة الطويلة‏!..‏ وتعود مرضاهم وتشاركهم أحزانهم وتواسيهم في كل ما يعترض حياتهم من مشاكل وعلاقاتها بجيرانها وثيقة‏,‏ فهي موضع أسرارهم واحترامهم وتتبادل معهم المجاملات في كل المناسبات‏!..‏ وقد حدث أن مرضت أمها فتحملت زوجتي أعباء طلبات أسرة أبيها‏,‏ فكانت تطهو الطعام وتسرع به إلى والديها بعد عودتي من العمل ولا تعود إلا بعد تناول الطعام وشرب الشاي وغسل الأطباق وبعد أن يأويا للفراش للاستراحة‏,‏ وتعود لي وللأبناء بعد عودتهم من المدارس لنتناول معا طعام الغداء‏,‏ وظلت على هذا المنوال بضع سنوات رغم أنه كان بالمدينة شقيقتان لها ولكنها تحملت وحدها هذا الواجب المقدس وهي سعيدة ونحن أيضا سعداء‏,‏ كما عاش معنا والدها بعد وفاة والدتها قرابة خمس سنوات عاشها معنا كالنسمة الرقيقة.. حتى أننا ما كنا نحس بوجوده معنا وكثيرا ما اختلفنا شأن كل الأزواج, لكن هذا كان يحدث بعيدا عن حجرة الأبناء, وكان الخلاف لا يستمر سوى بضع ساعات أو بضع دقائق ويتم الصلح, ونحن لا ندري من الذي بدأ الخصام ومن الذي بدأ الصلح.. فمجرد كلمة صافية أقولها أو تقولها هي كافية ليذوب كل شيء وكأن شيئا.

 

ولقد رأيت أن أكتب هذه الكلمات الأكرم بها زوجتي وأشكرها على كل ما قدمت لي طوال 43 عاما.. فهل ترى ذلك كثيرا عليها.

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

 بل إن من واجبك أن تشهد لزوجتك هذه الشهادة الطيبة تحية لعشرة 43 عاما من الصفاء والمودة والظل الظليل الذي أفاء عليك وعلى كل من اقترب من حياتكما على مر السنين. فهي شهادة حق كتمانها إثم.. وإعلانها شكر للعلي القدير على نعمته وتوفيقه.. وإقرار الشريكة الحياة بدورها المهم في الحياة وعطائها وجميل رفقتها. ومن الناس من يعيشون في الحياة كالشجرة المثمرة وارفة الظلال تفي على من حولها بالظل وحلو الثمر. وفي الحديث الشريف أنه يدخل الجنة أقوام أفئدتهم كأفئدة الطير أي في الرقة والطهارة.. ومن أعظم آيات التوفيق في الحياة أن تهب الأقدار الإنسان شريكة للحياة من هذا النوع من البشر الذين يعيشون بين الناس كعود الريحان ينشر الشذى الطيب ويكتفي بالقليل من الهواء والماء‏,‏ وأن تجمع كذلك بين النفس الطيبة وبين صدق العاطفة وثرائها‏.‏ والأديب الفرنسي جي دي موباسان يقول لنا إنه حين يتحاب اثنان فليس يسعدهما شئ أكثر من المنح والعطاء‏..‏ فالمحب يعطي كل شئ من أفكاره وحياته وجهده وكل ما يملك ويشعر بلذة المنح أكثر مما قد يشعر المحبوب بلذة الأخذ‏.‏
ورعاية زوجتك الفاضلة لكل من استظل بظلها من أهلك أو أهلها دون تبرم إنما هو عطاء يتفق مع طبيعتها السمحة المعطاءة‏..‏ ويصب في هدف إسعاد شريك الحياة‏..‏ والنهوض بلا تقاعس بالواجب الإنساني‏..‏ ولابد أنها قد جنت ثمار هذا العطاء على مر السنين حبا ووفاء واحتراما من الجميع ولست أريد أن أنهي تعليقي بغير أن أشير إلى انك لابد أنك قد أسهمت بحسن عشرتك لها وتقديرك لعطائها واعتزازك به وبها في حثها علي تقديم المزيد منه على الدوام‏..‏ ذلك أن افتقاد التقدير يثبط الهمة ويثير الإحباط في نفس الشريك ويشكك في جدوى العطاء والإخلاص‏,‏ وقديما قال الأديب العظيم مصطفى صادق الرافعي إنه لا يصح الحب بين اثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر‏:‏ يا أنا‏!‏
وقال الشاعر الألماني الكبير جوته إنه إذا كان الزوج وفيا مخلصا عطوفا رقيقا‏,‏ فإن حبه يظهر في وجه زوجته الباسم المشرق السعيد‏!‏فهنيئا لك هذه العشرة الجميلة الطيبة‏..‏ وشكرا لك على رسالتك‏.



نشرت عام 2003 بجريدة الأهرام باب بريد الجمعة
 راجعها واعدها للنشر / نيفين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات